أزمة المنظومة المصرفية الطاهر المُعِز


الطاهر المعز
2023 / 3 / 23 - 01:11     

بدأت الأزمة المصرفية في الولايات المتحدة بانهيار مصرف وادي السيليكون ( SVB )، وترتيبه السادس عشر في الولايات المتحدة، ويمول نصف الشركات التكنولوجية الأمريكية الناشئة، ولم تنطلق هذه الأزمة بفعل مصرف "مارق"، بل إن انهيار هذا المصرف كان متوقّعًا بحسب بعض التقارير التي صدر بعضها بين تموز/يوليو 2021 وآذار/مارس 2022، لكنه انهار في ظروف غامضة خلال 72 ساعة، من 7 إلى 9 آذار/مارس 2023، قبل أن تصادره هيئة الرقابة المالية (FDIC) في العاشر من آذار/مارس 2023.
تعكس الأزمة المصرفية الحالية عدم الاستقرار الذي يمتد الآن إلى المصارف الإقليمية الأمريكية وكذلك المصارف الأوروبية، مع انهيار مصرف "كريدي سويس" ( Crédit Suisse ) ووضعه تحت إشراف المصرف المركزي السويسري، في التاسع عشر من آذار/مارس 2023، وهي إشارة إلى تحويل أزمة المنظومة المصرفية الأمريكية إلى أزمة مالية عالمية شاملة.
كان الإرتفاع المتدرج منذ آذار/مارس 2022، ثم المُتسارع لأسعار الفائدة الذي أقرّه ونَفّذه الإحتياطي الإتحادي الأمريكي ( FED ) منذ بداية العام 2023، عاملا مُسَرّعًا ( Catalyst - Catalyseur ) لظهور الأزمة، لأن المصارف اعتادت على الإقتراض بدون فائدة (أو بفائدة تُقارب الصّفر) من المصارف المركزية، ثم تستثمرها في مشاريع طويلة أو قصيرة المدى، تختارها بحسب توجّهاتها، وبخصوص مصرف وادي السيلكون فإنه استفاد من ودائع وأموال وأرباح الشركات التكنولوجية الناشئة التي مَوّلها قبل أن تزدهر وتحقق مكاسب مالية هائلة، سواء للمستثمرين أو المُديرين التنفيذيين.
إن انهيار مصرف وادي السيليكون هو انعكاس لازدهار الاستثمار المضارب الذي حدث في صناعة التكنولوجيا على مدار العقد الماضي، لا سيما سنة 2019، وقد غذى الإحتياطي الإتحادي الأمريكي هذا الازدهار التكنولوجي عبر ضخ سيولة هائلة في النظام المصرفي الأمريكي منذ الأزمة المالية لسنتيْ 2008 و 2009، وتواصلت بوتيرة أسْرَع من أيلول/سبتمبر 2019 إلى شباط/فبراير 2022، وأدى الاقتراض بدون فائدة إلى تداول السيولة الفائضة التي تم ضخها بكثافة في قطاع صناعة التكنولوجيا، مما أدى إلى تغذية فُقّاعة الاستثمار المفرط في هذا القطاع، قبل أن يبدأ الإحتياطي الإتحادي ( FED ) رَفْعَ أسعار الفائدة سنة 2022 بأسرع معدل في تاريخه، مما أدى إلى إغلاق صنبور الأموال السهلة والمجانية ومما تسبب في الأزمة الحالية التي امتدت إلى المصارف الأوروبية.
ترافق عدم الاستقرار المصرفي مع عمليات سحب ضخمة للأموال من قبل المودعين، وانهيار أسعار أسهم المصارف والمؤسسات المالية، ومع زيادة تكلفة التأمين في حالة التخلف عن سداد القروض المصرفية.
كان انهيار العملاق المصرفي الأوروبي، كريدي سويس، نتيجة مباشرة لعدم استقرار النظام المصرفي الأمريكي.
