متابعات - نشرة أسبوعية - العدد الحادي عَشَر - 18 آذار/مارس 2023


الطاهر المعز
2023 / 3 / 18 - 14:27     

مخاطر رأس المال على التراث الإنساني
نموذج البِحار
تغطي المحيطات أكثر من ثلثي سطح الأرض وتتكون قيعانها من ثلثي السهول السحيقة، واكتشف علماء برنامج البحث العالمي (السنة الجيوفيزيائية الدولية) وباحثو جامعة كاليفورنيا، في منتصف القرن العشرين، الكثير من الموارد المعدنية الثمينة والنّادرة في قاع البحر، وفي سنة 1959، أكد عُلماء المعهد الأمريكي لمهندسي التعدين والمعادن والنّفط وفرة هذه الثروات المعدنية تحت الماء، ما أثار اهتمام الدول الإمبريالية وشركات التعدين العابرة للقارات، وأكّدت مجمل البحوث والدّراسات وُجُودَ مركزات معدنية، في الصخور الصغيرة، منها المنغنيز والسيليكون والألمنيوم والكوبالت والنيكل والنحاس، بعمق يتراوح بين 4000 و 6000 متر، غير أن ارتفاع تكاليف استخراج هذه المعادن كانت رادعة لشركات التعدين عن الاستثمار في بعض مناطق معينة من المحيط الهادئ تحتوي على حوالي 34 مليار طن من معادن الثاليوم والكوبالت والمنغنيز والنيكل إلخ.
أثيرت قضايا تنظيم الوصول إلى هذه الموارد المغمورة واستغلالها في الأمم المتحدة، بين سنتَيْ 1967 و 1973، وأدت هذه المناقشات إلى ظهور فكرة "التراث المشترك للبشرية"، من أجل التنظيم الجماعي لاستغلال وإدارة الموارد التي تخص البشرية جمعاء، وخاض بعض الدبلوماسيين معركة لكي تعود الموارد البحرية بالفائدة على الدول الفقيرة على وجه الخصوص، بينما تريد القوى الصناعية الغربية تعزيز هيمنتها على الأرض والجو والبحار من خلال احتكار موارد هذه "الحدود الجديدة". من جهة أخرى، دافع هواري بومدين، في خطابه الشهير باللغة العربية، في نيسان/أبريل 1974، نيابة عن دول العالم الثالث، عن نظام اقتصادي دولي جديد، يضمن سيطرة الدّول على مواردها...
لم يصبح قاع البحر حتى عام 1982 "تراثًا مشتركًا للإنسانية"، وطالت مناقشة وضع الأُسُس الضرورية، فتم الإتفاق على وجوب إشراف "الوكالة" أو "السلطة الدولية لقاع البحار" (التي تم إنشاؤها بالأمم المتحدة) على تقاسم الموارد ونقل التكنولوجيا وإنشاء شركة دولية لاستغلال جزء من قاع البحر، وتضمن الإتفاق ضرورة حصول الشركات الصناعية الخاصة على ترخيص من السلطة الدولية لقاع البحار، قبل التنقيب والإستغلال، وعرقلت الولايات المتحدة، برفضها (تحت رئاسة رونالد ريغان) التصديق على الاتفاقية، مع تشجع شركات التعدين الأمريكية على التنقيب في المناطق البحرية الغنية بالمعادن، في المحيط الهادئ، وتم – تحت الضّغط – سنة 1994، تعديل اتفاقية قانون البحار وإفراغها من جوهرها ... وهكذا، عارضت القوى الرأسمالية الكُبْرى، من جميع الجبهات، مشاريع إنشاء نظام دولي أقل إجْحافًا، ومع ذلك، لا تزال حالة قاع البحر مثالًا نادرًا لتدويل موارد الكوكب.
