قراءة في كتاب -نقد الليبرالية-


صلاح الدين ياسين
2023 / 3 / 26 - 20:47     

كتاب من تأليف الطيب بوعزة، الكاتب والباحث المغربي، صدر في العام 2013 عن تنوير للنشر والإعلام، والذي عُني فيه بتقديم نقد شامل للإيديولوجيا الليبرالية من حيث مواضيعها وقضاياها الأساسية. ولعل ما حفزه على ذلك هو فشو وذيوع مقولات "نهاية التاريخ" التي يروجها أتباع ذلك المذهب - لا سيما في أعقاب انهيار المعسكر السوفييتي ونهاية الصراع الإيديولوجي الذي وسم حقبة الحرب الباردة - ومؤداها أن الليبرالية هي آخر مراحل التطور التاريخي، إذ لا يمكن تصور وجود بديل مستقبلي خارج منظومتها. على أن الكاتب ينبه إلى أن نقده لليبرالية لا يتغيا شرعنة الاستبداد وإشاعة طرح معاد للحرية، بقدر ما يبغي تعرية عيوبها ونقد مزاعمها ومسلماتها الإطلاقية. وهكذا انصرف الباحث المغربي إلى مساءلة الليبرالية في شتى أبعادها السياسية والاقتصادية والأخلاقية، متوسلًا بمقاربة منهجية متكاملة (معجمية، تاريخية، نسقية...):
محددات النظرية الليبرالية السياسية
أحال مؤلف الكتاب، في معرض تَنَاوله لمرتكزات الرؤية الليبرالية السياسية، إلى ثلاثة نماذج نظرية لثلاثة مفكرين من رواد الفكر الليبرالي السياسي، ونعني بذلك تحديدًا نيكولا ميكيافيللي، وجون لوك، ومونتيسكيو، إذ أن هذا الاختيار المحسوب يُعزى، في تقدير الكاتب، إلى أن كل مفكر من هؤلاء أسهم في بلورة محدد من المحددات المفتاحية الناظمة لليبرالية السياسية، والتي يمكن حصرها على النحو التالي: الفصل بين السياسة والأخلاق المثالية، الرؤية الذرية للوجود الاجتماعي، تحرير الفرد المالك من استبداد السلطان السياسي.
وفيما يتعلق بالمفكر الإيطالي نيكولا ميكيافيللي (1469-1527)، فإنه لا يجمل بنا، كما يذهب إلى ذلك الكاتب، اختزال نتاجه الفكري في كتابه "الأمير"، إذ لا مندوحة من استحضار متنه الآخر الموسوم ب "أحاديث"، بحسبانهما نصين متكاملين لا متناقضين، بحيث يجسمان المنظور الكلي للنظرية السياسية الميكيافيللية. ففي مؤلفه "الأمير"، جنح صاحب مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" إلى المنافحة عن "استبداد مؤقت"، بما هو شرط عملي ضروري لتوحيد إيطاليا في دولة وطنية حديثة، وإنهاء حال الانقسام والفرقة التي كانت تتخبط فيها آنئذ، وهي الغاية التي لا تملك أن تتوسل بوسائل أخلاقية صرفة، كما يرى ميكيافيللي، بقدر ما تتطلب وجود حاكم قوي في وسعه تجسيدها على أرض الواقع. أما في كتابه "أحاديث"، يتمثل صاحبنا الدولة (الموحدة) بعد قيامها واستتبابها، دولة جمهورية تنتظم وفق مبدأ الحرية لا الاستبداد.
وهكذا فقد أرسى المفكر الإيطالي نموذجًا نظريًا قوامه الفصل بين السياسة والأخلاق كمحدد رئيسي لليبرالية السياسية، وهو النموذج الذي ما يزال محتفظا براهنيته في سياقنا المعاصر، ذلك أن السياسة، كما نعاينها في واقعنا، لا تنضبط لمُثل أخلاقية فضلى، بمقدار ما هي مشدودة إلى إغراء المصلحة والمنفعة.
أما بالنسبة لجون لوك (1632-1704)، فإن إسهامه المحوري في النظرية السياسية الليبرالية، يكمن في بلورته ل "رؤية ذرية" للوجود الاجتماعي، تقارب المجتمع من حيث هو "جمع من الأفراد"، الأمر الذي يشرعن للنزعة الفردانية المتطرفة الشارطة للفلسفة الليبرالية، ناهيك بدفاعه المستميت عن الحق في الملكية الخاصة، التي اعتبرها عاملًا أساسيًا في الانتقال من المجتمع الطبيعي إلى المجتمع السياسي المنظم. وصولًا إلى مونتيسكيو (1689-1755)، الذي ذاع صيته بفضل نظريته حول "الفصل بين السلطات"، والتي مفادها أن توزيع القوة السياسية بين السلطات الثلاث هو الضمانة الفعلية لدرء خطر الاستبداد، ومن ثم كفالة الحرية السياسية. بيد أن المفكر الفرنسي، في نظر الكاتب، قد انشغل أساسًا بتحرير الفرد المالك للقوة الاقتصادية (وسائل الإنتاج) من بطش السلطة السياسية، لا الفرد الإنساني بالمدلول الواسع للكلمة، الشيء الذي يُبرز أن الليبرالية هي إيديولوجيا الطبقة البرجوازية بامتياز.
