بعض الملاحظات حول المنهج الجدلي


خليل اندراوس
2023 / 3 / 24 - 23:31     


الجدلية او ديالكتيك في الفلسفة الكلاسيكية هو الجدل او المحاورة تبادل الحجج والجدال بين طرفين دفاعا عن وجهة نظر معينة، ويكون ذلك تحت لواء المنطق.

كلمة ديالكتيك، التي نترجمها عربيا " جدلية"، مشتقة من الفعل اليوناني dialegein الذي يعني تحديدا الكلام عبر المجال الفاصل بين المتحاورين كطريقة استقصاء وضعها زينون الايلي، قبل أن تستكمل شكلها على يد أفلاطون.

وهنا أذكر بأن الفضل يعود الى الفلاسفة اليونان في البدء بتكوين الجدلية. فقد تصوروا الطبيعة ككل. وكان هيراقليط يُعلم الناس أن هذا الكل يتحول. فكان يقول لا ندخل قط في نفس النهر مرتين. كما يحتل نضال الاضداد عندهم مكانة كبيرة ولا سيما عند أفلاطون الذي يشير الى خصب هذا النضال. اذ أن الاضداد يولد كل منهما الآخر. (نجد أروع مثال على الجدلية الافلاطونية في احدى محاوراته الشهيرة وهي محاورة فيدون).

وهنا بودي أن أشير بأن المؤرخ والفيلسوف ومؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون طور المنهج الجدلي في التعامل مع النصوص التاريخية لتحميصها وتجريدها من الأساطير والخرافات بأعمال العقل والمنطق ومقارعة الرواية وبالرواية والحجة. واستمر هذا الفهم سائدا بشكل عام في العصر الوسيط، حيث كانت الجدلية أو الديالكتيك تعني المنطق الشكلي (أي ذلك المستوحى من تحليلات أرسطو)، وقد كانت مسجلة ضمن الـ Trivium الجامعي، أي خارج ما كان يصطلح على تسميته بالفلسفة، مرافقة للنحو والصرف وعلم البلاغة.

ونجد عند أكبر مفكري العصر الحديث ولا سيما ديكارت وسبينوزا أمثلة رائعة على النهج والتفكير الجدلي.

وهنا اريد أن أتطرق لما تعنيه كلمة "المنهج". فكلمة المنهج تعني الطريق الذي يؤدي بنا الى الهدف. ولقد درس كبار الفلاسفة أمثال ديكارت وسبينوزا وهيغل قضايا المنهج لاهتمامهم باكتشاف أكثر الوسائل عقلانية لبلوغ الحقيقة.

والماركسيون الذين ينظرون الى الواقع وجها لوجه فيتخطون المظاهر المباشرة عندهم أهمية كبرى للمنهج. ذلك لأن المنهج العلمي هو المنهج الوحيد الذي يتيح لهم تكوين هذه النظرة العلمية الفلسفية الثورية الى العالم والتي هي ضرورية لإتمام عملية التغيير الثورية.

وشرحي لكلمة منهج هي لكي أوضح بأن الطريق – المنهج الجدلي المادي هو الذي يوافق النظرة العلمية الى العالم، والمنهجية الجدلية الديالكتيكية الماركسية تسمح بمراجعة الماضي، ودراسة الحاضر ورؤية المستقبل علميا ثوريا تقدميا وذلك لأنها تجمع في ذاتها عضويا مكونين أساسيين: الأول استخدام الجدل (الديالكتيك) المادي، الفهم المادي – الديالكتيكي للعلمية التاريخية، وثانيا البحث المعين للعملية التاريخية ذاتها. فبدون أي واحد منهما لا يمكن أن يكون وجود لنظرية المجتمع المقبل الماركسية العلمية حقا وفعلا.

المنهج الجدلي الديالكتيكي المادي الماركسي ينظر الى الأشياء والمعاني الى المجتمع الإنساني والى الطبيعة في ترابطها بعضها بالبعض وما يقوم بينها من علاقة متبادلة، وتأثير كل منها على الآخر. وما ينتج عن ذلك من تغيير كما ينظر اليها عند ولادتها ونموها وانحطاطها. (انجلز: ضد دوهرنج – ص 392).

وهذا المنهج الجدلي يتعارض في كل ناحية مع الميتافيزيقا، وليس ذلك لأن الجدلية لا تقبل أي سكون أو فصل بين مختلف جوانب الواقع بل هي ترى في السكون جانبا نسبيا مع الواقع، بينما الحركة مطلقة، وهي أي الجدلية تعتبر أيضا أن كل فصل أو تمييز هو نسبي لأن كل شيء يحدث في الواقع بطريقة أو أخرى. وأن كل شيء يؤثر في الآخر.