بدأت بعض شركات التعدين متعددة الجنسيات نشاطًها في قاع البحر: شركة Metals (DeepGreen سابقًا) و Nautilus Minerals ، قبل تصفيتها (كندا) و DEME (بلجيكا) و Lockheed Martin وفرعها في المملكة المتحدة Seabed Resources (الولايات المتحدة)، للمضي قدما في استخراج الخامات، وتخطط هذه الشركات لإرسال الآلات إلى قاع البحر، والتحكم في حركتها عن بعد، واستعادة الحصى الثمينة عبر امتصاصها، مثلما تفعل المكنسة الكهربائية، وفي أيلول/سبتمبر 2022 ، سمحت السلطة الدولية لقاع البحار لشركة تعدين كندية "باختبار أجهزتها" في قاع البحر، الأمر الذي قوبل بمعارضة من عدة دول في المحيط الهادئ.
ما هي التحديات والرّهانات؟
أثبتت الدراسات وجود ما يقرب من 34 مليار طن من المعادن اللازمة للتقنيات الكهربائية والرقمية، ويمكن أن تلبي عمليات تعدين المعادن من قاع البحر احتياجات "التحول الإيكولوجي" ورقمنة الحياة اليومية، تماشيا مع أهداف مخططات "مكافحة تغير المناخ"، وهي في الواقع حجة واهية، فالكهرباء والتكنولوجيا الرقمية هي أدوات أو منتجات ذات قيمة زائدة مرتفعة، تسمح للرأسمالية بالاستمرار في النمو، بواسطة استبدال الوقود الأحفوري وكذلك من خلال زيادة المكاسب من الكفاءة في ترشيد استهلاك الطاقة، لا سيما عن طريق تقليل السفر والتحكم في استهلاك الطاقة، لكن التكنولوجيا الرقمية أو الدّقيقة وإنتاج الطاقة الكهربائية "النظيفة" يتطلب كميات هائلة من المعادن المتوافرة بكثرة في قاع البحر، لم يحن بَعْدُ زمن استغلالها، لتوفّر الوقود الأحفوري والمعادن الأخرى، ولارتفاع تكاليف العمل في قاع البحر.
خلال مؤتمر الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي (مونتريال- كندا – كانون الأول/ديسمبر 2022) ، تعلّلت صناعات التعدين بقضايا المناخ (الإنتقال لاستخدام الطاقات النظيفة، ومكافحة الاحتباس الحراري ، وما إلى ذلك) لتبرير استغلال الأرض والجو وقاع البحر، ومع ذلك، فإن كل الدراسات تُؤكّد إن التعدين في قاع البحر سيخلّف عواقب وخيمة على حياة البشر والحيوانات والكائنات البحرية والنباتات.
تم نشر العديد من الدراسات حول الآثار المحتملة لمثل هذا النشاط في قاع البحر، وتستند هذه الدراسات إلى المُعاينات والملاحظات التي تم تدوينها على مدى أربعة عقود، منذ أُجْرِيت الإختبارات الأولى للتنقيب، لأن الآلات المستخدمة في التعدين قد تسبب فقدان الأكسجين وفقدان مقومات الحياة تحت الماء، وتتسبب في تحرك الرواسب لمسافات تفوق 200 كيلومتر، مما يساهم في تعريض توازن الحياة على الأرض للخطر.
أما الرهان الآخر، أو القضية الأخرى فهي جيوستراتيجية، لأن الصين تنتج حاليًا 60% من "العناصر الأرضية النادرة"، الضرورية للعديد من قطاعات الصناعة والتكنولوجيا العالية، وتبحث الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان عن بدائل، منذ العام 2010، من خلال تمويل التنقيب عن المعادن واستغلالها من قاع البحر، للتّخلِّي عن المعادن التي تنتجها وتبيعها الصين، ولتحويل المحيطات إلى مصدر لأرباح كبيرة.
