رُوزنامةُ الأسبوع أبْشِر يَا أبَا ضَفِيرَة!‎


كمال الجزولي
2023 / 3 / 22 - 11:38     

الاثنين
في كتابه عن "الدِّين والفن" أفرد الإمام الصَّادق المهدي، عليه رحمة الله ورضوانه، مبحثاً خاصَّاً حول "الفن في السُّودان"، أورد فيه أن عالم الآثار السويسري تشارلس بونيه روى له أنه، لمَّا همَّ بالشُّروع في حفريَّات "كرمة" نصحه زملاؤه بألا يضيِّع وقته في ما لا جدوى من ورائه، حيث المنطقة جنوبيَّ مصر، على حدِّ قولهم، محض جغرافيا بلا تاريخ! غير أنه أصرَّ أن يمضي في مشروعه إلى نهايته، فإذا بحفريَّاته المتعاقبة التي ظلَّ يجريها على حسابه الخاص، طوال خمسين سنة، تثبت أن تاريخ وادي النِّيل، بدأ في السُّودان. واعترافاً بفضله وصفه الإمام بـ "السُّوداني الأبيض"، مقترحاً دفنه، حين تأتيه المنيَّة بعد طول عمر، في أحد أهرامات المنطقة، بموافقة أسرته، ولا حرج في صليبه.
واستطرد الامام، نقلاً عن بونيه، أن تلك الحفريَّات كشفت أشكالاً من فنون النَّحت والعمارة والخزفيَّات ذات الجَّودة العالية، والارتباط الوثيق بالأديان القديمة، والرُّسومات والأيقونات الكنسيَّة في العصر المسيحي النُّوبي، والتي اتَّخذت في العصر الاسلامي طابعاً متأثِّراً بالبيئة الثَّقافيَّة، وترميزاتها التَّشكيليَّة، كطبول الصُّوفيَّة، والطَّاقيَّة ام قرينات، والككر، وخلافه.
وأشار الإمام إلى ما نقل له المرحوم السَّفير الحاردلو من حديث سمعه، خلال تولِّيه السَّفارة في داكار، من الرَّئيس الشَّاعر المفكِّر، والباحث ليو بولد سنغور، شخصيَّاً، حيث قال له "إن "الحضارة الانسانيَّة الأولى تعود لأجدادكم النوبيِّين، سادة الصِّناعة الأولى، والزِّراعة، والمعرفة، والشِّعر، والفنون، والاهرامات"، وهي ذات المعاني التي أكَّدها عالم الآثار هرمان بل بقوله: "إن السُّودان هو أصل حضارة وادي النِّيل"؛ وقد قدَّم الشَّيخ أنتا ديوب، في كتابه "الأصول السَّوداء للحضارة المصريَّة" الكثير من الأدلَّة على هذه الحقيقة. كما وصف وليم آدمز، في كتابه "النُّوبة رواق أفريقيا"، مجد الحضارة النُّوبيَّة، وصلتها بأفريقيا السَّوداء.
وفي ختام مبحثه الحميم ذاك، حقَّ للامام أن يتحسَّر على تاريخنا القديم المهمل إلا من بضع مؤلفات مثل "كاتب الشُّونة"، و"طبقات ود ضيف الله"، والكتب التي أمر ونجت باشا، رئيس مخابرات جيش الاحتلال في مصر، مؤلفيها بوضعها، وقد وصفها المؤرِّخ الأكاديمي البريطاني بيتر هولت، عميد كليَّة التَّاريخ بجامعة الخرطوم سابقاً، بأنها أدبيَّات دعاية حربيَّة لتبرير غزو السُّودان.

الثُُّلاثاء
تلقَّيت مساء اليوم إيميلاً من أخ اسمه عبَّاس التيجاني، يكتب، كما قال، من "آخر الدُّنيا"، على حدِّ تعبيره (؟!) معرِّفاً نفسه بأنه صديق قديم للرُّوزنامة، وإن أكثر ما يجذبه إليها الطَّرائف الذَّكيَّة، وشرح المفاهيم الفكريَّة والسِّياسيَّة، لكنَّه لامني بشدَّة على عدم استجابتي لرجاء قال إنه ساقه إليَّ قبل وقت طويل، طالباً أقصر شرح، بالمختصر المفيد، لـ "الماركسيَّة"!
