بانتظار -وطنية- مابعد النهرين التحوليّة؟؟ / 4


عبدالامير الركابي
2023 / 3 / 11 - 14:53     

لاعلاقة لاشتراطات ثورة 14 تموز 1958 ومابعدها الى اليوم على الاطلاق، بالاشتراطات السابقة من نهايات القرن التاسع عشر الى عام 58، هذا علما بان الطور الحالي من احتمالية تجدد النخبة ظلت مقفلة، لالان النخب الاولى كانت اكثر حضورا او فعالية، او ذكاءأ، انما وبالدرجة الاولى لانها وجدت امامها، وبين يديها، كل ماتحتاجة ـ ومن دون ان تبذل اي جهد يذكر له علاقة بالتفكر الذاتي ـ مما يمكن لها ان تتبناه وتنتمي له، فلم يكن فعلها على هذا الصعيد يتعدى التباين في القدرات الشخصية النقلية، وفي العراق بالذات، لعبت عوامل خاصة بالمنطقة دورها الحاسم على هذا الصعيد، ومع ان العراق لم يكن له من اسهام يذكر فيما عرف من "نهضة" عربية!!! اختصت بها مصر وساحل الشام، لاسباب ناشئة عن اختلاف نوع " النهوض" في الموضعين، بين عراقي دوراتي، يرجع الى القرن السادس عشر بلا نطقية بصفته حالة انبعاث كوني، ونوع استجابة التحاقية مصرية شامية متوهمه، حفزتها عوامل ذاتيه،لتضعها بقوة حضور الغرب، في الواجهة ومحور الحضور البراني، انما الداهم والغالب.
وهكذا وجدت النخبة العراقية المتشكلة بتسارع بعد الاحتلال الانكليزي، الاطار والمناخ والموضوعات التي هي بحاجة لها، جاهزه ومكتمله لتقفز بها ومعها، مقارنه بغيرها من الحال النظري، كما في مصر وساحل الشام الى العملي المباشر) الايديلوجي / الحزبي)، وهو ماتكرس في الثلاثينات من القرن الماضي، ماجعل هذا النمط من التفكير ابعد مايكون عن المظهر الفكري او الجدلي، ومنحه صفة عملية بارزة، تولدت بعد فشل صارخ حل بمحاولة " جعفر ابو التمن" تقليد حالتي مصر والهند، وحزبي "الوفد" و"المؤتمر الهندي"، مااضطره لحل حزبه "الوطني العراقي" المؤسس عام 1922 ليتوزع الى " احزاب" ايديلوجية، اقرب الى الصرامه، ومع كل هذه المظاهر الحرية بالتوقف، فان احدا لم يسبق ان خطر له من بين "العلمانيين" الافذاذ، ان راى ان ثمة بالاحرى مايلفت الانتباه الى "نهضتين"، عراقية لانطقية من ناحية، ومصرية/ شاميه مستعارة، الاولى بداياتها مختلفة، جذورها موصولة بسيرورة تاريخ المنطقة الدوراتي الانقطاعي، تبدا مع القرن السادس عشر، ولها سياقات كيانيه ازدواجية امبراطورية لاارضوية، والثانيه عارضة مؤقته، مثلها مثل المصدر التي هي صدى له، ومرتبطة به وبنموذجه، قامت متوهمة الانتماء لعالمه والتماهي معه.