استثمرت النرويج ، أكبر منتج للنفط والمنتج الهام للغاز في أوروبا، في تطوير العديد من مشاريع صناعة التعدين من أجل "إنشاء شبكة شاملة لاستغلال الموارد المعدنية المغمورة بالمياه"، كما يجري تطوير العديد من المشاريع الأمريكية أو الكندية أو الأسترالية أو اليابانية أو الأوروبية للتنقيب عن المعادن واستغلالها من قاع البحر قبالة سواحل إفريقيا وآسيا ... ومن جهة أخرى، أنشأت شركات التعدين "مؤسسات غير هادفة للربح"، تُموّلها وتُحدّد أهدافها وطُرُق عملها، بهدف إلى التصديق على أن التنقيب عن المعادن واستغلالها "يحترم الطبيعة والبيئة"، كما تسيطر صناعة التعدين أيضًا على الوكالة الدولية لقاع البحار (أنشأتها الأمم المتحدة) التي نقلت، على الأقل منذ سنة 2007 ، معلومات إلى الشركات متعددة الجنسيات تُرْشِدُها إلى المناطق البحرية الأكثر أهمية والأكثر ربحية، وبالتالي ، فإن الوكالة التي أنشأتها الأمم المتحدة، سنة 1994 أصبحت جزءًا من شبكة الدّفاع عن مصالح شركات التعدين متعددة الجنسيات خلافًا لهدف إنشائها وهو تجميع هذه البيانات وتخزينها لمساعدة البلدان النامية.
تمارس صناعة التعدين ضغوطًا على الهيئات الحكومية والمنظمات الدولية لتعديل النصوص المتعلقة بحماية البيئة، بفعل مُشاركة شركات التعدين في صياغة مختلف اتفاقيات حماية البيئة، من خلال العديد من عُملائها، أعضاء اللجان القانونية والفنية، وبذلك نجحت في تحويل هيئات الأمم المتحدة إلى لوبي صناعي يدافع عن تكثيف استغلال الموارد البحرية، على حساب العاملين بالبحر والدول الفقيرة...
احتفظت الدول الإمبريالية بالعديد من الجزر والأراضي ذات الكثافة السكانية المنخفضة لتوسيع مجالها البحري، وعلى سبيل المثال ، تمتلك فرنسا ثاني أكبر مجال بحري في العالم، وذلك بفضل مستعمراتها في إفريقيا (جزيرة ريونيون أو مايوت) وفي المحيط الهادئ (عدة جزر، وأشهرها كاليدونيا الجديدة بمناجمها من النيكل) وفي منطقة البحر الكاريبي، حيث لها مستعمرات عديدة، أهمها غيانا ومارتينيك وغوادلوب إلخ.
تكافح المجتمعات الساحلية المحلية لحماية الموارد البحرية ومنع أنشطة التعدين التي تؤثر على الصيد التقليدي وتهدد حياة السكان، فيما تعيد صناعة التعدين إنتاج النظام الاستعماري والاستعمار الجديد الذي يرغب في احتكار الموارد التي تنتمي إلى تراث البشرية جمعاء، مستفيدًة من صعوبات الدول والجزر الصغيرة، التي لم تتخلّص بعد من التاريخ الإستعماري الطويل، ومن استخدام الرشوة لضم القادة المحلّيّين الفاسدين إلى صفوف المُدافعين من مصالحها، ومن خلال التأثير على كبار موظفي المنظمات الدّولية، ويتمثل الهدف في تعريض حياة أفراد المجتمعات الساحلية المحلية للخطر، لأن لصناعة التعدين هدف واحد فقط، هو تزويد أسواق القوى الصناعية المتطورة وتعظيم الأرباح.