الليبرالية الاقتصادية وتشييء الإنسان
عرج الكتاب على أبرز النظريات الاقتصادية المقترنة بالمذهب الليبرالي، بدءًا من المذهب الفيزيوقراطي الذي نشأ في فرنسا إبان القرن 18، واعتنق نزعةً معاديةً للتصنيع، فيما انتصر للأرض ونمط الإنتاج الزراعي كمصدر للثروة. وبرغم مناهضة الفيزيوقراط للواقع المتولد عن الثورة الصناعية، تكمن ليبرالية هذا المذهب في تمجيد الملكية الخاصة ورفض تدخل الدولة في الاقتصاد.
مرورًا بآدم سميث (1723-1790) مؤسس علم الاقتصاد السياسي الحديث، وصاحب كتاب "ثروة الأمم"، الذي دافع بضراوة عن حرية النشاط الاقتصادي وعدم جواز تدخل الدولة فيه، بزعم وجود قانون طبيعي يضبط توازن وانتظام السوق الاقتصادية. وفي نظر سميث، فإن العمل هو مصدر الثروة والقيمة، ولذا نادى بالتقسيم التخصصي للعمل لزيادة الإنتاج، كما أعلى من شأن الاستثمار بوصفه محركًا أساسيًا للتنمية الاقتصادية، بحيث شجع على ادخار المال من أجل استثماره. وصولا إلى الاقتصادي توماس مالتوس (1766-1834)، الذي ذهب إلى أن النمو الديموغرافي المفرط للسكان يعيق التنمية الاقتصادية، لكون أن وتيرته تتجاوز نمو موارد العيش، وهي الرؤية الاقتصادية التي ما انفكت توجه تفكير النخب الليبرالية الاقتصادية إزاء دراسة أسباب التخلف الاقتصادي بالدول النامية تحديدًا.
كما أضاء الكاتب على النظرية النيوليبرالية أو "الليبرالية الجديدة" التي تؤطر واقعنا الاقتصادي المعاصر، بالإحالة إلى ظروف نشأتها في سبعينيات القرن الماضي تزامنًا مع الأزمة النفطية، إذ رأت أن الأزمة إياها لا ترجع فقط إلى ارتفاع سعر النفط، وإنما إلى النفقات الباهظة التي تُصرف من ميزانية الدولة لصالح خدمات الرعاية الاجتماعية، إذ عملت النيوليبرالية على إحياء المبادئ المؤسسة لليبرالية الكلاسيكية، مناديةً بتحرير النشاط الاقتصادي من تدخل الدولة، والحد من نفقات الدولة على الخدمات الاجتماعية، لتنسف بذلك مكتسبات الحقبة الكينزية في إطار ما كان يسمى ب "دولة الرفاه". وعطفا على ذلك، فإن النيوليبرالية ستتغذى لاحقا من انهيار الكتلة الاشتراكية وبروز العولمة الداعية إلى فتح الحدود أمام حرية تنقل السلع والبضائع.
وبقطع النظر عن التمايزات بين المذاهب الليبرالية المختلفة من حيث تنظيرها للواقع الاقتصادي، فإن جوهر الرؤية الليبرالية الاقتصادية هو النزوع إلى تشييء الإنسان واختزاله إلى محض كائن اقتصادي - استهلاكي، شاغله الأساسي هو اللهاث وراء الاستهلاك والربح المادي، وهي بذلك تُهمل كل ما يمت بصلة إلى الروح، والمشاعر الإنسانية النبيلة.
علاقة الليبرالية بالحرية والأخلاق
بالرغم من أن الفلسفة الليبرالية يُحسب لها، أقله من الناحية النظرية، تعميق الوعي بقيمة الحرية ووجود شخصية متميزة للفرد بحسبانه قيمةً في حد ذاته، فإن ذلك لا يستقيم مبررًا لاختزال مفهوم الحرية في الليبرالية، ذلك أن الوعي بالحرية متأصل في الكينونة الإنسانية، وسابق لنشأة المذهب الليبرالي، في رأي المؤلف. والواقع أن ليبرالية القرن 19 على وجه التحديد، في صيغتها الاقتصادية، قد أفرغت قيمة الحرية من محتواها الفعلي، حين حولتها إلى أداة لتبرير استبداد الرأسمال، بتعظيمها للمنفعة الشخصية الذاتية، وتقديسها لمؤسسة الملكية الخاصة.
أما فيما يتصل بعلاقة الليبرالية بالأخلاق، يشير مؤلف الكتاب إلى أن الليبرالية هي مذهب غير أخلاقي، لما ينطوي عليه من نزعة فردانية متطرفة تتنكر لأي التزام أخلاقي إزاء الصالح العام للمجتمع. ولعل أظهَرَ شاهد على فقر الحس الأخلاقي لليبرالية المذهب النفعي لرائده جيرمي بنثام، الذي لا يتورع في التوكيد على أن المبدأ الأخلاقي الوحيد الذي ينبغي أن يسود هو مبدأ المنفعة الشخصية، واللذة من حيث هي محدد للسلوك الإنساني. كما أن زعم الليبرالية بالتزامها موقف الحياد الأخلاقي، في تقدير الكاتب، لهو دليل على عدم بلورتها لرؤية أخلاقية متماسكة.