ما هو الديالكتيك؟

إيان بيرشال
2023 / 3 / 23 - 22:00     


نشر المقال في العدد 49 من مجلة الاشتراكي كانون الأول/ديسمبر 1982- كانون الثاني/يناير 1983،



قال بريخت: “لم أجد أبداً أي أحد من دون روح دعابة يمكنه فهم الديالكتيك، لدى إيان بيرشال هذه الروح، وسيشرح هذه الفكرة المركزية في الماركسية

بين أيلول/سبتمبر وكانون الأول/ديسمبر عام 1914، طوال الأشهر التي تلت اندلاع الحرب العالمية الأولى، وانزياح معظم الحركة العمالية العالمية إلى الموقف الوطني، أمضى لينين وقتاً طويلاً في قاعة المطالعة في مكتبة برن، بسويسرا. كان يقرأ علم المنطق لهيغل، ورأى أن المسألة هامة لدرجة أنه ملأ عدة دفاتر بالملاحظات والتعليقات. يبلغ حجم هذه الأخيرة 160 صفحة من أعمال لينين الكاملة (المجلد 38).



لطالما حيرت هذه الصفحات كتّاب سيرة لينين الذاتية، وقد حذفها العديد منهم (من بينهم، يجب قول ذلك، طوني كليف، الذي قفز من آب/أغسطس 1914 إلى زيميروالد في صفحة واحدة. لا يظهر اسم هيغل في الفهرس في أي من الأجزاء الأربعة لكتاب كليف عن لينين). وللوهلة الأولى، من المحير تماماً أن لينين، المنظم الأعلى ورجل العمل، كان ينبغي أن يكون معجباً للغاية بأكثر الفلاسفة الألمان غموضاً وتعقيداً.

رغم ذلك، أصر لينين طوال حياته على أهمية هيغل والمنهج الديالكتيكي الذي أطلقه. وحاجج بأنه من المستحيل فهم كتاب رأس المال لماركس من دون دراسة كتاب علم المنطق لهيغل بأكمله؛ كما يشير في وصيته إلى أن بوخارين لم يفهم أبداً الديالكتيك.

اهتمام لينين

السبب في صعوبة تفسير اهتمام لينين بالديالكتيك هو أنه في الخمسين سنة الماضية، جرى إفساد كامل المسألة بسبب الغثاثة الحمراء. قبل محاولة شرح ما هو الديالكتيك، من الضروري توضيح ما هو ليس كذلك.

بداية، حوّلَتْ الستالينيةُ الماركسيةَ من نظرية ثورية نقدية إلى أيديولوجية الطبقة الحاكمة الروسية. كجزء من هذه العملية، اخترع ستالين ما سماه “المادية الديالكتيكية” (تختصر بـ “ديامات”)، وهي مجموعة من الأقاويل شبه الدينية. (لم يستعمل ماركس أبداً عبارة “المادية الديالكتيكية”، إنما أخذها ستالين من بليخانوف).

في يد بيروقراطي أخرق مثل ستالين، كان الديالكتيك هدية لتفسير وحشية النظام الجديد. عام 1930، قال ستالين أمام المؤتمر السادس عشر للحزب:

“نحن مع اضمحلال الدولة، ورغم ذلك نحن نؤمن كذلك بديكتاتورية البروليتاريا التي تمثل أقوى وأشد شكل من أشكال سلطة الدولة التي كانت موجودة حتى اليوم. الاستمرار في تطوير سلطة الدولة من أجل تحضير الظروف لتلاشي سلطة الدولة- هذه هي الصيغة الماركسية. هل هي “متناقضة”؟ نعم “متناقضة”. ولكن تناقضها أمر حيوي، تعكس تماماً الديالكتيك الماركسي”.

بدوره، أضاف القائد العظيم ماو مساهمته إلى التقليد الفظيع من خلال اختراع مفهوم “التناقض غير العدائي”، كطريقة لطيفة للتعبير عن “التعاون الطبقي” (البرجوازية هي العدو الطبقي، لكننا لن نحاربها).

المشكلة الثانية التي أصابت الحجة هي الجدل الشهير حول “ديالكتيك الطبيعة”. كان إنغلز مولعاً بتوضيح ديالكتيكية التحول من الكمي إلى النوعي بمقارنتها بالغلي أو بتجمد المياه، يصبح الماء أكثر دفئاً أو برودة بتدرج، ثم يتحول عند نقطة محددة إلى جليد أو بخار.