همومنا وهمومهم
يشغل ارتفاع الأسعار وارتفاع نسبة التضخّم، إلى جانب تراجع قيمة الدّخل الحقيقي، بال معظم سُكّان العالم وخصوصًا من ذوي الدّخل المنخفض والمتوسّط، فضلاً عن الفُقراء والمُعَطّلين عن العمل والعاملين بدوام جزئي وغيرهم، خلافًا لمشاغل الأثرياء الذين لا يستثمرون في القطاعات المُنْتِجَة، بل يُضاربون في أسواق المال، اعتمادًا على المعلومات التي تصلهم عن الشركات والمصارف وحركة الأسْهُم الصّاعدة والنّازلة، لترتفع ثرواتهم بشكل قياسي أحيانًا، لكنها قد تتعرض إلى الإنخفاض، كما حصل خلال الأسبوع الثاني من شهر آذار/مارس 2023، فقد أدّى تراجُعُ أداء شركات التقنيات الحديثة وكذلك أرباح المصارف إلى تراجع ألأداء أسواق المضاربة (البورصة) بأمريكا الشمالية وأوروبا، حيث انخفض مؤشرا بورصة نيويورك، ومؤشرات "دو جونز" و "ناسداك" و "إس أند بي 500"، واليورصات الأوروبية (باريس وفرنكفورت ولندن وميلانو...) يومي الخميس 09 والبجمعة 10 آذار/مارس 2023.
تحصل المصارف بشكل عام على قروض قصيرة الأجل (من مصارف أخرى، بفائدة ضعيفة نسبيا) لتقديم قروض متوسطة وطويلة الأجل، لزبائنها، بنسبة فائدة أعلى، لكن، ومنذ ارفع الإحتياطي الأمريكي نسبة الفائدة، تغير الوضع ليصبح العائد على السندات الحكومية الأمريكية لمدة عامين أعلى بكثير من معدل 10 سنوات، حيث وصل الفارق إلى أعلى مستوى له منذ أكثر من 40 عامًا. وبالتالي ، فإن تكلفة الأموال بالنسبة للمصارف أعلى بكثير من معدلات الإقراض، مما يؤثر على هوامش ربحها...
ما يحصل حاليا في قطاع المصرف ليس أمرًا جديدًا، فهي عملية دَوْرِيّة لتصفية المصارف ذات الأداء الأضْعف والمُهدّدة بالتّعثُّر، وأدّت العملية الأخيرة المتواصلة منذ بداية رفع نسبة الفائدة من قِبَل الإحتياطي الإتحادي الأمريكي إلى تدهور في أداء مصارف كبيرة مثل "جي بي مورغان" و "بنك أوف أمريكا" و"سيتي غروب" وغيرها، وهي المصارف التي استفادت من المبالغ الضّخمة التي ضخّتها الحكومة الأمريكية في خزينة المصارف والشركات الكبرى، منذ أزمة 2008/2009...
تراجعت الأسواق المالية العالمية بشكل حاد يوم الجمعة 10 آذار/مارس 2023، ما يُبيِّن قلق المستثمرين المضاربين بشأن القطاع المصرفي بعد إشارة تحذير من مصرف إقليمي أمريكي، وامتدت هذه المخاوف إلى أسواق الأسهم الأوروبية والآسيوية، وانخفضت أسهم بورصات باريس ولندن وفرانكفورت وميلانو، وبورصة طوكيو وشنغهاي وهونغ كونغ، وعموماً، انخفضت الأوراق المالية للمجموعات المصرفية في مختلف البورصات، واستثمر المضاربون في الأصول الأقل خطورة، فقفز سعر الذهب يومي الخميس 09 والجمعة 10 آذار/مارس 2023
خلفية هذا التّراجع:
تداعيات إغلاق مصرف وادي السيليكون ( SVB ) بالولايات المتحدة:
أغلقت مُؤسّسات الرّقابة المالية الأمريكية مصرف وادي السيليكون ( SVB ) - الذي يحتل المرتبة السادسة عشر في ترتيب مصارف الولايات المتحدة - "بسبب معاناته من نقص السيولة، واحتمال إفلاسه، نتيجةً لذلك"، ليُصبح إغلاق هذا المصرف أكبر مُؤشّر على فشل مصرف أمريكي منذ أزمة 2008/2009، وكان المصرف قد بدأ نشاطه في ولاية كاليفورنيا سنة 1983، ثم توسّع بسرعة خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، وكان يُوظّف أكثر من 8500 موظفًا في مختلف فُرُوعه العالمية، ولئن كانت معظم عملياته تجري بالولايات المتحدة...