الشُّكر أجزله للتِّيجاني، ومرحباً به وبصداقته التي تشرِّفني حقَّاً، على أنني أؤكِّد له عدم استلامي من "آخر الدُّنيا" لإيميله الذي أشار إليه، فليراجعه، حتَّى لا يكون قد ذهب إلى "آخر دنيا" أخرى!
أمَّا التَّعريف الأكثر اقتضاباً لمفهوم "الماركسيَّة" فربَّما كان هو الوارد ضمن مؤلَّف إنجلز "لودفيغ فويرباخ ونهاية الفلسفة الألمانيَّة الكلاسيكيَّة"، ويتلخَّص في أربع مسائل: (1) البشريَّة جزء متميِّز من الطبيعة (2) العالم المادِّي مستقل عن الوعي الإنسـاني (3) معرفـة هذا العـالم ممكــنة وإن تكن غيـر مطلقـة (4) الفكر البشري ينشأ من العالم المادِّي وليس العكس.

الأربعاء
ينتسب أغلب مستعربي السُّودان المسلمين إلى العنصر النوبىِّ المنتشر على امتداد الجُّغرافيا من أقاصى الشَّمال إلى مثلث الوسط الذَّهبي (الخرطوم ـ كوستي ـ سنار)، أو ما يُعرف بـ «الجَّلابة»، أي الطبقات والفئات والشَّرائح التي استحوزت على الجزء الأكبر من الثَّروة، عبر القرون، وتشكّل في رحمها التَّيَّار «السُّلطوي» المستعلي بالعِرق «المستعرب!»، وبلغة العرب، وبدين وثقافة «الاسلام». فرغم أصولها النُّوبيَّة، إلا أنَّها لم تعد تستبطن الوعي بتلك «الهُويَّة»، بل تزعم تشكُّلها كنموذج «قومىٍّ»!
وهكذا فإن المشكلة ليست في هذه السَّيرورة «الهويويَّة»، إنَّما في الأسلوب القامع الذي اتَّبعته هذه القوى في الاستعلاء على من تتوهَّم أنهم دونها، ضربة لازب. لقد ذوت «الهويَّة» القديمة فى وجدانها، ولم يعُد لـ «نوبيَّتها» أىُّ معنى، ومع ذلك انطلقت تقدِّم نفسها، ولغتها، وثقافتها، ودينها الجَّديد في المستوى «القومي»، دون استيفاء أشراط تشكُّلها كنموذج "كلىٍّ" يعكس المجموع السُّوداني، أو منظومة «تنوُّعه»، فما تزال تعبِّر، فحسب، عن محض إدراك نيلىٍّ شمالىٍّ!
ولأنه ليس في وسعنا، هنا، تتبُّع السَّيرورة التَّاريخيَّة المعقَّدة لرأسماليَّة المستعربين المسلمين الطفيليَّة الرَّاهنة، فسنكتفي بالاشارة إلى أهمِّ محطاتها، كالدفعة الكبيرة التى تلقَّتها من الادارة البريطانيَّة (1898م ـ 1955م)، عندما احتاجت الأخيرة إلى «مؤسَّسة سودانيَّة» تدعمها من فئة كبار التِّجار الذين مكَّنتهم خدمتهم، وقتها، لرأس المال الأجنبي في السُّوق المحلي من مراكمة ثروات أعادوا استثمارها، لاحقاً، في تجارة الاستيراد والتَّصدير، أو في بعض الصِّناعات التَّحويليَّة، قبل أن يتفرَّغوا، منذ أواخر السَّبعينات، للمضاربة في العقارات والعملات .. الخ، بالاضافة إلى الأرستقراطيَّة القبليَّة والطائفيَّة التي مُكِّنت من الأراضي والثَّروات، وكذلك الشَّرائح العُليا من خرِّيجي «الكليَّة» الذين لعبت دخولهم العالية دوراً مهمَّاً في تشكيل نزعاتهم المحافظة. وبصورة عامَّة جرى تكوين تلك المؤسَّسة على النَّحو الآتي:
(1) في ملابسات نشأة نظام التِّجارة البسيط، على نمط التَّشكيلة ما قبل الرَّأسماليَّة، وازدهار التِّجارة الخارجيَّة برعاية السَّلاطين، على غرار قوافل التِّجارة الموسميَّة في مكة مع بدايات الانقسام الطَّبقي، وانحلال النِّظام البُدائي خلال القرنين الخامس والسَّادس الميلاديَّين، واندغام مختلف فئات وشرائح التِّجار، والموظفين، والفقهاء وقضاة الشَّرع "أهل العلم الظَّاهري"، فى "السلطة الزَّمنيَّة"، من باب خدمتهم للطَّبقة الأرستقراطيَّة العليا "السَّلاطين، والمكوك، وحكام الأقاليم"، وما كانوا يجنون، ويعيدون استثماره، من امتيازات تحلُّقهم حول مركز السُّلطة.