عندما يصبح أي مصرف مثقلًا بالديون ، فإنه يعاني من انخفاض حاد في التدفقات النقدية ومن فقدان السيولة اللازمة لسداد خدمة الدين (رأس المال والفائدة المستحقة)، ويُؤَدِّي شُح السيولة إلى عدم استقرار المؤسسات المالية مثلما حصل لمصرف وادي السيليكون والعديد من المصارف الإقليمية الأمريكية الأخرى، قبل أن تمتد الأزمة بسرعة إلى المصارف الأوروبية.
استفادت المصارف من المال العام، بقرار سياسي من الحكومات، ضمن عملية واسعة أُطْلِقَ عليها آنذاك "تأميم الخسائر وخصخصة الأرباح"، خصوصًا منذ 2008، ثم قررت إدارة دونالد ترامب، سنة 2017، خفضًا ضريبيًا بقيمة 4,5 مليار دولار للمستثمرين والشركات في قطاع التكنولوجيا المزدهر، وأدّى هذا التخفيض الضريبي إلى توفير الشركات الأمريكية المُدْرَجة بمُؤَشّر (Fortune 500 ) هذا المبلغ ( 4,5 مليارات دولارا) وتوزيع 3,5 مليارات دولار في عمليات إعادة شراء الأسهم وتوزيعات الأرباح على مساهميها خلال السنوات الثلاث 2017-2019 لوحدها.
في أيلول/سبتمبر 2019، ضخ الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي 1,5 مليار دولار من السيولة لإنقاذ سوق سندات إعادة الشراء، وأكثر من 5 مليارات دولار في الاقتصاد في السنة المالية 2019-20.
في آذار/مارس 2020 ، ضخ الاحتياطي الفيدرالي 4 تريليونات دولار في النظام المصرفي الأمريكي (خلال فترة وباء كوفيد 19). كانت المسألة من الناحية النظرية تتعلق بتجنب أزمة مصرفية جديدة شبيهة بأزمة 2008-2009، إلا أنه لم تكن هناك أزمة مصرفية، بل كانت عملية إنقاذ استباقية أو ضخ أموال لم تكن المصارف في حاجة إليها على الإطلاق، وبذلك حصل النظام المصرفي على أربع تريليونات دولارا، مجانًا، من آذار/مارس 2020 إلى شباط/فبراير 2022، وهو مبلغ ضخم تدفق إلى أسواق الأصول المالية، وإلى قطاع التكنولوجيا المزدهر آنذاك وإلى شركات التكنولوجيا الناشئة، وسمحت معدلات الفائدة الصفرية الناتجة عن هذه السيولة لشركات التكنولوجيا، خلال أزمة "كوفيد -19"، بإصدار سندات الشركات الخاصة بها بوتيرة قياسية، وعلى سبيل المثال تراكمت لدى مجموعة "آبل كوربوريْشِن" ( Apple Corp ) سيولة تجاوزت قيمتها 252 مليار دولارا.
بدأ الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (Fed) في رفع أسعار الفائدة في آذار/مارس 2022، وأدت زيادة أسعار الفائدة إلى انكماش مماثل في أسعار السندات، وسرعان ما تأثّر مصرف وادي السيليكون سَلْبًا بهذا القرار، فهَوَتْ قيمة ألأسْهُمه في البورصة، وأصبح "في المنطقة الحمراء"، وحاولت إدارة المصرف تصحيح استراتيجيتها ولكن مع استمرار انخفاض أسعار السندات مع مواصلة الاحتياطي الإتحادي الأمريكي رفع أسعار الفائدة بوتيرة متسارعة، وفَقَدَ مصرف سيليكون فالليه ( مصرف وادي السيليكون) نحو مليارَيْ دولار في محاولته بيع السندات، ثم بدأت الشركات الناشئة في سحب أموالها ونقلها إلى مصارف أخرى، ولم يكن لدى المصرف الوقت الكافي للتغلب على هذه المشكلة، من خلال الحصول على قرض تجسيري ( لفترة قصيرة تمكّنه من تدبّر مقدار السيولة التي يحتاجه ) أو بيع بعض أفضل أصوله لجمع الأموال، وفي الوقت نفسه، تسارعت عمليات سحب الودائع، ما جعل المصرف يعجز عن سداد ديونه...
