مجنون ليلى


ابراهيم محمد جبريل
2023 / 3 / 23 - 18:20     

المجنون : هو قيس بن معاذ، ويقال قيس بن الملوّح. أحد بنى جعدة بن كعب ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة، ويقال بل هو من بنى عقيل بن كعب بن ربيعة.
ولقبه المجنون لذهاب عقله بشدّة عشقه.
وكان الأصمعىّ يقول: لم يكن مجنونا، ولكن كان فيه لوثة كلوثة أبى حيّة
وهو من أشعر الناس، على أنّهم قد نحلوه شعرا كثيرا رقيقا يشبه شعره، كقول أبى صخر الهذلىّ:
أما والّذى أبكى وأضحك والّذى ... أمات وأحيا والّذى أمره الأمر
لقد تركتنى أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما النّفر
فيا هجر ليلى قد بلغت بى المدى ... وزدت على ما لم يكن بلغ الهجر
ويا حبّها زدنى جوى كلّ ليلة ... ويا سلوة الأيّام موعدك الحشر
وصلتك حتّى قلت لا يعر القلى ... وزرتك حتى قلت ليس له صبر
إذا ذكرت يرتاح قلبى لذكرها ... كما انتقض العصفور بلّله القطر
عجبت لسعى الدّهر بينى وبينها ... فلمّا انقضى ما بيننا سكن الدّهر
(بن قتيبة الدينوري، 1423 هـ، ج 2 ص 549)1
وكقول أبى بكر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة:
بينما نحن من بلاكث بالقا ... ع سراعا والعيس تهوى هويّا
خطرت خطرة على القلب من ذك ... راك وهنا فما استطعت مضيّا
قلت: لبّيك. إذ دعانى لك الشّو ... ق، وللحاديين: كرّا المطيّا
وكان المجنون وليلى صاحبته يرعيان البهم وهما صبيّان، فعلقها علاقة الصّبا، وفى ذلك يقول:
تعلّقت ليلى وهى غرّ صغيرة ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صبيّان نرعى البهم يا ليت أنّنا ... إلى اليوم لم نكبر ولم يكبر البهم
ثم نشأ وكان يجلس معها ويتحدّث فى ناس من قومه، وكان جميلا ظريفا راوية للأشعار حلو الحديث، فكانت تعرض عنه وتقبل على غيره بالحديث، حتّى شقّ ذلك عليه، وعرفته منه، فأقبلت عليه فقالت:
كلانا مظهر للناس بغضا ... وكلّ عند صاحبه مكين
ثم تمادى به الأمر، حتّى ذهب عقله، وهام مع الوحش، فكان لا يلبس ثوبا إلا خرّقه، ولا يعقل شيئا إلا أن تذكر له ليلى، فإذا ذكرت ثاب وتحدّث عنها لا يسقط حرفا.
فسعى عليهم نوفل بن مساحق، فنزل مجمعا من تلك المجامع، فرآه عريانا يلعب بالتراب، فكساه ثوبا، فقال له قائل: وهل تدرى من هذا أصلحك الله؟ قال: لا، قال: هذا المجنون (قيس بن الملوّح) ، ما يلبس الثياب ولا يريدها، فدعا به فكلّمه، فجعل يجيبه عن غير ما يكلّمه به، فقالوا له: إن أردت أن يكلّمك كلاما صحيحا فاذكر له ليلى وسله عن حبّه لها، ففعل فأقبل عليه المجنون يحدّثه بحديثها وينشده شعره فيها، فقال له نوفل: الحبّ صيّرك إلى ما أرى؟ قال: نعم، وسينتهى بى إلى أشدّ مما ترى، قال أتحبّ أن أزوّجكها؟
قال: نعم وهل إلى ذلك من سبيل! قال: انطلق معى حتى أقدم بك عليها فأخطبها لك وأرغّب لك فى المهر، قال: أفتراك فاعلا؟ قال: نعم، قال:
انظر ما تقول! قال: علىّ أن أفعل بك ذلك، فارتحل معه، ودعا له بثياب فلبسها المجنون، وراح معه كأصحّ أصحابه، يحدّثه وينشده، فبلغ ذلك قومها فتلقّوه بالسلاح، وقالوا له: والله يا بن مساحق، لا يدخل المجنون منزلنا أبدا أو نموت، وقد هدر السلطان دمه، فأقبل بهم وأدبر، فأبوا، فلمّا رأى ذلك قال للمجنون: انصرف، قال المجنون: والله ما وفيت بالعهد، قال: انصرافك أيسر علىّ من سفك الدماء، فانصرف.