وهكذا لما كانت الجدلية (الديالكتيك) تهتم بالحركة في كل اشكالها وليس فقط بالتغيير المكاني بل بتغيرات الحالات وتفسر الحركة عن طريق نضال الأضداد. وهذا أهم قانون في الجدلية.

في العصر القديم كان للكلمة "ديالكتيك" معنى يختلف عن المعنى الفلسفي الماركسي. فقد كان المفكرون اليونان القدماء يفهمون بالديالكتيك أسلوب إقرار الحقيقة في الجدال، في صراع مختلف الآراء. أما الطرح الماركسي للديالكتيك فهو طريقة فلسفية لمعرفة الواقع التي تقول بأن كل شيء في العالم يوجد في تطور وتغير. كل شيء يجري كل شيء يتغير. كما قال الفيلسوف اليوناني القديم هيراقليط. فالمنهج الجدلي المادي الماركسي أجابت عن مشكلة فهم التطور وتفسيره بطريقة مادية، أي في انسجام مع الحقائق المدركة في علاقتها الفعلية لا المتخيلة.

وتنظر المادية الجدلية الديالكتيكية الماركسية الى الكون لا على أنه ثابت لا يتغير، بل على أنه في عملية تطور مستمر، وهي لا تنظر الى هذا التطور كعملية هادئة مستمرة لا تنقطع بل كعملية تعترض فيها مراحل التطور التدريجي انقطاعات في استمرارها بوثبات فجائية من حالة الى أخرى، وهي تبحث عن تفسير حركة الكون هذه وقوتها المحركة لا بابتداع خيال مثالي، وانما داخل العمليات المادية ذاتها في التناقضات الداخلية والاتجاهات المتضادة المتنازعة، التي تعمل في كل عمليات الطبيعة والمجتمع.

ولخص لينين الفكرة الأساسية للمنهج المادي الجدلي هي: "إدراك الاتجاهات المتضادة المتناقضة التي تنفي بعضها البعض في كل ظواهر الطبيعة وعملياتها، فهذا وحده يزودنا بمفتاح الحركة الذاتية لكل شيء موجود، انه وحده الذي يزودنا بمفتاح الوثبات وانقطاع الاستمرار والتحول الى الضد، ودمار القديم وبزوغ الجديد.. ".

"والجدلية بالمعنى الصحيح هي دراسة التناقض في جوهر الأشياء ذاتها". فالتطور هو صراع الاضداد". (لينين – ملاحظات فلسفية)

وهذا الفهم المادي للجدل للديالكتيك هو مفتاح فهم قوى التطور في العالم المادي ذاته دون اللجوء الى أسباب خارجية.

وهنا بودي ان اذكر بأن الفيلسوف المثالي هيغل أعجب بالثورة البرجوازية التي انتصرت في فرنسا وقضت على المجتمع الاقطاعي الذي خيل اليه انه أبدا لا يزول، فاذا بهيغل يقوم بثورة في الأفكار. فينزل الميتافيزيقا وحقائقها الخالدة عن عرشها السامي، وإذا بالحقيقة، عنده، ليست مجموعة من المبادئ الجاهزة، بل عملية تاريخية، تبدأ بالمعرفة البدائية لتنتهي بالمعرفة السامية.

وهي تتبع في ذلك حركة العلم نفسه الذي لا يتطور الا إذا عمد الى نقد نتائجه باستمرار وتجاوز هذه النتائج. وهكذا توصل هيغل الى الاستنتاج بأن الدافع لكل تحول هو نضال الاضداد. ولكن مع ذلك كان هيغل مثاليا حيث رأى بأن طبيعة التاريخ الإنساني لم تكن سوى تجلي الفكرة الأزلية وهكذا بقية جدلية هيغل جدلية روحية مثالية صرفه.

أما ماركس فقد عرف كمادي ان يعيد الجدلية الى مكانها الحقيقي فرفض موقف المثاليين وخاصة هيغل الذين كانت لهم نظرة مثالية للعالم التي ترى في الكون المادي ثمرة للفكرة. وأدرك ماركس بأن قوانين الجدلية (الديالكتيك) هي قوانين العالم المادي، وأنه إذا كان الفكر جدليا فلأن الناس ليسوا غرباء في هذا العالم بل هم جزء منه.

كتب انجلز وهو صديق ماركس يقول: "ليست الجدلية عند هيغل – التي تتجلى في الطبيعة والتاريخ في صورة ترابط التقدم السببي الذي نجده منذ البداية حتى النهاية خلال جميع الحركات المتعرجة الالتواءات المؤقتة – ليست هذه الجدلية سور صورة لحركة الفكرة الذاتية التي تستمر منذ الأزل حيث لا ندري مستقلة عن كل ذهن انساني مفكر.