(2) ولكون المراكمة، بطبيعتها، بطيئة، فقد أمكن، فقط في خواتيم القرن السَّابع عشر ومطالع الثَّامن عشر، أن يفضي التَّراكم الكمِّى لتناقضات مصالح تلك الشَّرائح، إلى تغيُّر كيفي في النِّظام التِّجاري، بحيث انتهى إلى تفكُّك الدَّولة ذاتها مع مطالع القرن التَّاسع عشر، بأثر تراجُع دور السَّلاطين خلال القرن الثَّامن عشر، نتيجة تشجيع التِّجار الأجانب لصغار التِّجار المحليِّين على اقتحام التِّجارة الخارجيَّة، والتَّعامل بالعملات الأجنبيَّة، والانعتاق من الذَّيليَّة لتجارة السَّلاطين، وانحلال قبضة السَّلاطين على الأراضى، وحلول ملكيَّتها الخاصَّة محلَّ ملكيَّة الدَّولة، وتكبيل الرُّعاة، والمزارعين العبيد والأقنان، بالمزيد من علاقات الانتاج العبوديَّة والاقطاعيَّة، وتعمُّق التَّناقض بين السُّلطة السِّياسيَّة المفكَّكة، والنُّموِّ المتسارع للنَّشاط التِّجاري، مع تزايد حاجته إلى قوَّة مركزيَّة تضمن الأمن، والسُّوق الموحَّدة، والحدود الجُّغرافيَّة، وتحدُّ من التَّعدُّد الضَّريبي. ثم جاء تفاقم الحركات الانفصاليَّة، وصراعات أجنحتها، لتنسلخ مناطق بأكملها، كمنطقة الشَّايقيَّة، عن المملكة، وتعلو دعوة مناطق أخرى لمحمد علي باشا للتَّدخُّل.
(3) بالمقابل، كانت هناك قوى الانتاج البدوي في قاع المجتمع، والمُكوَّنة من الرَّقيق، ورعاة الإبل والماشية، وحِرَفيىِّ الانتاج السِّلعي الصَّغير في القرى، بالاضافة إلى مزارعي الأراضي المطريَّة والرَّى الصِّناعى، الرَّازحين بين مطرقة السَّيطرة المطلقة للسَّلاطين، وسندان النُّفوذ الاقتصادي للتِّجار، بنظام "الشِّيل"، حيناً، و"السُّخرة"، و"المشاركة" فى الانتاج، أحياناً. وتنتسب إلى قاع المجتمع هذا، بالأساس، قبائل الجَّنوب، وجبال النُّوبا، والنِّيل الأبيض، والفونج بجنوب النِّيل الأزرق، مِمَّن اعتبروا مورداً رئيساً للرَّقيق، والعاج، وسلع أخرى كانت تُنتزع بالقوَّة، ما رتَّب لتأثيرات سالبة على المناطق المذكورة.