التزم الستالينيون بهذه الطريقة بكل شغف. يخبرنا الفيلسوف الفرنسي جورج بوليتزر أنه عندما يخرج الصوص من البيضة فإنه يلغي البيضة، لكن بعد ذلك يتحول إلى دجاجة وينفي نفسه. لذلك لدينا هنا “نفي النفي”.

تكمن المشكلة في كل ذلك أنها مبالغة في التبسيط والتوهم. صناعة الثورة، بعد كل شيء، مسألة معقدة أكثر من تسخين كوب من الشاي- أو حتى تربية الدجاج. ولكي يدعي الديالكتيك أنه متجذر في العلوم الطبيعية فإنه يسمح بالتمتع بالمجد المنعكس لـ”العلم”، وبالتالي التهرب من مسألة ماهيته الحقيقية.

ينبغي التعامل مع مسألة “ديالكتيك الطبيعة” بكل عناية. في عامه الأخير، كتب إنغلز، كهاوٍ ولكن متحمس للعلوم الطبيعية، ملاحظات مستفيضة عن الديالكتيك بما خص فروع العلوم المختلفة. وبما أنه أعطى الأولوية للعمل على كتاب رأس المال غير المكتمل، لم يكمل إنغلز الملاحظات ويعدها للنشر. ويجب النظر إلى الكتاب الذي صدر بعد وفاته بعنوان “ديالكتيك الطبيعة” على أنه ليس أكثر ولا أقل من تقديرات مثيرة للاهتمام، وإنما المجزّأة، لمفكر موهوب.

منذ أيام إنغلز زعم العديد من العلماء، من ج.د. بيرنال إلى الفيزيائي الفرنسي ج.ب. فيجيه، أن المنهج الديالكتيكي قد ساعدهم في عملهم. سيكون من الغباء الادعاء أن الديالكتيك ليس له مكان في العلوم الطبيعية- ولكن من الخطورة كذلك الادعاء بأن صحة الديالكتيك كأسلوب للبحث الاجتماعي تعتمد على صحة أو عدم صحة نظرية ما حول الطبيعة.

بعد كل شيء، إن الفكر البرجوازي المحافظ هو الذي يحاول أن يرى المجتمع خاضعاً لقوانين الطبيعة. لقد سمعنا كلنا عن “المناخ الاقتصادي، وهو شيء غير قابل للتغيير ولا يتحمل أي أحد المسؤولية عنه. كما يشير ماركس، مستشهداً بـ[غيامباتيستا] فيكو، “يختلف التاريخ البشري عن التاريخ الطبيعي في أننا صنعنا الأول، ولكن ليس الثاني”. وبالتالي إنّ اشتقاق قوانين الديالكتيك من الطبيعة غير الحية يؤدي إلى إنكار دور الفعالية البشرية في السيرورة التاريخية.

ما هو إذا الديالكتيك؟ استعمل هذا المصطلح للمرة الأولى من قبل الفيلسوف اليوناني أفلاطون، بالنسبة له، كان يعني السيرورة التي يتقدم فيها الفكر الصافي باتجاه تحقيق المعرفة المتماسكة. بعد أكثر من ألفي سنة، استعمل هيغل المصطلح للإشارة إلى حركة الأفكار التي كانت، بالنسبة له، القوة الدافعة للتاريخ البشري. بالنسبة لماركس وإنغلز، بات الديالكتيك هو السيرورة التي يتطور فيها التاريخ البشري ذاته.

منذ أيام ماركس، حاول الكثيرون تقنين الديالكتيك ضمن مجموعة من القوانين. رغم ذلك، يبدو أنه لا يوجد شخصان يتفقان على ماهية القوانين، ولا حتى إذا كانت ثلاثة أو أربعة [قوانين]. الديالكتيك، في الواقع هو موضع شائك على نحو غير عادي، إذ تنتهي محاولات تفسيره إما بلغة غير مفهومة أو عبارات تافهة.

لا شيء مقدس

فلماذا نهتم بذلك؟ من السهل جداً التعاطف مع الاشتراكيين الذين يقولون إنهم مشغولون جداً بالنضال من أجل تمضية الوقت بالتفلسف، وإنهم سيعتمدون بكل بساطة على الأفكار السائدة. ولكن لسوء الحظ لا يمكن للاشتراكيين الاعتماد على هذه الأفكار.

