في نقد الطائف نصاً وممارسة


محمد علي مقلد
2023 / 3 / 22 - 11:40     


أخرج اتفاق الطائف الميليشيات المتحاربة في لحظة عجزها من حروبها الخاسرة. وحده النظام السوري ظل يمتلك القوة والكلمة الفصل، خصوصاً بعد منحه ثقة عربية ودولية جعلته شريكاً، عن بعد، في اختيار مفردات الاتفاق وصياغاته، فيما كان النواب اللبنانيون المجتمعون في مدينة الطائف برئاسة رئيس البرلمان حسين الحسيني يركزون اهتمامهم على توزيع الصلاحيات داخل السلطة السياسية.
نجح الاتفاق في إيقاف الحرب وفشل في معالجة أسبابها لأن واضعي النصوص، أي البرلمان والنظام السوري، انطلقوا من تشخيص مغلوط اختزلوا فيه الأسباب بالصلاحيات وبالطائفية. ففي غياب صلاحيات ما قبل الطائف أمكن لرئيس الحكومة أن يعطل الدولة يوم اعتكف رشيد كرامي، وفي غيابها ما بعد الطائف أمكن لرئيس الجمهورية إميل لحود أن يعطل الدولة وللرئيس ميشال عون أن يدمرها.
أما الطائفية فهي ليست سوى شكل من أشكال التعدد والتنوع في المجتمع، هي مشكلة في أنظمة الاستبداد، وحلها متوفر في الأنظمة الديمقراطية. هي في لبنان موجودة في المجتمع لا في النظام. النظام ليس طائفياً. أهل النظام الذين يستثمرون في الطائفية هم الطائفيون. هذا يفسر كيف أن الرأسمالية اللبنانية كانت تدار بعقل سياسي قروسطي.
في الاتفاق مصطلحات كثيرة تتعلق بالمسألة الطائفية في لبنان، "ميثاق العيش المشترك"، "خارج القيد الطائفي"، "أساس وطني لا طائفي"، "إلغاء الطائفية السياسية"، "إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي"، "دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة".
لا تجدي الوصفات الطائفية في علاج الطائفية، لا العلمنة ولا إلغاء الطائفية السياسية ولا قانون اختياري للأحوال الشخصية. هذه كلها تستنفر الغرائز بالسرعة التي يحددها رواد الزجل الطائفي ومقاولوه، سياسيين ورجال مخابرات من كل الرتب، ورجال دين من كل الألوان والقلنسوات والعمائم.
وصفة واحدة يهرب المسؤولون من تجرعها، من شأنها نقل البلد من الولايات إلى الوطن، الوصفة هي الدولة. دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص والفصل بين السلطات وتداول السلطة، دولة الحريات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. مبدأ الكفاءة يحل جزءاً من المشكلة، والقانون يتكفل بجزء آخر إذا ما استطاع أن يعاقب سياسيين يدّعون حقوقاً للطوائف، ورجال دين يوزعون فتاوى تكفير وشهادات إيمان تشبه صكوك الغفران.
في باب الإصلاحات منحت وثيقة الوفاق الوطني رؤساء الطوائف اللبنانية حقوقاً سياسية (مراجعة المجلس الدستوري في ما يتعلق بالأحوال الشخصية وحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية وحرية التعليم الديني)، "تأميناً لمبدأ الانسجام بين الدين والدولة"، فخلقت مسوغاً لانتهاك الدستور، انطلاقاً من المبدأ (ي) الذي ينص على أنه "لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك"
الدين والدولة حقلان من النشاط البشري لا تقوم العلاقة بينهما على العواطف والمشاعر بل على مبدأ الفصل بين السلطات. الدولة الحديثة لا تقبل أن ينازعها أحد على سيادتها لا سلاح غير سلاحها ولا قوة غير قواتها الأمنية ولا قانون غير قانونها أو دستور غير دستورها. لذلك فإن الإشارة الواردة في اتفاق الطائف إلى قانون الأحوال الشخصية المختزل في السجال اليومي بالزواج المدني تندرج، كما سائر الشعارات المتحدرة من شجرة العائلة ذاتها، في سياق حوار عقيم يؤجج المشاعر الطائفية.
نقترح تعديلاً مزدوجاً على الاتفاق، يقضي الشق الأول بأن تلغى من اللغة السياسية الرسمية كل المصطلحات والعبارات التي تحيل إلى تصنيف اللبنانيين على أساس طائفي، بما في ذلك الكلمات التي تطلق بحسن نية، كالشراكة والعيش المشترك. نحن مواطنون لبنانيون فحسب.