(4) ألقت تلك التَّأثيرات بظلالها السَّالبة على "اللغة" و"الثَّقافة". فعلى حين لم يُفض انهيار الممالك المسيحيَّة إلى "محو" المسيحيَّة نفسها، بضربة واحدة، كديانة و"ثقافة" سائدتين، حسبما يعتقد بعض الكتاب خطأ، كجعفر بخيت، مثلاً، بدأت تتشكَّل خصائص الفضاء الرُّوحي لذلك النَّشاط المادِّي، وفق المعايير "الثَّقافيَّة" لمؤسَّسة "الجَّلابي" السَّائدة، مثلما بدأت تتكوَّن "الهُويَّة" التي يطلق عليها، زوراً، "الشَّخصيَّة السُّودانيَّة"، تعميماً لشخصيَّة "الجَّلابي" المنحدرة من العنصر النُّوبي المستعرب بتأثير "العنصر العربي" الذي ظلَّ ينساب داخل الأرض السُّودانيَّة منذ ما قبل الاسلام، ثمَّ بتأثير "الثَّقافة الاسلاميَّة" التي ظلت تشقُّ طريقها منذ 641م، عبر المعاهدات، وعمليَّات التَّبادل التجاري، ثم، لاحقاً، بتأثير البعثات الأزهريَّة، والفقهاء الذين استقدمهم مكوك سنار من مصر، فضلاً عن المتصوِّفة، ومشايخ الطرق الذين قدموا من المشرق والمغرب. ومع مرور الزَّمن أخذت تلك الخصائص تتمحور حول النَّموذج "القومى" المتوهَّم وفق المقايسات "الهُويويَّة" لذهنيَّة ووجدان "الجَّلابي" اللذين تشكلا على الخوف المتوارث من العالم الميتافيزيقىِّ الخفىِّ للاغيار المساكنين أو المجاورين، وجُلهم من الزِّنج الذين يجلب "الجَّلابي" إليهم ومنهم بضاعته، مُلقياً بنفسه في لُجج مخاطر لم يكن لديه ما يتَّقيها به سوى التَّعويل، حدَّ التَّقديس، لا على الفقهاء وقضاة الشرع "أهل العلم الظاهري"، فأولئك وجدهم يجوسون معه في عرصات الأسواق، وأبهاء البلاط، فباخت هيبتهم فى نفسه، إنَّما على السُّلطة "الرُّوحيَّة" للأولياء، والصَّالحين، وشيوخ المتصوِّفة "أهل العلم الباطني" المنحدرين، بالأساس، من ذات جماعته الإثنيَّة المستعربة المسلمة، والزَّاهدين في ذهب السَّلاطين ونفوذهم، والقادرين، وحدهم، على أن "يلحقوا وينجدوا" بما يجترحون من "ثقافة" الكرامات، والخوارق، والمعجزات التي ترتبط عنده، فى الغالب، بصيغ "لغويَّة" تتمثل فى ما "يكتب" أولئك "الفُقرا"، في ألواحهم، وما "يمحون"، فيمسُّه، من ذلك، ما يمسُّه من خير أو شر (الطبقات لود ضيف الله)، مِمَّا زاد من تشبثُّه بـ "العلم الباطني" لتينك اللغة و"الثَّقافة"، وضاعف من رهبته إزاء أسرارهما الميتافيزيقيَّة، مثلما فاقم من استهانته بـ "رطانات" المساكنين الأغيار من زنج وخلافهم، وأسَّس لاستعلائه عليهم.
مهَّد ذلك، بمرور الزَّمن، لتكوُّن حجاب حاجز كثيف بين العنصرين في وعي "سنَّار" الاجتماعي، فاستعصم الأغيار مع لغاتهم و"ثقافاتهم" بالغابة والجَّبل، وحدث الشئ نفسه في سلطنة الفور ومملكة تقلى. وجرى تعميم النَّموذج مع الحكم التُّركى المصرى عام 1821م، وتأسيس الدَّولة الموحَّدة الحديثة التي تمتلك أدوات تنفيذ عالية الكفاءة، فبرز النَّهج الاستتباعى للثَّقافة القامعة.
لم تفت على كثير من العلماء، كماكمايكل، وترمنغهام، وهاملتون، ويوسف فضل، وسيِّد حريز، وغيرهم ، ملاحظة هذه الوضعيَّة المقلوبة لوهم نقاء "العرق" العربي، وكذا "اللغة" و"الثَّقافة"، والتي استقبل بها "الجَّلابة"، لاحقاً، صورة "الوطن"، ومعنى "الوطنيَّة" و"المواطنة"، بالمفارقة لحقائق قرون من الهجنة والتَّعايش بين العرب الوافدين والعناصر المحليَّة المساكنة، وإن بشكل متفاوت.