الأفكار السائدة هي التي يتشاركها أغلب الناس. وكما أفاد ماركس: “أفكار الطبقة الحاكمة في كل حقبة هي الأفكار السائدة”. يثق معظم الناس بالمظاهر. لآلاف السنين كان منطقياً أن الشمس تدور حول الأرض. يتفق الستالينيون ومتعصبو العالم الحر اليوم [عام 1982] على أنه من الواضح أن لدى روسيا والولايات المتحدة أنظمة اجتماعية مختلفة. فقط بالاستناد إلى دراسة معمقة ستكتشف أن النظامين يخضعان لذات القوانين. من وجهة نظر الأفكار السائدة لمجتمعنا إن الرأسمالية هي نظام عادل يتمتع فيه الجميع بالحرية. إن مهمتنا تكمن بالضبط هي في تقويض هذه الأفكار السائدة.

إذاً، الديالكتيك هو دراسة كيف تتغير الأشياء. إن الحتمية الكامنة وراء كل الفكر الديالكتيكي هي هدف أطروحة ماركس الحادية عشر عن فيورباخ: “لقد فسر الفلاسفة العالم بعدة طرق؛ لكن الهدف هو تغييره”. أو كما كتب إنغلز:

“تماماً كما تحل البرجوازية من خلال الصناعة الكبيرة والمنافسة والسوق العالمية بشكل عملي كل المؤسسات العريقة والمستقرة، إن هذه الفلسفة الديالكتيكية تفسد كل مفاهيم الحقيقة النهائية المطلقة والحالات المطلقة للإنسانية المقابلة لها. بالنسبة للفلسفة الديالكتيكية لا شيء نهائي، أو مطلق، أو مقدس. وهي تكشف عن الطابع العابر لكل شيء، في كل شيء، لا شيء يمكن أن يدوم قبله ما عدا العملية المستمرة للصيرورة والتجاوز، من الصعود غير المتناهي من الأسفل إلى الأعلى”.

هذا يعني الحاجة إلى نظرية للتاريخ. وهناك بالطبع عدد كبير من نظريات للتاريخ المتاحة فعلياً، سواء على شكل مفصل أو مجسد في المواقف التي يتخذها معظم الناس. في الأساس، يمكن تلخيصها بثلاثة عناوين: “لا يمكنك تغيير الأشياء”، “لا يمكنك وقف التقدم”، و”الأشياء ليست كما كانت عليه”. كل هذه العناوين هي رجعية في الأساس. ولا يوجد شيء تقدمي بشأن “التقدم”، كما يجب أن يكون واضحاً في وقت يطرد فيه ملايين الأشخاص من وظائفهم بسبب إدخال الآلات. لذا تحتاج الاشتراكية الثورية إلى وجهة نظر بديلة للتاريخ.

مشكلة هيغل

وهنا يأتي دور هيغل. كان هيغل (1770-1831) واحداً من مجموعة من الفلاسفة الألمان الذي عاشوا بفترة الثورة الفرنسية. كان لدى هؤلاء الفلاسفة مشكلة. لقد استلهموا بشكل كبير من الثورة، لكنهم عاشوا في بلد كان أقل تطوراً اجتماعياً بكثير من فرنسا. لم يتمكنوا من حشد الجماهير للإطاحة بالملوك، لأنه لم يكن هناك من جماهير لتعبئتها. لذلك قاموا بالثورة في رؤوسهم، وترجموا التغييرات الحقيقية للثورة الفرنسية إلى تجريدات فلسفية.

ما حاول هيغل إظهاره هو أن التاريخ لم يكن سلسلة من الأحداث، ولكن كان له منطق يمر به. وكما قال: “كل ما هو حقيقي هو عقلاني؛ وكل ما هو عقلاني هو حقيقي”. وكما أظهر إنغلز، إنها صياغة ذات حدين. فمن جهة، يمكن استعمالها للدفاع عن الوضع المهيمن، ولكن من جهة أخرى، يمكن استعمالها للإطاحة بهذا الوضع. ومن ثم سرعان ما انقسم أنصار هيغل إلى جناحين يساري ويميني. بالنسبة إلى ماركس وإنغلز، كان المهم هو دمج رؤية هيغل في النظرة المادية للتاريخ. وكما قال إنغلز، إن ديالكتيك هيغل كان واقفاً على رأسه، وكان لا بد من إعادته على قدميه.