أما المشاكل الجوهرية الأخرى التي تواجه المصارف فهي تطور التكنولوجيا وإدارة الزبائن لحساباتهم بأنفسهم لعمليات الإيداع والسّحب، بواسطة الأنترنت، فمن جهة تمكنت المصارف من خفض الإنفاق على إيجار المَحَلاّت وما يرافقها من نفقات إنارة وهاتف وغير ذلك، ومن ناحية أخرى، أصبح المُودِعُونَ قادرين ببساطة على إغلاق حساباتهم أو تحويل أموالهم، عبر الإنترنت، إلى مصرف آخر، قبل أن يغلق المصرف خوادمه.
في أعقاب انهيار مصرف وادي السيليكون (SVB )، أعلن الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة الأمريكية عن تسهيلات جديدة لإنقاذ المصارف، وهي الأولى من نوعها منذ سنة 2008، بتمويل من الحكومة بقيمة 25 مليار دولار، وأعلن الاحتياطي الإتحادي استعداده لِمَنْحِ المصارف قروضًا قصيرة الأجل منخفضة التكلفة، في الحالات الطارئة، وخلال الأسبوع الأول لهذا الإعلان، اقترضت المصارف الإقليمية الأمريكية أكثر من 165 مليار دولار، كما أعلن مجلس الاحتياطي الإتحادي الأمريكي يوم الأحد 19 آذار/مارس 2023، أنه سيوفر على الفور مقايضات العملات مع المصارف المركزية الأخرى في أوروبا واليابان لتمكين ضخ السيولة بالدولار في المصارف الأجنبية، وتخشى المصارف المركزية الآن من عدم الاستقرار المالي والإنهيار الذي قد ينتشر من المصارف الأمريكية الإقليمية إلى المصارف الأخرى ما قد يُؤَدِّي إلى إفلاس الأَضْعَف ، لكن المُفاجَأَة تمثّلت في انهيار مصرف كريدي سويس العملاق، وهو ثاني أكبر مصرف سويسري، وذو مكانة هامة في أوروبا والعالم، واجتمع ممثلون عن المصارف والمصارف المركزية والهيئات التنظيمية الحكومية، خلال عطلة نهاية الأسبوع من 18 إلى 19 آذار/مارس 2023، لدراسة كيفية وقف أزمة الثقة في الأنظمة المصرفية.
في أوروبا، أجبر المصرف المركزي السويسري، المصرف المُنهار "كريدي سويس" على الاندماج مع اتحاد المصارف السويسرية" ( -union- des Banques Suisses ) الذي يستفيد من قرض من المصرف الوطني السويسري بقيمة 100 مليار دولار، وضمانة حكومية سويسرية بقيمة 9 مليارات دولار، وجاءت هذه الخطوة لاستعادة الثقة بالنظام المصرفي السويسري، ولإعادة الإستقرار لسوق السندات المصرفية الأوروبية البالغة قيمتها 275 مليار دولارا، والمُهدّدة بالإنهيار، حيث تراجعت أسهم المصارف الأوروبية بنسبة 15% خلال الأسبوع المنتهي يوم الجمعة 17 آذار/مارس 2023، بينما انخفضت أسعار أسهم المصارف الإقليمية الأمريكية بنسبة 22%، يؤدي هبوط أسعار أسهم المصارف إلى تسريع عمليات السحب من المصارف الأضعف إلى المصارف الأقوى، ويتحمل الاحتياطي الإتحادي الأمريكي (Fed) والمصارف المركزية الأوروبية مسؤولية عدم الاستقرار المصرفي، بسبب ضخ السيولة الهائل، والمجاني، من مال ضرائب الأُجَراء والكادحين (الضريبة على الدّخل) والفُقراء (الضرائب غير المباشرة) مما غذى فقاعات في قطاعات التكنولوجيا والصناعات الأخرى على مدار العقود الماضية وخاصة منذ آذار/مارس 2020.