انهار مصرف وادي السيليكون، المتخصص في إقراض الشركات الناشئة في الولايات المتحدة بعد فشله في جمع 2,25 مليار دولار لسد خسارة لبيع الأصول، خصوصا السندات الحكومية الأمريكية، التي تأثرت بارتفاع أسعار الفائدة.
يُعتَبَرُ المصرف مُقرضًا رئيسيا لنحو نصف شركات التكنولوجيا والرعاية الصحية المدعومة من الشركات الأمريكية التي تم إدراجها في أسواق الأسهم سنة 2022، قبل أن يتعرّض إلى اضطرابات مالية وضُغُوط بسبب قرار الإحتياطي الإتحادي الأمريكي (المصرف المركزي الأمريكي) رَفْعَ معدّلات الفائدة التي أَدّتْ إلى رحيل زبائنه، إذ لا تستطيع الشركات الناشئة جَمْعَ الأموال من خلال الإستثمارات الخاصة أو من مبيعات الأسهم، كما أثارت هذه الصّعوبات مخاوف المستثمرين بشأن الحالة العامة للقطاع المصرفي، وسَحَبَ معظم الزبائن ودائعهم من المصرف، خلال الأسبوع الأول من شهر آذار/مارس 2023، قبل توقف المصرف عن سداد المدفوعات أو قبول الودائع، ثم إعلان الإفلاس يوم الأحد 05 آذار/مارس 2023
حصلت عملية الإغلاق عندما كان المصرف، وهو مقرض رئيسي في مجال التكنولوجيا، يسعى لجمع الأموال لسد خسارة حصلت من بيع الأصول المتأثرة بأسعار الفائدة المرتفعة، وأدى انتشار أخبار مصاعب المصرف إلى اندفاع الزبائن لسحب أموالهم، ما أثار هلع القطاع المصرفي.
أدت مصاعب مصرف وادي السيليكون إلى مخاوف أصحاب الشركات التي لا تستطيع التصرف في أموالها المودعة في المصرف، فيما تمكّن مُستثمرون آخرون من سحب أموالهم قبل إعلان الإغلاق، ما أدى إلى انخفاض قياسي لأسهم المصرف يوم الخميس 09 آذار/مارس بنسبة 60% خلال يوم واحد، فضلا عن انتشار إشاعات عن مواجهة مصارف أخرى مصاعب مُماثلة، وتجاوز ارتفاع عَرْضُ أسهم المصارف للبيع أسواق الولايات المتحدة ليشمل معظم مصارف العالم يومي 09 و 10 آذار/مارس 2023...
على مستوى الدّوَل تقوم الحكومات بإطلاق سياسات مالية لإقرار الرّسوم والضرائب وجَمْعِها لإنفاقها في مختلف المجالات، فيما تقوم المصارف المركزية، التي فرضت النيوليبرالية وصندوق النقد الدّولي استقلالها عن الحكومات، بإقرار السياسات النّقدية، من ذلك مراقبة حجم السُّيُولة المُتداولة بالبلاد (يجب أن لا تتجاوز قيمة السلع والخدمات المُنْتَجَة بالبلاد، لكي لا تفقد النقود قيمتها) ويتخذ المصرف المركزي قرار خَفْض أو رَفْع أسعار الفائدة، للمحافظة على قيمة العملة وعلى قيمة الدّخل، وعلى سبيل المثال يرْفَع المصرف المركزي (مثل الإحتياطي الإتحاد الأمريكي، وهو مصرف خاص وليس حكوميًّا ) سعر الفائدة لاستيعاب حجم السيولة الزائدة في السوق الأمريكية.