واحدة من الموضوعات التي أخذها ماركس من هيغل هي الكلية. وكما كتب الماركسي الهنغاري العظيم جورج لوكاتش (في الأيام التي سبقت تحوله إلى ستاليني تافه):

“ليست أولوية الدوافع الاقتصادية في التفسير التاريخي هي المشكلة للفرق الحاسم بين الفكر الماركسي والفكر البرجوازي، إنما وجهة نظر الكلية. إن مقولة الكلية، التفوق الشامل للكل على الأجزاء هو صلب المنهج الذي أخذه ماركس عن هيغل…”.

وكما أشار لوكاتش، يرى الفكر البرجوازي تنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية من وجهة نظر الرأسماليين المتنافسين، وبالتالي لا يمكنه رؤية ذلك ككل. إضافة إلى ذلك، تحاول الأيديولوجيا البرجوازية فرض هذه النظرة المجزأة على بقيتنا، وخاصة لأنها تجعل من مسألة التغيير وهمية.

وبحسب تعبير بريخت: “لا تتخذ القرارات المتعلقة بلحوم المطبخ المفقودة في المطبخ”. تشجعنا العلوم الاجتماعية البرجوازية على تمضية حياتنا في إجراء دراسات دقيقة وموضوعية وتفصيلية للمطبخ – وكنتيجة لذلك، لن نجد أبداً ما نبحث عنه، فالزعيم الموقفي، راوول فانيغيم، لخص بالستينيات هذا الضغط باتجاه التجزئة عندما كتب أن الأيديولوجيا المهيمنة:

“… هناك إصرار على أن يكون الناس مع أو ضد الرولينغ ستونز، الطعام الصيني، المهلوسات، الشورتات القصيرة، الأمم المتحدة، البوب، التأميم، الحرب النووية، المشي لمسافات طويلة. يطلب من الجميع رأيهم في كل التفاصيل لمنعهم من اتخاذ موقف من الكلية”.

لذلك، بدلاً من أن يكون الكل عبارة عن مجموع بسيط للأجزاء، لا يمكن فهم الأجزاء إلا في سياق الكل. وكما أشار لينين لا تكون اليد يداً إلا في كونها جزءاً من الجسد. كذلك، إن الطبقة العاملة لا يمكن انتاجها بمجرد جمع العمال. العامل هو عامل فقط إذا كان/ت جزءاً من الطبقة العاملة. (ومن هنا كان الحماس البرجوازي للاقتراع السري، الذي يجمع الأفراد بدلاً من اعتبار الطبقة كجماعة).

كذلك، إن الفشل في رؤية كل سيرورة كجزء من الكل يؤدي إلى حصول أخطاء سياسية في الحركة. النضال النقابي مهم، ولكن إذا فشلنا في رؤيته كجزء من الكل، فإننا نقع في “الاقتصادوية”، بناء الحزب مسألة حيوية. ولكن الانفصال عن الكلية يؤدي بنا إلى العصبوية…

تناقضات

الآن إذا نُظر إلى المجتمع البشري ككل، يجب أن تكون وكالة التغيير داخل هذا الكل. لا يمكن أن يكون شيئاً “خارجياً”، مثل الله، أو نخبة خيّرة ينظر إليها على أنها تقف خارج المجتمع.

لمرة واحدة، يكون التشابه مع العلوم الطبيعية أمراً مسموحاً به. لقرون عديدة كان يفترض أن الحالة الطبيعية للمادة هي الجمود. ترك هذا الأمر مشكلة كبيرة- ما الذي جعل الأشياء تتحرك؟ لم يستطع دانتي، أحد اكثر المفكرين ذكاءً في العصور الوسطى الأوروبية، أن يجد تفسيراً لكيفية تحرك الشمس والقمر والنجوم أكثر من افتراض أن الملائكة تدفعهم. ولكن بمجرد فهم أن الحركة هي الحالة الطبيعية للمادة، فإن المشكلة تتحول.