كان من الممكن تلافي أزمة المصرف السويسري (كريدي سويس) ففي تموز/يوليو 2021، أجرى مكتب استشارات تدقيقًا (تحقيقًا داخليًا) لإدارة المصرف، ونشر المكتب تقريرًا مؤلفًا من 165 صفحة حول خسارة البنك 5,5 مليارات دولار من خلال إجراء معاملات مشبوهة مع أحد صناديق التّحَوُّط الذي أفلسَ في آذار/مارس 2021، وانتقد التقرير السياسات المالية لإدارة المصرف التي تركز على تعظيم الأرباح قصيرة الأجل ، ثم تم الإبلاغ عن تدهور حالة المصرف السويسري، في تشرين الأول/أكتوبر 2022، من قِبَلِ هيئة رقابة أمريكية "غير ربحية" التي نَبّهت إلى مكانة المصرف السويسري في اللعالم، وهو مترابط بشدة مع النظام المالي العالمي، وسوف تكون لفشله تداعيات واسعة النطاق وكارثية، وكانت سمعة المصرف السويسري قد تَشَوّهت منذ سنة 2019، بعد التنبّه إلى تورطه في فضائح تتعلق بالتجسس على زبائنه وموظفيه.
خاتمة
استفاد النظام المصرفي (وبنوك الظل وشركات التأمين وشركات صناعة السيارات وغيرها ) من الأموال العامة المجانية بين عامَيْ 2008 و 2010 وإلى غاية 2014 في أوروبا، التي ضَخّتها الحكومات دون استشارة المواطنين (تلك هي الديمقراطية؟) ثم تكرر ضخ المال العام، بمناسبة الأزمة الصحية والإغلاق (كوفيد – 19) بين سنتيْ 2020 و 2022، واتجهت هذه الأموال بشكل أساسي إلى أسواق الأصول المالية أو إلى الخارج، لإثراء كبار المضاربين التكنولوجيين والماليين، بينما تستمر الأزمة لفئات العمال والفلاحين والمُعطلين عن العمل والفقراء، حيث تم تسريح عشرات الملايين من الأُجراء خلال كل أزمة (حوالي 200 مليون عامل خلال أزمة وباء كوفيد وفق تقديرات منظمة العمل الدّولية) ولم يؤد ضخ المال العام إلى انتعاش الإقتصاد الحقيقي ( أي المادّي أو الإقتصاد المُنْتِج لحاجيات المواطنين، كالفلاحة والصناعة)، لأنه لم يُستثمر في قطاعات إنتاجية أو كثيفة العمالة، على العكس من ذلك، فقد تم توجيهه نحو المُضاربة والفُقّاعات واستؤنفت بذلك ديناميات الأزمة المالية، لأن المضاربة المالية أكثر ربحية من الإستثمار في القطاعات المُنْتِجَة، وبينما يعاني الاقتصاد الحقيقي ويتعثر، فإن بعض الرأسماليين يزدادون ثراءً بشكل لا يصدق...
في البلدان الفقيرة، أدّت أزمات القرن الواحد والعشرين، خصوصًا من 2008 إلى 2022، إلى كوارث إنسانية، تمَظْهَرَتْ في زيادة هيمنة الدّائنين، وفي ارتفاع حجم البطالة والفقر وخصخصة التعليم والمرافق الصحية، وانخفاض قيمة العملات المحلية، وتمظهرت في زيادة عدد اللاجئين إلى أوروبا هربًا من الفَقر والحروب التي أَجّجَتْها أوروبا وأمريكا الشمالية وحلف شمال الأطلسي في بلدان "الجنوب"، وزيادة عدد الضّحايا في البحر الأبيض المتوسط، كما في طريق الهجرة من أمريكا الجنوبية إلى الولايات المتحدة...
إن إدْراكَ ماهِيّة المَشاكل والمواضيع التي تُقَدّمها وسائل الإعلام بشكل مُشَوّه أو منقوص، وفِهْمَ ما يجري حولنا، في هذا العالم، ضرورِي للتفكير في البديل (أو البدائل)، وفي ما يعترضنا من صعوبات، ما قد يُحفِّزُنا على تثبيت خطواتنا، ولو بِبُطْءٍ.