عندما يُفلس مصرف صغير، تستفيد المصارف الكبرى من خلال شراء أُصُوله بسعر يَقِلُّ كثيرًا عن سعرها الحقيقي، أما عندما يُفلس مصرف كبير فإن السلطة السياسية (الحكومة) تهرع لنجدته بواسطة المال العام الذي يتم ضخّه بدون حساب وبفائدة ضعيفة أو بدون فائدة أصْلاً، مثلما حَصَل خلال أزمة 2008/2009، لكن يُؤَثِّرُ مثل هذا الإجْراء سَلْبًا على مكانة الدّولار كعُمْلَة دَوْلِيّة مُهيْمِنَة، خصوصًا إذا وُجِدَتْ عملة أُخْرَى يمكن أن تُنافِسَهُ، ولم يتمكن لا اليورو الأوروبي ولا الين الياباني ولا اليوان الصيني من بُلُوغ درجة المنافسة الجِدِّيّة للدّولار في المبادلات التجارية أو التّحويلات المالية الدّوْلِية، بل إن الدّول الأخرى تحرص على عدم انهيار السّوق الأمريكية الواسعة التي تستوعب الإنتاج الصناعي الصيني أو الأوروبي، فمنذ حوالي ثلاثة عُقُود أصبح العالم محكوما بالإيديولوجية النيوليبرالية وأدواتها مثل منظمة التجارة العالمية التي تظم كافة دول العالم تقريبًا (مع بعض الإستثاءات القليلة) وحتى الأمم المتحدة التي لا تختلف لُغة تحليلاتها الإقتصادية عن تحليلات البنك العالمي، لذلك لا تُشكّل أطروحات الصين أو روسيا أو مجموعة "بريكس" أو غيرها سوى فُروعًا من الرأسمالية الليبرالية، فالعالم "مُتعدّد الأقطاب" ليس حلاًّ لمشاكل الدّول الفقيرة ولا لمشاكل فُقراء وكادحي العالم، أو حتى روسيا أو الصّين أو البرازيل...
تسريحات بالجملة في قطاعات التكنولوجيا المتطورة
توقَّعَ خُبَراء الإقتصاد، بنهاية القرن العشرين، أن تكون القطاعات المالية وقطاعات "التقنيات الجديدة"، من أكثر القطاعات الواعدة التي سوف تخلق فرص العمل، وبعد حوالي عقْدَيْن، اليوم، في الربع الأول من سنة 2023، أصبح موظفو المصارف (غولدمان ساكس أو كريدي سويس، مثلا) وشركات التكنولوجيا الفائقة أو الاتصالات أو المبيعات عبر الإنترنت (Meta و Amazon و Buzzfeed و MSNBC وما إلى ذلك) وجميع ما يسمى بـ "ذوي الياقات البيضاء" الموظفون في قطاعي المالية والتكنولوجيا مهددين بالفصل من العمل بعد نهاية فترة التحفيز المالي وأسعار الفائدة المنخفضة، الأمر الذي قد يتسبب في انفجار فقاعات المضاربة.
