كتاب -من النهضة إلى الردة- لجورج طرابيشي: هل يملك فكر النهضة العربية القابلية للتجدد والانبعاث؟


صلاح الدين ياسين
2023 / 3 / 12 - 16:17     

يُعد كتاب "من النهضة إلى الردة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة"، الصادر في العام 2000 عن دار الساقي، من أبرز أعمال المفكر السوري اللامع جورج طرابيشي. ففي مؤلفه هذا، الذي هو عبارة عن تجميع لمجموعة من المقالات المتفرقة التي سبق نشرها في إحدى المجلات الفكرية العربية، يشدد صاحبنا على أن الحافز من وراء إصدار هذا العمل هو رد الاعتبار إلى إسهامات الفكر النهضوي الحداثي العربي والاشتباك معها نقديا، في سياق مطبوع بانفجار العوامل الدافعة في اتجاه الردة والنكوص وتكريس صيرورة الانحطاط الحضاري (تداعي الأنظمة التقدمية العربية، صعود الأصوليات الدينية، الأزمات الاجتماعية الخانقة... إلخ). ومن هنا ضرورة استنهاض فكر الحداثة العربية في ضوء الرهانات الحضارية الكبرى المنتصبة أمامنا (تحدي الولوج إلى مجتمع المعرفة والعلم والتكنولوجيا في سياق العولمة الكونية وتفسخ الحدود القُطرية للدول). وفيما يلي تكثيف لأهم مضامين الكتاب:
قاسم أمين: باكورة النسوية العربية
صدورًا من مقاربة التحليل النفسي التي يعتمدها الكاتب السوري على نحو يستحق الإشادة والتثمين، يفيد الأخير بأن واقعة الاحتكاك بالغرب، وتحديدًا إبان الحقبة الاستعمارية (النصف الثاني من القرن 19 ومطالع القرن 20)، قد ولدت شعورًا بالصدمة والجرح النرجسي في دوائر الانتلجنسيا (النخبة المثقفة) العربية، ومَرَد ذلك إلى الوقوف على حقيقة التأخر الحضاري للعرب والمسلمين قياسًا إلى المدنية الغربية المتفوقة. وهكذا جرى الإفصاح عن ذلك الجرح لدى المفكرين النهضويين عبر مَظهرَيْن: أخذ الأول شكلا دفاعيًا من طريق إنكار الواقع والسعي في مداراة حقيقة تَخَلف الذات والتمويه عليها، أما الموقف الثاني فقد انصرف إلى تعرية الذات وتسديد نقد لاذع إليها. ولعل المفكر النهضوي الألمعي قاسم أمين (1863-1908) خير مثال على هذه الازدواجية التي طبعت التفكير النهضوي.
ففي كتابه "المصريون"، والذي رد فيه قاسم أمين على مصنف صدر للدوق الإنجليزي داركور، أمعن في إنكار واقع تَخَلفنا الحضاري مقارنةً بتقدم المدنية الغربية، وطفق ينافح عن وضعية المرأة في مصر والمجتمعات الإسلامية. لكن موقف قاسم أمين ما لبث أن طرأ عليه تحول نوعي في كتابه "تحرير المرأة"، الذي دافع فيه عن حق المرأة في العمل والتعلم والمشاركة في الحياة العامة، بالرغم من أنه ظل مكبلا فيه بآراء المذاهب الفقهية تحت تأثير معلمه الشيخ محمد عبدو، مشددًا على أن تدني مكانة المرأة يُعزى في الأساس إلى التقاليد والعوائد المجتمعية، لا إلى الشريعة الإسلامية التي أنصفت المرأة في اعتقاده.