وفى ذلك يقول:
يا صاحبيّ ألّما بى بمنزلة ... قد مرّ حين عليها أيّما حين
فى كلّ منزلة ديوان معرفة ... لم يبق باقية ذكر الدّواوين
إنى أرى رجعات الحبّ تقتلنى ... وكان فى بدئها ما كان يكفينى
ألقى من اليأس تارات فتقتلنى ... وللرّجاء بشاشات فتحيينى
وفى رجوع عقله عند ذكرها يقول:
يا ويح من أمسى تخلّس عقله ... فأصبح مذهوبا به كلّ مذهب «2»
خليعا من الإخوان إلا معذّرا ... يضاحكنى من كان يهوى تجنّبى
إذا ذكرت ليلى عقلت وراجعت ... روائع عقلى من هوى متشعّب
وقالوا: صحيح ما به طيف جنّة ... ولا لمم إلا افتراء التّكذب
وخرج رجل من بنى مرّة إلى ناحية الشام والحجاز، ممّا يلى تيماء والسّراة بأرض نجد، فى بغية له، فإذا هو بخيمة قد رفعت له (عظيمة) وقد أصابه المطر، فعدل إليها، فتنحنح، فإذا امرأة قد كلّمته فقالت: انزل، قال:
فنزلت، وراحت إبلهم وغنمهم، فإذا أمر عظيم كثرة ورعاة، فقالت: سلوا هذا الرجل من أين أقبل؟ فقلت: من ناحية تهامة ونجد، فقالت: يا عبد الله، أىّ بلاد نجد وطئت؟ فقلت: كلّها، قالت: بمن نزلت هناك؟ فقلت:
ببنى عامر، فتنفّست الصّعداء، ثم قالت: بأى بنى عامر؟ فقلت: ببنى الحريش، فاستعبرت، ثم قالت: هل سمعت بذكر فتى منهم يقال له قيس يلقّب بالمجنون؟
قلت: إى والله، نزلت بأبيه وأتيته ونظرت إليه، قالت: فما حاله؟ قلت يهيم فى
الحب للحبيب الأول أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي بن الفضل الأرجي قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الهمذاني بمكة في المسجد الحرام قال: حدثنا محمد بن علي بن المأمون قال: حدثنا أبو محمد الرقاقي قال: خرج أبو حمزة يشيع بعض الغزاة، وكان راكباً، فسمع قائلاً يقول:
نَقِّلْ فُؤادَك حيثُ شئتَ من الهوَى، ... ما الحُبّ إلاّ للْحَبِيبِ الأوّل.
فسقط حتى خشينا عليه.(البغدادي، بدون ت ص 43)2
أخبرني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: خرج كثير يريد عبد العزيز بن مروان فأكرمه، ورفع منزلته، وأحسن جائزته، وقال: سلني ما شئت من الحوائج! قال: نعم، أحب أن تنظر لي من يعرف قبر عزة، فيوقفني عليه. فقال رجل من القوم: إني لعارف به. فوثب كثير فقال لعبد العزيز: هي حاجتي أصلحك الله. فانطلق به الرحيل حتى انتهى به إلى موضع قبرها فوضع يده عليه، ودمعه يجري، وهو يقول:
وَقَفْتُ عَلى رَبْعٍ لِعَزّةَ نَاقَتي، ... وفي البُرْدِ رَشّاشٌ من الدّمعِ يسفحُ.
فَيَا عَزَّ أنْتِ البَدرُ قَد حالَ دونَهُ ... رَجيعُ التّرَابِ والصّفِيحُ المضرَّحُ.
وقَد كنتُ أبكي مِن فِراقِكِ حِقبَةً ... فأنْتِ لَعَمْري اليوْمَ أنأى وأنزَحُ.