أما الشق الثاني فيقضي بسن قانون للأحوال الشخصية يخص الدولة يضاف إلى القوانين المذهبية ولا يحل محلها، على أن يوكل البت بقضايا الأحوال الشخصية إلى القضاء المدني الذي يحكم باسم الشعب اللبناني، (لا باسم الآب والإبن والروح القدس ولا باسم الله الرحمن الرحيم) استناداً إلى قانون الدولة أو إلى أي قانون مذهبي يختار المواطن الاحتكام إليه. الحل إذن بإلغاء السلطة القضائية الموازية لا بإلغاء قوانين الأحوال الشخصية.
في النص أيضاً لا يتساوى الرؤساء أمام القانون. الشروط التي ينبغي توافرها تجعل من محاسبة رئيسي الجمهورية والبرلمان أمراً صعباً إن لم يكن شبه مستحيل، فيما محاسبة رئيس الحكومة أمر ممكن أمام المجلس النيابي أو بالإقالة عن طريق بدعة الثلث المعطل.
*****
أما في الممارسة فقد تعاون السياسيون اللبنانيون مع نظام الوصاية على إلغاء الجوانب الإيجابية من الاتفاق باعتماد إجراءآت تطبيقية، هي في الحقيقة أحد أشكال تعليق الدستور، على الطريقة المعتمدة في جمهوريات الوراثة. حين اكتشف اللبنانيون ذلك واعترضوا عليه حلت الكارثة باغتيال رفيق الحريري.
أول مظاهر تعليق الدستور بدعة الترويكا. بموجبها صار للبنان ثلاثة رؤساء بدل رئيس واحد. مجلس رئاسي بصلاحيات محدودة جداً. أما القرارات الكبرى فمناطة برأس النظام الأمني في عنجر ودمشق، وما الترويكا سوى جهازه التنفيذي.
فكرة الدولة لم تكن من الأولويات لدى الأحزاب اللبنانية ونهج الممانعة يطمس الفكرة ويستبدلها بشعارات ميليشيوية. نظام الوصاية مشغول بإدارة الشأن اللبناني على إيقاع استراتيجية تسعى إلى تمديد حالة اللاتسوية مع إسرائيل حتى آخر مقاوم في جمول وآخر مظهر من مظاهر السيادة الوطنية، وحتى تحويل الجنوب كجاره الجولان من قبله مادة للمساومة. لهذا السبب بالذات تفاجأت الممانعة بانسحاب الجيش الإسرائيلي وارتبكت عندما طرح عليها بسط سيادة الدولة على الجنوب بواسطة الجيش اللبناني.
أولويات السلطة اللبنانية كانت مدوزنة على نهج الوصاية. إما معه إما ضده. النائب في البرلمان اللبناني كما الوزير في الحكومة كانا يعملان كمخبرين في جهاز الأمن السوري. أما المعارضة الصريحة والمضمرة فكانت تربكها العلاقة بالشقيقة، أهي احتلال أم وجود أم علاقات مميزة؟ أياً يكن الجواب، المهمات المترتبة عليه مغلوطة.
تم اختزال النظام الديمقراطي البرلماني بالمحاصصة بمعناها السلطاني، أي المرابعة والمخامسة والمزارعة والمساقاة، وهي صيغ متنوعة لتنظيم العلاقة بين الفلاح والإقطاعي في الولايات العثمانية.(...إذا بدك اعطيه من حصتك) أخطر ما في هذه الظاهرة أن الحصص كانت دوماً من نصيب متنفذين ومراكز قوى حزبية بارعة ببيع الجماعة أوهام الدفاع عن مصالح الطائفة.(...المارونية السياسية والشيعية السياسية نموجاً)
بعد انسحاب القوات السورية بدل تعليق الدستور انتهاكه الفاضح بالجملة والتفصيل. عدم الفصل بين السلطات. تحويل القضاء من سلطة إلى جهاز إداري، مصادرة حق المجلس الدستوري بتفسير الدستور، استبدال الكفاءة بالزبائنية، الإمعان بالممارسة الطائفية، لا مجلس شيوخ ولا برلمان خارج القيد الطائفي، محاصصة في الوظائف العامة والحكومات وتصنيف الوزارات بين سيادية وخدماتية وسواها، تخصيص بعض المراكز الحكومية والإدارية كأنها ملكيات خاصة بزعماء الطوائف، عدم احترام المهل الدستورية، تعطيل المؤسسات الحكومية وإقفال البرلمان ومعه الوسط التجاري.
كان ينبغي أن يحال المتركبون بتهمة الخيانة العظمى. لكن المجرم راح يكرر فعلته بدم بارد عندما أوكل الطائف بناء السلام إلى صناع الحرب، واليوم يتولى أرباب الفساد أمور الإصلاح.
أميل إلى الاعتقاد بأن المعارضة اليوم لن تكرر أخطاء الماضي. فهي تعلمت من بعضها، كما أن ثورة السابع عشر من تشرين ألزمتها بحمل قيم جديدة، على رأسها تعميم الوعي بأهمية دور الدولة.

• أعد هذا النص للمشاركة في تكريم الرئيس حسين الحسيني في النادي الثقافي العربي.