الخميس
ربَّما يذكر القرَّاء مخاشنات كانت جرت، ردحاً من زمن مضى، بيني وبين أبي ضفيرة الذي لطالما عددته شيخاً سلفيَّاً متشدِّداً ليس له من تذوُّق الحداثة أكثر من حلب القعود، رغم كونه أستاذاً جامعيَّاً متخصِّصاً في الأدب الفرنسي! وكان، في سجاله معنا، حريصاً، لسبب لا ندريه، على ألا يرينا من شخصيَّته سوى الجَّانب المتزمِّت دينيَّاً، ثمَّ انقطع ما كان بيننا، لسنوات طوال، حتَّى لقد حسبته غادر السُّودان. لكنه فاجأني بالعودة لمكاتبتي عبر قطعة عجيبة يعود تاريخها إلى التَّاسع من مارس الجَّاري، وعنوانها "شرحبيلُ أتاح له بطء الإيقاع أن يتأوَّه بما لو سمعه بوب مارلي لاستعاره منه"، يقول في متنها:
(لا ريب في أن إيقاع الريجي البطيء الذي ينزلق إليه عازف الطَّبل في "الليل الهاديء" لشرحبيل أحمد، والوسيط لدى بوب مارلي في "ريجي ميوزك"، والسَّريع العاجل لدى عثمان حسين في "ليالي المصير"، ثلاث لوحات لمجنَّح يعلو لدى شرحبيل في رقصة حزنه، ويهبط، متأرجحاً بين الجِّهات، ويَكثُر صعوده متأوهاً، قبل أن يهوي ليلتقط حركاته قبل السُّقوط. ولطائر آخر لدى بوب مارلي يجمع، في رقصته، بين الشُّعور بالحزن والشُّعور بالفرح. ولعصفور مغرِّدٍ في "ليالي المصير" حذِرٍٍ في تغريده، رغم إطلاقه العنان لفرحه الجَّزِل: "يا ليالي المصير قولي لخلنا/ أوراق الخريف ثارت حولنا/ يا ليالي الرجاء عودي علنا/ إن لاح الضياء يبدو ظلنا/ في عرض السَّماء في دنيا المنى/ يا ليالي الأمل قولي لخلنا/ البدر اكتمل والدنيا سنا/ لا الجرح اندمل ولا عطفك دنا/ هناك إنت وأنا، أنا ها هنا/ يا ليالي المنى هل ما فات عاد/ أأحبابنا على عهد الوداد/ هل إنت وأنا/ كلنا في السهاد/ سوا كلنا". أما لدى شرحبيل فقد أتاح بطء الإيقاع له أن يتأوَّه بما لو سمعه بوب، لاستعاره منه، ليزن الحزن الذي زاد عليه فرح الريجي الوسيط، ولسمعت طبول "ريجي ميوزك"، ودفوف لويس آرمسترونج، وفرق الجاز الأمريكي، ضربات ما أعجب توافقها مع آهات المغنِّي، وتواقعها مع معاني الشَّجن والأسى الذي ينقله الصَّوت والإيقاعات. وإن كان الجاز، بطريقته في التأليف الموسيقي وآلاته مستورداً، فالريجي أصيل في الإيقاع السُّوداني. إيقاع "ليالي المصير" صار سريعاً لتنفيذه ثلاث ضربات متتالية لا يفصل بينها شيء، وإيقاع "ريجي ميوزك" صار وسيطا بين السُّرعة والإبطاء بتنفيذ سكتة كأنما لا وجود لها بعد الضربة الأولى، ثمَّ يكمل الضَّربات الثَّلاث، فتكاد لا تشعر بالسَّكتة المتلاشية بين الضَّربتين الأولى والثَّانية، وهو ما يمنح الإيقاع نوعا من الاحتفال والحبور. أمَّا انزلاق إيقاع "الليل الهاديء" من الجيرك المتأنِّي إلى الريجي البطئ، فتتيحه اللحظات التي يتأوَّه فيها المغنِّي، وتعمل فيها الطُّبول والطُّـرمبات على مـلء الفراغات النَّغميَّة، فيسرع الإيقاع قليلاً، فيوافق الرِّيجي البطئ. وأمَّا تأوُّهات شرحبيل هنا، ومتابعات الآلات، وهدوء الضَّربات، فأمر يجعل المرء يسأل: “كيف سبق شرحبيل كل مغنيِّي الجَّاز، فأدَّى لحناً جمع بين الحشمة، والرَّقص، والتَّأليف النَّغمي السَّامق في إيقاعات، وتبادلات، ومحاورات بارعة بين أطراف الحدث الفريد"؟!)