فكان لا بد من تجنب هذا الانقلاب الفكري فنظرنا الى أفكار الذهن نظرة مادية على انها انعكاس للأشياء بدلا من أن ننظر الى الأشياء على انها انعكاس لدرجة معينة من درجات الفكرة المُطلقة. وهكذا أصبحت الجدلية معرفة قوانين الحركة العامة، في العالم الخارجي أم في التفكير الإنساني".

"فاذا بجدلية الفكر ليست سوى انعكاس بسيط واع لحركة العالم الحقيقي الجدلية. وإذا بجدلية هيغل ترفع رأسها فتقف على رجليها، بعد أن كانت تقف على رأسها". (انجلز لودفيغ فورباخ ص 33-34 – دراسات فلسفية ص 44).

أما ماركس فقد رفض القشور المثالية في فلسفة هيغل واحتفظ "باللباب العقلي" أي احتفظ بالجدلية.

ويقول ماركس بنفسه ذلك في مقدمة "رأس المال" الثانية (كانون الثاني عام 1873): "لا يختلف منهجي الجدلي في الأساس عن منهج هيغل فقط. بل هو نقيضه تماما. اذ يعتقد هيغل ان حركة الفكر التي يجسدها باسم الفكرة هي مبدعة الواقع الذي ليس هو سوى الصورة الظاهرية للفكرة. اما انا فأعتقد على العكس، أن حركة الفكر ليست سوى انعكاس حركة الواقع وقد انتقلت الى ذهن الانسان" (ماركس كتاب راس المال الكتاب الأول ص 29).

لقد وصل ماركس وانجلز الى هذا الانقلاب الثوري العلمي الجدلي بعد ازدهار علوم الطبيعة في القرن الثامن عشر.

وفي السنوات الأولى من القرن التاسع عشر. وازدهار العلوم في ذلك الوقت هو الذي أدى بهما الى القول بأن للجدلية أساس مادي موضوعي. وكان للاكتشافات الثلاثة التالية أثر كبير في ذلك.

1-اكتشاف تحول الطاقة من حرارة وكهرباء ومغناطيس وطاقة كيميائية الخ. فهي صورة مختلفة نوعيا لحقيقة مادية واحدة.

2-اكتشاف الخلية الحية التي تتطور عنها الاجسام المعقدة.

3-نطرية داروين (داروين أصل الأنواع 1859).

ولقد أوضحت هذه الاكتشافات واكتشافات النظام الشمسي وعلم طبقات الأرض الذي يُعيد بناء تاريخ الكرة الأرضية، الطابع الجدلي في الطبيعة على أنها وحدة لكل شاسع في صيرورة دائمة. يتطور حسب قوانين ضرورية ولا يكف عن توليد المظاهر الجديدة وما النوع الإنساني والمجتمع سوى لحظة من هذه الصيرورة الشاملة. على هذا الأساس انتهى ماركس وانجلز الى القول بأنه يجب الاستغناء لا بل رفض المنهج الميتافيزيقي لأنه لا يدرك التغير ولا يعرف نزاع الاضداد ولا يقبل هذه الحقيقة الجدلية. فالمنهج الميتافيزيقي ينظر الى جميع الأشياء والظاهرات بوصفها جامدة ويقضي على وحدة العالم ويجمد حركته. فكان لا بد من منهج جدلي، وقد أعاد هيغل الاعتبار الى هذا المنهج ولكن لم يستطع اكتشاف الأسس الموضوعية له.

فماركس وانجلز لم يأتيا بالمنهج الجدلي من الخارج بصورة اعتباطية بل استقياه من العلوم نفسها التي تتخذ الطبيعة موضوعا لها والطبيعة جدلية في ذاتها. والجدلية لا تصبح علمية حقا الا حينما تكون في وحده عضوية مع المادية. وهذا التوحيد تحقق في الفلسفة الماركسية المادية الجدلية (الديالكتيكية).

إن أقرب أسلاف ماركس وإنجلس في ميدان الفلسفة هما الفيلسوف المثالي الألماني المشهور جورج هيجل (1770-1831) والفيلسوف المادي الألماني البارز لودفيغ فورباخ (1804-1871).

وطبقا ماركس وانجلز الجدلية المادية على التاريخ الإنساني ووضعا الأساس العلمي لحتمية الثورة الاجتماعية، حتمية بناء مجتمع المستقبل، مجتمع حرية الانسان والإنسانية.



//المراجع

أصول الفلسفة الماركسية – تأليف جورج بوليتزر وجي بيس وموريس كافين.
مدخل الى المادية الجدلية – تأليف موريس كورنفورث.
ملامح المستقبل – بغاتوريا.
انجلز – ضد دوهرنج.