كان هذا هو السؤال الذي وجهه ماركس في الأطروحة الثالثة عن فيورباخ وهي واحدة من أعمق المقاطع التي كتبها على الإطلاق:

“إن العقيدة المادية التي تقر بأن الناس هم نتاج الظروف والتربية، وبالتالي بأن الناس الذين تغيروا هم نتاج ظروف أخرى وتربية متغيرة، – هذه النظرية تنسى أن الناس هم الذين يغيرون الظروف وأن المربي هو نفسه بحاجة للتربية. ولهذا فهي تصل بالضرورة إلى تقسيم المجتمع قسمين أحدهما فوق المجتمع”.

بكلمات أخرى، إذا رأينا المجتمع ككل، فإن دينامية التغيير يجب أن تكون التناقضات داخل هذا الكل. أقصر تعريف للديالكتيك الذي أعرفه، ولكن ربما يكون الأكثر دقة هو لرايا دونايفسكايا “التطور عبر التناقض”.

هكذا يصر هيغل أن “التناقض هو المبدأ المؤثر في العالم”. أشار الشاعر الإنكليزي بليك، الذي كتب وفق نفس المنطق تقريباً، أنه “من دون تناقضات لا يحصل التقدم”. (من الأكيد تقريباً أن هيغل وبليك لا يعرفان بعضهما البعض، ولكن تأثرا بشدة بالثورة الفرنسية).

بطبيعة الحال، إن تحديد التناقض على أنه دينامية التغيير ليس سوى بداية المشكلة. أمضى ماركس 38 عاماً الباقية من حياته في دراسة التناقضات المحددة للمجتمع الرأسمالي رأس المال والعمل، والقيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية…

تمكننا هذه الحجة كذلك من تجنب حجر عثرة آخر للفلسفة البرجوازية، علاقة الـ”هو” والـ”يجب”. تنكر الفلسفة البرجوازية أنه يمكننا الانتقال منطقياً من “هو” إلى “يجب”، من بيانات الواقع إلى بيانات القيمة. ولكن إذا تحول المجتمع بسبب التناقضات الداخلية فيه، فلا فائدة من البحث عن التغيير ما لم يكن من الممكن تحديد هذا التغيير مع وكالة موجودة بالفعل في النظام الاجتماعي. كذلك، ليس جيداً محاولة صياغة الاشتراكية على أساس الأفكار الأخلاقية. لن تدمر الرأسمالية إلا من قبل الطبقة العاملة الحالية بكل عيوبها ونقاط ضعفها. ووفق كلمات لينين: “علينا بناء الاشتراكية مع الأشخاص الذين أفسدتهم الرأسمالية تماماً”.

السيرورات

نتيجة لذلك، وبحسب قول إنغلز، إن المقاربة الديالكتيكية تعني أن العلم لا يجب أن يفهم على أنه مجموعة معقدة من الأشياء الجاهزة إنما كمجموعة من السيرورات. وهذا أمر بالغ الأهمية لفهم الدور التاريخي للطبقات. عند النظر إلى مكان أي طبقة في التاريخ، علينا الأخذ بعين الاعتبار ليس من منظور حالتها الفعلية في لحظة ما من الزمن، إنما من ناحية قدرتها على التطور. وبحسب كلمات ماركس:

“السؤال ليس ما هو الهدف المرجو في الوقت الحاضر من قبل هذا الشخص من البروليتاريا أو ذاك أو حتى من البروليتاريا ككل. السؤال هو ما هي البروليتاريا وما هو مسار العمل الذي ستأخذه تاريخياً وفقاً لطبيعتها”.

من هنا، طوّر جورج لوكاتش مفهوم “الوعي المسند”، أي الوعي الذي تتمكن الطبقة من تحقيقه تاريخياً. وهكذا، على سبيل المثال، من الواضح لأي شخص من حيث الأفكار السائدة أن رونالد ريغن ومارغريت تاتشر أكثر اتحاداً من أعضاء الـ NUR وASLEF [اتحادات نقابية]. فقط عندما نفهم أن الطبقة ليست شيئاً إنما سيرورة يمكننا الاستمرار في الإصرار على أن وحدة الطبقة العاملة هي احتمال واقعي.