وبعد .. فهل هذا كلام أبي ضفيرة .. أم كلام أبي عركي؟! ومع ذلك: أَبْشِر يا أبا ضفيرة .. أَبْشِر بالخير!

الجُّمعة
السُّؤال الأساسي الذي يجابه، الآن، محاولات إطلاق مشروع لـ "العدالة الانتقاليَّة"، هو ماهيَّة "الانتقال" الذي يُطلق بشأنه هذا المشروع؟! وحتَّى نكون أكثر وضوحاً نقول: لو ان هذا الطَّرح تمَّ خلال 2019م أو 2020م، أو حتَّى في أيِّ وقت بعد اندلاع الثَّورة، وقبل انقلاب 25 أكتوبر 2021م، لكانت متصوَّرة معقوليَّة مناقشته والبتِّ فيه. أمَّا وقد "أجهض" الانقلاب الانتقال نفسه الذي كان قائماً، و"اغتال" مؤسَّساته، بما فيها "رئاسة الوزراء"، فهل يُعقل، إن لم يكن من العبث، التَّفكير في "إحياء" مؤسَّسات لم تكن قائمة، أصلاً، مثل "مفوَّضيَّة العدالة الانتقاليَّة"، خاصَّة وأن أهل "الجِّلد والرَّأس" قالوا، قبل أيَّام، قولهم الفصل في هذا الأمر؟!
لقد أصدر آدم رجال، النَّاطق الرَّسمي باسم المنسَّقيَّة العامَّة للنَّازحين واللاجئين، بياناً يؤكِّد عدم استعدادهم للمشاركة في الورش المزمع عقدها لتداول المسألة، لا بالأصالة عن أنفسهم، ولا بتفويض غيرهم، نافياً أيَّة قدرة لهذه الفعاليَّات على تحقيق العدالة للضحايا، بل وصفها بأنَّها محض أداة لشرعنة الانقلاب، ولمقايضة العدالة بتسوية سياسيَّة، ولتكريس مبدأ الإفلات من العقاب، وللتَّستُّر على المجرمين المطلوبين للمحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، واستخدامها كقضيَّة علاقات عامَّة للتَّكسُّب الرَّخيص، وكرافعة سياسيَّة لخداع الضَّحايا الذين لن يكونوا فئران تجارب، أو مطايا لأيَّة جهة للوصول للسُّلطة! ويمضي البيان معلناً عن رفضهم التَّام لهذه الورش، وللاتِّفاق الاطاري خلفها، وعدم اعترافهم بمخرجاتها، فهُم غير معنيين بها، وليسوا جزءًا منها. ويصرُّون على التَّمسُّك بإسقاط الانقلاب، وتحقيق كامل أهداف الثَّورة، ودعم لجان المقاومة، والكنداكات، والشَّفَّاتة، وكلِّ قوى التَّغيير الجَّذري، وصولاً لتكوين حكومة تعبِّر عن الثَّورة وأهدافها، حيث العدالة، وسيادة حكم القانون، ليستا منحة من أحد، بل حقٌّ مستحقٌّ للضَّحايا.