على أن طرح صاحب "تحرير المرأة" سيصبح أكثر راديكاليةً في كتابه الأخير "المرأة الجديدة"، ذي النفس التحرري المنفلت من ربقة الاعتبارات الفقهية، حيث ألقى فيه باللائمة على التراث الفقهي معتبرًا إياه مسؤولا عن انحطاط مكانة المرأة، كما نزع إلى التمييز بين الحضارة الغربية التي هي حضارة علم، والحضارة الإسلامية بوصفها حضارة فقه. وعليه يؤاخذ جورج طرابيشي صاحب "المرأة الجديدة" على تماديه في جَلد الذات والتماهي مع الآخر. فالحداثة لا تعني التغريب، ذلك أن الأولى تؤدي معنى الخلق والإبداع والتجديد والإغناء، أما التغريب أو التغربن فلا يعدو كونه محاكاةً واستنساخًا لمنتجات الآخَر، وهو النقد عينُه الذي وجهه طرابيشي لطه حسين، الذي نادى بتغريب المجتمع المصري كمدخل وحيد لولوج الحداثة.
راهنية المثاقَفة ضدا على الانغلاق الحضاري
إن ظاهرة الأصولية الدينية التي فرضت نفسها على مسرح المجتمعات الإسلامية والعربية، لا سيما بعد نكسة 1967، وفي سياق خُبُو الإيديولوجيات التقدمية، هي، بنظر الكاتب، نتاج ذلك الجرح النرجسي الناجم عن العلاقة الجدلية بين الأنا والآخر، والذي لم يفلح فكر النهضة العربية في لملمته. كما أن الفكر الأصولي ما هو إلا امتداد لتراث عصر الانحطاط، الذي أطل برأسه منذ القرن الخامس الهجري، مُؤْذنًا بأفول العصر الذهبي للحضارة الإسلامية.
وينهض الخطاب الأصولي على مقولة محورية مؤداها أن استعادة الإسلام في صفائه الأول، يمر حتما من طريق منع تأثره بأي عناصر دخيلة وبرانية، مما يفيد تقفيل الباب أمام أي تلاقح حضاري خلاق. وعليه انصرف المؤلف إلى تفنيد تلك المُسَلمة، بالإحالة إلى التاريخ الفعلي للإسلام الذي لم يَخْلُ من مثاقفة وانفتاح على حضارات أمم أخرى، مما كان له بالغ الأثر في تشييد حضارة الأسلاف. كما أن صاحب الكتاب لم يوفر من نقده أيضا الإيديولوجيات النقدية الحداثية (القومية، الماركسية... إلخ)، والتي جنح بعض معتنقيها إلى التشنيع على المدنية الغربية، وتبرئة الذات من المسؤولية بشأن ما آل إليه حالنا، بخلاف الأجيال الأولى من النهضويين العرب الذين حرصوا على التمييز الضروري بين الغرب الكولونيالي والغرب الحضاري، الذي لا مندوحة من الأخذ بأسباب القوة والمنعة لديه.
نجيب محفوظ: فيلسوف يرتدي جبة روائي
لا يسع القارئ النبيه إلا أن يفطن إلى أن الروائي المصري نجيب محفوظ يكاد يكون الوحيد الذي سلم من انتقاد جورج طرابيشي، إذ حرص الأخير على تحليل الدلالات والرموز الخبيئة التي تنطوي عليها مضامين روايات صاحب نوبل للآداب، بغير قليل من العمق والتبصر والملاحظة الثاقبة، لينتهي إلى أن نجيب محفوظ يُعد، بالأحرى، فيلسوفًا يختبئ وراء قناع الروائي، لما حوته رواياته من أفكار جريئة تنتظم في نسق الحداثة الفكرية. ففي سياق موسوم بمحاصرة الفكر الفلسفي والنقدي، وضيق منافذ التعبير الحر عن الآراء والأفكار، تتسلل الفلسفة عبر نافذة الرواية ولغة الرموز والميثولوجيا، لتجد متنفسا للتعبير عن نفسها على نحو ضمني.
وعمومًا، فقد دعا نجيب محفوظ بشكل ضمني إلى ثورة عميقة داخل العقل الديني، كشرط للحاق بركب المدنية الحديثة. وفي الوسع إجمال رؤى محفوظ الفكرية، المصاغة في قالب روائي، على النحو التالي:
* فصل المجال العلمي عن المجال الديني، بمعنى تحرير العلم من القيود اللاهوتية والفقهية التي تشله، من حيث هو السمة المميزة للحضارة الحديثة وقوامها الأساسي.