لنأخذ مثلاً آخر، من الواضح، في ضوء ما قلناه حتى الآن، أن نظرية تروتسكي عن الثورة الدائمة هي واحدة من أسمى الأمثلة على تطبيق المنهج الديالكتيكي. بداية، يشدد تروتسكي على أننا يجب أن نرى العالم بمجمله، وليس كمجموعة من الدول القومية المنفصلة، لكل واحدة منها تاريخها الخاص في التطور التاريخي.

أولاً، البديل الزائف الذي كثيراً ما يطرحه نقاد الماركسية البرجوازيون: الماركسية هي “علم” أو نقد أخلاقي للمجتمع. كما يشير لوكاتش في كتابه عن ماركسية روزا لوكسمبورغ، إنها مشكلة فقط إذا رأينا المجتمع كشيء خارج عن أنفسنا، كالطقس مثلاً.

ثانياً، عند النظر إلى دور الطبقة العاملة، في الثورة الروسية المقبلة، حاجج تروتسكي أنه علينا تجاوز الحقائق، مثل الحجم الصغير للطبقة العاملة (أصغر من حجمها في العديد من دول العالم الثالث) وانخفاض مستوى التنظيم مقارنة بأوروبا الغربية، والتركيز بدلاً من ذلك على الدور التاريخي المحتمل للطبقة.

وانطلاقاً مما سبق، من الممكن رؤية كيف يمكّننا المنهج الديالكتيكي من التغلب على بعض معضلات الفكر البرجوازي.

الغايات والوسائل

إذا فعلنا ذلك، هناك بديلان، إما أن نبحث عن الوسائل التقنية للتلاعب بالقوانين غير القابلة للتغيير، أو يمكننا اتخاذ موقفاً أخلاقياً داخلياً بحتاً. بالتالي إذا لم نتمكن من منع هطول المطر، يمكننا إما الاستجابة بشكل تقني (عبر استعمال المظلة) أو أخلاقياً (من خلال القول إن المطر مفيد لنا). ولكن إذا نظرنا إلى المجتمع ككل، إن الانقسام الزائف يتبخر؛ السيرورة التاريخية لا تحكمها قوانين ثابتة مستقلة عنا، إنما أفعالنا هي جزء من هذه السيرورة. وبحسب شعار الستينيات القديم: “إذا لم تكن جزءاً من المشكلة، يجب أن تكون جزءاً من الحل”.

ثانياً، العلاقة بين المعرفة والعمل. يخبرنا هيغل قصة الفيلسوف الذي اتخذ “قراراً حكيماً… عدم المغامرة في المياه حتى يتعلم السباحة”. من جديد، ترى المقاربة الديالكتيكية هذا على أنها ثنائية خاطئة. الطبقة العاملة، على وجه التحديد، محرومة من المعرفة من المجتمع الرأسمالي، ولا يمكنها تثقيف نفسها قبل المحاربة من أجل انتزاع السلطة. حتى كادر الحزب الثوري لا يمكن تثقيفه قبل النضال. تتحقق المعرفة فقط في سياق المشاركة في الممارسة الثورية.

ثالثاً، هناك مشكلة قديمة تتعلق بالأهداف والوسائل، الطريقة التي يطرح فيها السؤال (هل الغاية تبرر الوسيلة؟) تدل إلى أنه يمكن فصل الاثنين وموازنتهما ضد بعضهما البعض.

خلال مناقشة تروتسكي لهذه المسألة في كتابه “أخلاقهم وأخلاقنا” يقتبس مقطعاً من مسرحية فيرديناند لاسال:

“لا تظهر الهدف

إنما أظهر كذلك المسار.

المسار والهدف

متشابكان جداً

مع بعضهما

يتغيران دائماً، ومسارات أخرى

تحضر هدفاً آخر”.

لا يمكن فصل الغايات عن الوسائل، لأنهما جزء من نفس السيرورة. وبالتالي، مثلاً، إن السبب النهائي لعدم وجود طريق برلماني للاشتراكية هو أن الاشتراكية، بحكم تعريفها، هي التحرر الذاتي للطبقة العاملة، ولا يمكن للمرء أن يوكل تحرره إلى ممثل برلماني.

أخيراً، سأورد بضعة كلمات عن اثنين من قوانين الديالكتيك المشهورة.