السَّبت
غداة صدور الحكم المخفَّف على المعلِّمة الانجليزيَّة بمدرسة اليونيتي بالخرطوم، وكنت ترافعت عنها لدى اتُّهامها بتعمُّد الاساءة للنَّبي الكريم، اتَّصل بي، هاتفيَّاً، محرِّر صحيفة أوربيَّة معروفة بمزاجها الفضائحي، عارضاً عليَّ مبلغاً خرافيَّاً، بالعُملة الأجنبيَّة، مقابل تزويدهم، فقط، بصورة فوتوغرافيَّة للمعلِّمة في المكان الذي تقرَّر، من باب الحرص على أمنها. أن تقضي فيه ما تبقَّى من أيَّام سجنها القليلة، بعيداً عن مواقع السُّجون الرَّسميَّة، وكنت الوحيد، بخلاف القنصل البريطاني، الذي سُمح له بزيارتها، باعتباري محاميها، إلى حين ترحيلها من السُّودان حسب رغبتها وقرار سفارتها. وعندما ثرت، مبدياً أشدَّ الغضب إزاء ذلك العرض، علَّق الصَّحفي الأوربِّي، وهو في غاية الدَّهشة، قائلاً ما يمكن ترجمته بأنه لا يرى لغضبتي تلك مسوِّغاً، إذ ليس بين "البائع" و"المشتري"، في النِّهاية، أكثر من "يفتح الله"و"يستر الله"!
ظللت، بعدها، محتاراً، لفترة طويلة، من أمر استخفاف ذلك الصَّحفي بكلِّ القيم، ما عدا قيمة واحدة .. المال! لكن، مع كرِّ مسبحة السَّنوات، بهتت تلك الواقعة في ذاكرتي، حتَّى أنسيتها تماماَ. غير أنَّها قفزت، مؤخَّراً، إلى ذهني، في أمر أكثر تعقيداً من مجرَّد القيم السُّلوكيَّة للمثقَّف، وهو أمر المبادئ الفكريَّة، وذلك أثناء مطالعتي مقالة للمفكِّر الاشتراكي الثََّوري البريطاني جون مولينو (1948م -2022م)، عن "رهاب الاسلام" أو "الاسلاموفوبيا Islamophobia"، حيث عزا هذه الظاهرة إلى عوامل مادِّيَّة أكثر منها معتقديَّة، قائلاً إن أسبابها لا تتَّصل بعداء المسيحييِّن للإسلام والمسلمين منذ الحروب الصَّليبيَّة، مثلاً، بل بحقيقة أن من يملكون جغرافيا أكبر احتياطيَّات النَّفط والغاز الطبيعي في العالم مسلمون! فلو كانوا بوذيِّين، أو كانت جغرافيا النَّفط هذه في "التِّبت"، مثلاً، لكنَّا اليوم نواجه "رهاب البُوذيَّة" أو "البودافوبيا Buddaphobia"! تماماً مثلما نواجه تعبئة "مفكِّرين" مثل صمويل هنتنغتون، وكريستوفر هيتشنز، وآخرين، لبيان أن البُّوذية، رغم تأثيرها، في ستِّينات القرن المنصرم، على حركة الهيبيين، هي دين رجعي، بالأساس، ويتَّسم برفض الحداثة، والقيم الدِّيموقراطيَّة الغربيَّة!
وقياساً على ذلك عزا مولينو توجُّهات بعض الكُتَّاب والمثقَّفين إلى تأثير المال بأكثر من تأثير الأفكار. وضرب مثلاً لذلك من نموذج كريستوفر هيتشنز قائلاً إننا لا نستطيع، إزاء قفزته المفاجئة من منصَّة النَّاقد اليساري الرَّاديكالي إلى منبر المتحزِّب اليميني المتطرِّف، إلا أن نغلِّب وقوع ذلك بأثر الحوافز المادِّيَّة أكثر من الأخطاء النَّظريَّة هنا أو هناك!

الأحد
يعتقد بعض السُّذَّج من المسلمين أن استفسار الفقهاء حول كلِّ كبيرة وصغيرة هو ضرب من التَّديُّن! فسأل رجل فقيهاً:
ــــ "إذا نزعت ثيابي، ودخلت النَّهر، أإلى القبلة أتوجَّه، أم إلى غيرها"؟!
فأجابه الفقيه وروحه تكاد تزهق من الضِّيق بالسُّؤال والسَّائل:
ــــ "يا بُنيَّ .. توجَّه إلى ثيابك حتَّى لا تُسرق"!

***