فَهَلاّ فَداكِ الموتُ مَن أنتِ زَينُه، ... ومَن هوَ أسْوا منكِ حالاً وأقبَحُ.
ألا لا أرى بعد ابنَةِ النَّضرِ لَذّةً ... لِشيءٍ، ولا مِلْحاً لِمَنْ يَتَمَلّحُ.
فلا زالَ وادي رَمسِ عَزّةَ سائِلاً ... بِهِ نِعمَةٌ من رحمَةِ الله تسفَحُ.
فإنّ التي أحبَبتُ قد حالَ دونها ... طوَالُ اللّيالي والضّريحُ المصَفَّحُ.
أربَّ بِعَينَيَّ البُكا، كُلَّ لَيلَةٍ، ... فقَد كادَ مجْرَى دمع عيني يَقرَحُ.
إذا لم يكُنْ ماءٌ تَحَلَّبَتَا دَماً، ... وشرُّ البكاءِ المستَعادُ الممَنَّحُ.
(البغدادي، بدون ت ج 1ص 127)3
حدثني محمد بن الحسن، حدثني هبيرة بن مرة القشيري قال: كان لي غلام يسوق ناضحاً ويرطن بالزنجية بشيء يشبه الشعر، فمر بنا رجل يعرف لسانه، فاستمع له ثم قال: هو يقول:
فقلتُ لهَا: إني اهتَديتُ لِفِتْيَةٍ، ... أنَاخُوا بجَعجَاعٍ قَلائصَ سُهّمَا
فقالت: كذاكَ العاشِقونَ ومن يخَفْ ... عُيونَ الأعادي بجعلِ اللّيلِ سُلّمَا
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف، حدثني عبد الملك بن محمد الرقاشي، حدثني عبد الله بن المعدل قال: سمعت الأصمعي يقول: وذكر مجنون بني عامر قيس بن معاذ، ثم قال: لم يكن مجنوناً إنما كانت به لوثة، وهو القائل:
وَلمْ أرَ ليلى بَعْدَ مَوْقِفِ سَاعَةٍ، ... بخَيفِ مِنى تَرْمي جمارَ المُحَصَّب
وتَبدي الحصَى منها، إذا قّذّفتْ بهِ، ... منَ البُرْدِ، أطرَافَ البَنَانِ المُخَضَّبِ
وبه قال القحذمي لما قال المجنون، وهو قيس بن الملوح:
قَضَاها لغَيرِي وَابَتلاني بِحُبّهَا، ... فهَلاَّ بشيءٍ غَيرِ لَيلى ابتَلانِيَا
ذكر ليلى يعيد عقل المجنون قال أبو عبيدة: وكان المجنون يجلس في نادي قومه، وهم يتحدثون، فيقبل عليه بعض القوم، فيحدثه وهو باهت ينظر إليه ولا يفهم ما يحدثه، ثم يثوب عقله، فيسأل عن الحديث، فلا يعرفه، فحدثه مرةً بعض أهله بحديث، ثم سأله عنه في غد، فلم يعرفه، فقال: إنك لمجنون! فقال:
إني لأجلِسُ في النّادي أُحَدّثُهُمْ، ... فأستفِيقُ، وَقَدْ غالَتنيَ الغُولُ
يَهوي بقَلبي حدِيثُ النّفسِ نحوَكمُ ... حتى يَقُولَ جَلِيسي: أنتَ مخبُولُ
قال أبو عبيدة: فتزايد الأمر به حتى فقد عقله، وكان لا يقر في موضع ولا يأنس برجل، ولا يعلوه ثوب إلا مزقه، وصار لا يفهم شيئاً مما يكلم به إلا أن تذكر له ليلى، فإذا ذكرت أتى بالبدائه ورجع عقله.
المصادر والمراجع
1.أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، الشعر والشعراء، الناشر: دار الحديث، القاهرة، عام النشر: 1423 هـ، عدد الجزء الثاني ص 549
2.أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج القاري البغدادي، مصارع العشاق
دار صادر، بيروت ص 43
3.نفس المرجع، ص 127