* تحرير الدين من ثقل المؤسسة، أو عدم مأسسته، للحفاظ على جوهره كدين إنساني كوني، وعدم تحويله إلى دين طبقي، طقوسي، مؤدلج، مفرغ من أبعاده الأخلاقية والروحية النبيلة.
* الدفاع عن قيمة العمل والإنتاج، ضدا على التدين السطحي الذي أمسى حرفة أثيرة يمتهنها بعض الناس، مما يعوق الفاعلية الحضارية.
* الإيمان بحرية الإرادة والاختيار لدى الإنسان، وقدرة الأخير على صنع مصيره بنفسه، كنقيض للقدَرية الجبرية التي لا تترك أي مجال للإرادة الإنسانية.
* المناداة بإعادة فتح باب الاجتهاد من مدخل القراءة التاريخية للنصوص والأحكام الدينية، من حيث استحضار سياق نزولها، ومرونتها وقابليتها للتبدل بتبدل الأحوال والظروف التي أنتجتها، عوضا عن القراءة النصية والسكونية لتلك النصوص.
عن تيه وتخبط الفكر العربي (التعاطي مع ظاهرة العولمة نموذجا)
عرج الكاتب على شواهد معبرة عن معضلات التفكير العربي المعاصر، وفي جملتها الهوس المَرَضي بنظرة الآخر (الغرب) إلينا، على شاكلة ما نجده عند المفكر محمد أركون، الذي نذر نفسه للنهوض بدور الوسيط الفكري بين العالم الغربي والعالم الإسلامي، وهي المهمة التي أقر بإخفاقه فيها، من جراء عجزه عن تغيير نظرة الغرب التحقيرية والدونية إلى العرب والمسلمين. وفي رأي طرابيشي، آن للفكر العربي أن يفك عقدة الانشغال العبثي بنظرة الآخر إلينا، لأن تلك النظرة، التي ليست كلها مغلوطة وزائفة، لن تتبدل إلا إذا ما انصرفنا، بهمة وحزم، إلى تغيير واقع الذات المكلومة والمتأزمة. ومثلما يرى المؤلف، فإنه نظرًا إلى الهوة السحيقة الفاصلة بين الفكر والواقع، فإن المفكر العربي معني، في الغالب الأعم، بالسيطرة على عالم الخطاب، أو التحليق في سماء التجريد النظري بتعبير الكاتب، بدل السيطرة على الواقع الفعلي.
وانطلاقا من نفس الرؤية، ينتقد المؤلف موقف طيف واسع من المثقفين العرب والمسلمين إزاء العولمة، والذي يكتسي طابعا سلبيًا وعدميًا، مما ينذر بتفويت العرب لفرصة اللحاق بالركب الحضاري، خلافًا لأمم أخرى نجحت في اختراق حصون العولمة الأمريكية المنشأ، وتطويعها لصالحها (الصين، كوريا الجنوبية، الهند، البرازيل... إلخ). كما يشدد طرابيشي، بحق، على أن البنية الثقافية لتوطين العولمة في النسيج العربي غير مهيأَة بعد، باعتبار ارتفاع معدلات الأمية، والافتقار إلى رؤية ثقافية عربية مشترَكة. وفي مقابل الموقف العدمي إزاء العولمة، والذي لا يسعنا إلا أن نوافق طرابيشي على وجوب تحاشيه، فإن الأخير يبدو لنا بأنه وقع في شَرَك الانبهار الأعمى بظاهرة العولمة، محجمًا عن التنبيه إلى مثالبها ومنزلقاتها، بحيث خلط، في حكمه التعميمي، بين النقد العدمي الهدام والنقد الموضوعي الضروري للعولمة، والذي يقتضيه أي تفكير رصين وشمولي حول تلك الظاهرة.