القوانين المشهورة

أولاً، الانتقال من الكمي إلى النوعي. لقد قلنا أعلاه إن الغلي لا علاقة له بالثورة، رغم ذلك إن التمييز بين التغيير الكمي والنوعي لأمر مهم لفهم سيرورة التطور التاريخي. فقط لأن التاريخ مدفوع بالتناقضات، فإن تقدمه ليس سلساً ووفق خط مستقيم، إنما من خلال الخضات والهبات المفاجئة. ولأن المجتمع هو كلية، لا يمكن تغييره شيئاً فشيئاً. وكما أفاد ر.ه. تاوني، لا يمكنك جلد النمر رويداً رويداً، إنما يجب فعل ذلك دفعة واحدة، وإلا ستقع ضحيته.

الأمر نفسه ينطبق على المنظمات الثورية. هذه المنظمات لا تنمو على نحو تصاعدي سلس. بل على العكس، هي راكدة أو حتى تتراجع لسنوات، ومن ثم في فترة الأزمات تتسع بسرعة. ولكن انتظار القفزة النوعية ليس جيداً. إن النمو الكمي البطيء هو الذي يقرر ما إذا كانت القفزة النوعية ستكون ممكنة. وبالتالي، في بداية عام 68، كان عدد الاشتراكيين الأمميين (أسلاف حزب العمال الاشتراكي) 450 عضواً. وخلال الهبة الشعبية الهائلة التي حصلت عامذاك قفز العدد إلى ألف. لكن إذا كان لدينا 200 مع بداية السنة، من المحتمل جداً أن يكون انتشارنا ضئيل للغاية للتدخل في كل مكان، وربما نكون قد وصلنا إلى نهاية العام ليس أكبر مما بدأناه. (في هذه الحالة ربما شهدت بريطانيا انتشاراً للماوية “المسالمة” على الطريقة الألمانية والإيطالية).

ثانياً، نفي النفي. في الفصل 32 من الجزء الأول من كتاب رأس المال، يصف ماركس كيف أن نمو الملكية الرأسمالية يدمر الملكية الخاصة الفردية، ويستبدلها بشكل أكثر تطوراً من العمل التعاوني. ولكن في الوقت عينه، ينتج عن الاستغلال الرأسمالي طبقة عاملة غير راضية ستدمر النظام في نهاية الأمر.

“إن أسلوب التملك الرأسمالي، الناتج عن نمط الانتاج الرأسمالي، ينتج ملكية خاصة رأسمالية. هذا هو النفي الأول للملكية الخاصة الفردية، التي تأسست على عمل المالك. لكن الانتاج الرأسمالي يولد، بحتمية قانون الطبيعة، نفيه الخاص. إنه نفي النفي، هذا لا يعيد تأسيس الملكية الخاصة للمنتج، إنما يعطيه ملكية فردية على أساس مكتسبات العصر الرأسمالي، أي على التعاون والتملك المشترك للأرض ووسائل الانتاج”.

النشاط البشري

ربما أضاف ماركس إلى ذلك نقلة ديالكتيكية أخرى. لأنه عندما تدمر الطبقة العاملة الرأسمالية، مصدر استغلالها، إنها تنكر نفسها كذلك. إن هدف الثورة الاشتراكية ليس انتصار الطبقة العاملة، إنما القضاء عليها.

هذا بالمناسبة، هو اقتراح سهل الفهم لمعظم العمال، الذين لم يختاروا أن يكونوا أعضاء في الطبقة العاملة، وسيكونون سعداء جداً في تغيير وضعهم. ومع ذلك، إنه غير مفهوم تماماً لبيروقراطية الحركة العمالية التي تعتمد بوضعها الكامل على عملها كوسيطة على استمرار وجود طبقة مستغلة وبالتالي على وجود الاستغلال.

ختاماً: الديالكتيك ليس مجموعة “قوانين” منفصلة عن إرادة الإنسان. إنه بكل بساطة وسيلة لوصف كيف يصنع البشر تاريخهم بأنفسهم. وبحسب عبارات ماركس:

“التاريخ لا يفعل شيئاً. لا يملك الثروات، ولا يخوض المعارك. وهذا يعني أن الرجال الذي يعيشون فعلياً، هم من يفعلون كل ذلك، التملك وخوض المعارك. ليس “التاريخ” من يستغل الإنسان- كما لو أنه فرداً بمفرده- لتحقيق غاياته الخاصة. التاريخ ليس سوى نشاط الرجال في السعي لتحقيق أهدافهم”.