كانت فترة الحجر الصّحي وتجربة العمل عن بُعد، إحدى أهم التجارب ل"إزالة الطابع المادي" للخدمات الإدارية المستخدمين والعملاء والمستهلكين، الذين أصبحوا مُضْطَرِّين للقيام بالعمل الذي كان يقوم به في السابق الموظفون الذين تم تسريحهم بعد إغلاق المكاتب والوكالات المصرفية أو التجارية أو الإدارية، فانخفض إنفاق الشركات من خلال توفير ثمن إيجار المحلات وصيانتها وتوفير ثمن الطاقة وما إلى ذلك من المصاريف، فيما لم تنخفض، بل ارتفعت أسعار خدمات المصارف والمؤسسات المالية للزبائن، ومع ذلك، تنفذ المصارف أكبر موجة تسريح منذ الأزمة المالية لسنة 2008، ففي شهر شباط/فبراير 2023، أعلن مصرف غولدمان ساكس تسريح ثلاثة آلاف موظف في غضون نصف ساعة، وسرّح مصرف "مُرْغان ستانلي" 1800 موظف، أو ما يزيد قليلا عن 2% من العدد الإجمالي للموظفين، وأعلن مصرف "كريدي سويس تسريح تسعة آلاف من إجمالي 52 ألف، موظف خلال السنوات الثلاث المقبلة. أما في قطاع التكنولوجيا، فإن الوضع أكثر قساوة، حيث فقد مائتا ألف شخص وظائفهم سنة 2022، وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2022، أعلنت شركة ميتا تسريح أحد عشر من الموظفين وتعتزم "ألفابيت" إلغاء 12 ألف وظيفة، وسرّحت آمازون الآلاف واضطرت لتسديد 640 مليون دولار بعنوان مدفوعات نهاية الخدمة في الربع الأخير من سنة 2022، وفي قطاعات أخرى، أعلنت شركة Johnson & Johnson (مختبرات وأدوية) وشركة Walt Disney Company (عروض وترفيه) عن خفض الوظائف وتجميد التوظيف، كما من المُقرّر أن تُسرّح شركة "ألفابيت"، موظفيها في بريطانيا، في آذار/مارس 2023، وتدرس شركة "فودافون" للاتصالات تسريح المئات ضمن عمليات الاستغناء عن الوظائف ...
في قطاع الإعلام، أعلنت BuzzFeed عن تسريح 12% من موظفيها، بعد تخفيض بنسبة 15% سنة 2019. كما أعلنت Publisher Reach و Vox Media Group و NBC و MSNBC عن عمليات إلغاء الوظائف.
جاءت هذه الموجة من عمليات التسريح نتيجة لانخفاض إيرادات الإعلانات الرقمية سنة 2022، بعد زيادة بلغت نسبتها 25% سنة 2021. ويتزامن الانخفاض في عائدات الإعلانات في مجالات الإعلام والتكنولوجيا مع ارتفاع نسبة التضخم، ولكن خفض الوظائف في القطاع المالي يعود إلى تباطؤ الاقتصاد الذي تزامن مع نهاية التخفيضات في أسعار الفائدة، والتيسير الكمي الذي سمح لـ "الاقتصاد الجديد" بالنمو أكثر بكثير مما كان ينبغي أن يكون عليه بعد سنة 2010، وكانت أسعار الفائدة المنخفضة مرادفًا لخلق فقاعات المضاربة، إذ بلغت تقييمات سوق الأسهم المتضخمة للعمالقة الرقميين ذروتها سنة 2022، وما انفجار الفقاعة سوى نتيجة منطقية.
إن ارتفاع تكاليف معدلات الفائدة والائتمان، وتباطؤ الإيرادات وتشديد السياسة النقدية عوامل تعوق تطور التقنيات التي عززتها عمليات ضخ المال العام والقرارات السياسة الحكومية التي جعلت هذه الشركات تُضخِّمُ قيمتها بشكل مصطنع.
توقع بعض الاقتصاديين - بمن فيهم مسؤول تنفيذي في بنك إنغلترا- منذ العام 2015، أن تُشكّل الأتمتة ( automatization ) خطرًا على 40% من الوظائف في بريطانيا خلال العقود القادمة، وزعمت دراسات أُخْرى نُشرت سنتيْ 2016 و 2017، في عام 2016 ، أن التغيير التكنولوجي السّريع سيكون كارثة على الوظائف، لأنه لن يؤدي إلا إلى تفاقم عدم المساواة، وهذا ما أصبح ظاهرًا للعيان اليوم، حيث يتعايش التغيير التكنولوجي مع الركود الاقتصادي، بموازاة مَوْجات تسريح العمال وانعدام الأمن الوظيفي.
أوروبا تحفر قبرها بمجرفة أمريكية
قد يكون نائب رئيس المفوضية الأوروبية، "جوزيب بوريل"، قد أُصيب بنوبة نادرة من الوضوح، لما أثار، يوم 10 تشرين الأوزل/أكتوبر 2022، موضوع "النهاية القادمة لازدهار أوروبا التي لن تكون قادرة بعد الآن على الاعتماد على الطاقة الرخيصة من روسيا وعلى البضائع الرخيصة المستوردة من الصين ، لدخول عصر الاعتماد المتزايد على الولايات المتحدة... إن هذا الإدمان يحمل في طياته مخاطر جسيمة... لقد اعتمد ازدهارنا على الطاقة الرخيصة من روسيا، وسمحت لنا الأجور المنخفضة للعمال الصينيين باحتواء التضخم، أفضل مما يمكن أن تفعله كافة المصارف المركزية مجتمعة ... كان ازدهارنا قائمًا على الصين ( السوق) وروسيا في مجال الطاقة "، لذلك ، فإن الوقود الأحفوري الرخيص كالغاز الروسي، والسلع الاستهلاكية الرخيصة، التي استفادت منها أوروبا خلال العقود الثلاثة التي أعقبت سقوط جدار برلين، تنتمي إلى الماضي، حيث استفادت أوروبا أيضًا من انخفاض التضخم بفضل وارداتها من الصين، التي أصبحت ورشة العالم، وقامت بتصدير المنتجات التي يمكن للأوروبيين الفقراء، وذوي الدخل المنخفض الحصول عليها، هذا يناسب أصحاب العمل الذين لم يرفعوا الأجور على الرغم من نُمُو الإنتاجية، إذ قابلَ النمو البطيء للأجور، وفرة السلع الرخيصة والتوسع في الائتمان، وبذلك يتم تفادي انفجار غضب الفقراء والأُجراء، ولكن إلى متى؟
كما انتقد جوزيف بوريل أوروبا لأنها "فوضت دفاعها إلى الولايات المتحدة ... ولا ينبغي أن يؤدي خفض الإعتماد على الوقود الأحفوري الروسي، إلى الاعتماد على الغاز الطبيعي المسال المستورد من الولايات المتحدة، وإلى تبعية أكبر لواشنطن"
يعتبر جوزيف بوريل أن التقدم المستمر لليمين المتطرف، في إيطاليا والمجر وفرنسا وإسبانيا وعبر شمال وجنوب وغرب وشرق أوروبا ، يمثل تحديًا سياسيًا كبيرًا، ويُعلّل تقدّم اليمين المتطرف، بعدم قُدرة الحكومات على إيجاد حلول للأزمات الاجتماعية والاقتصادية.
لا يستطيع جوزيف بوريل، الموظف السّامي الأوروبي أن يكون أكثر وضوحًا، وهو ما يُعَدُّ مفاجأة بحد ذاته، فلا يستطيع أن ينتقد الاحتلال الأمريكي والتركي لشمال سوريا، أو التهديد التركي لليونان واحتلال تركيا الجزء الشمالي من قبرص (اليونان وقبرص عضوان في الاتحاد الأوروبي)، كما لا يمكنه نقد الكيان الصهيوني (إن كان يعتقد ضرورة نقده)، لأن جملةً واحدةً في نقد الصهيونية كإيديولوجيا أو الكيان الإستيطاني، ستكون نهاية حياته السياسية والخاصة والعائلية !
يشعر غالبية المواطنين الأوروبيين بالقلق من ارتفاع الأسعار والتضخم وتقييد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وفيما يتعلق بالتوظيف، فإن الصعوبات التي تواجه صناعة السيارات الألمانية أو الفرنسية أو الإيطالية وكذلك صعوبات أو خراب الصناعات التحويلية في أوروبا هي مؤشرات سيئة للغاية، بالإضافة إلى اختفاء السلع الاستهلاكية الرخيصة.
على المستوى السياسي، يضيق خيار المواطنين الأوروبيين، خلال الانتخابات الدورية، لينحصر بين اليمين واليمين المتطرف. إنه أُفُقٌ محدود للغاية! ربما سيكون من الضروري البحث عن حلول خارج النظام السياسي والإقتصادي الذي وضعت الطبقة البرجوازية أُسُسَهُ منذ أكثر من قرنين!