والاهم الذي هو مهمل وغير مقارب في الحالة العراقية، ان العراق عرف نوعين من " النهضة"، اولى مرتبطة بالتشكل الحديث في ارض السواد، وتبدا في وقت اقدم من تلك المصرية ومن اوربا الحديثة نفسها، وثانية تتمثل علائمها في النجف، على قاعدة تكريس الانتظارية، و" الدولة اللادولة / المدينه"، وتقوم على الاجتهاد والحوزة والتقليد، متداخله مع محيطها ونمطية تكوين بحرها العشائري المساواتي اللاارضوي اللادولوي، وتصير حاضرة وفعاله على انقاض القبلية منذ القرن الثامن عشر، بالذات في اعقاب الثورة الثلاثية 1787 وبعدما ابدته القيادة القبلية من ميل الى الكيانوية والحكم عبر المطالبه بكرسي الولايه في بغداد، مادفع بالقبيلة المساواتيه التي انتدبتها بالاصل لممارسة مهمه القيادة المضبوطة من اسفل، الى الانحياز المتسارع بالجملة الى النجفية والتشيع(1)، ومانشير اليه هو السياق الحديث للدورة المنبعثة الثالثة، بينما يعود تشكل النخبة الحداثية الايديلوجية البغدادية، الملتحقة بمايعرف بالنهضة العربية، الى الاطار البراني للعاصمة المنهارة، وهو متاخر لم يظهر ولاترافق مع ماعرف بالنهضة المصرية الشامية، كما ظل بلا تبلور الى ان حل الغرب، وحضر مباشرة كاحتلال، متخذا صيغة عملية اصطراعية.
ووقتها مورست عملية مصادرة للظاهرة الجديدة الايديلوجيه كما العادة، فقامت الاليات غير الناطقة انما الحاضرة، باحتياز الحزبين الاهم فعالية من بين الاحزاب الحديثة، فادرجتهما ضمن معسكرها، كما سبق وفعلت من قبل مع القبيله ثم مع القيادة اللادولوية الانتظارية، فقام حزب "فهد" الشيوعي اللاارضوي في الناصرية، عاصمة المنتفك بعد محاولات فاشلة، جرت في العاصمه المنهارة، كما تاسس في المدينه نفسها حزب فؤاد الركابي البعثي في طوره اللاارضوي سبقته هو ايضا محاولات بغدادية بلا نتيجه تذكر،وصولا الى "جبهة الاتحاد الوطني" وثورة 14 تموز 1958، حين انتهت مرحلة من التاريخ الانقطاعي، تعود الى منتصف القرن الثالث عشر، امتازت بالبرانيه، وبتعاقب الدول والسلالات واشباه الامبراطوريات الشرقية على عاصمة الدورة الثانيه المنهارة، باعتبارها الرمزي، من دون سلطة فعلية احتلالية على البلاد، بالاخص منذ القرن السادس عشر والانبعاث الثالث الراهن.
وهنا ومن ساعتها الى اليوم، دخلت الاصطراعية الازدواجية طورا جديدا مختلفا بظل استمرار اللانطقية، فغدت هذه ملحه لايمكن تاجيلها او الاستعاضة عنها كما كان عليه الحال في الماضي، بينما تواصلت من يومه صعوبة مقاربتها، فضلا عن تحقيقها المساوي لاعظم انقلابيه في التاريخ البشري، والتي معها وبموجبها تنتقل البشرية حكما،من طور من التاريخ الى اخر، في المقابل يحدث الانفصال بين الاليات اللاارضوية والقوى الايديلوجية المصادرة منها، وبسبب تعدي المطلوب والمطابق للاساس اللاارضوية ساعة ثورة 14 تموز، ووتجاوزها اهدافا وممكنات ما بوسعها ان تتيحه الاطر الايديلوجية، فلقد تحولت هذه الى ذاتها الاصلية، وعادت قوى برانيه متصادمه مع الاساس اللاارضوي الاسفل، فجرت اوضح عملية مصادرة وتحويرـ مع السطو على الحزب الشيوعي اللاارضوي عام 1964 على يد عزيز محمد، الذي اعاد الحزب الى الصيغة ماقبل اللارضوية باليات كردية، بعدما جرت تصفية الحزب الشيوعي اللاارضوي عام 1963من قبل حزب البعث، المحور هو الاخر الى حزب سلطوي، بعدما كانه قبل ثورة تموز.
وكانت الثورة وانفجارها المتعدي سلوكا ومنطويات، لما يعد او يعتبر من باب المقبول والمعقول بحسب المقاييس الغالبة الارضوية والغربية، قد ولدت تازما حادا على مستوى الازدواج، وماقد طرا عليه بنتيجة الاصطراعية مع الحضور الغربي، فقد وجد الاطار الاعلى الانهياري البراني وقد فقد عنصر الدعم الذي كان يتمتع به عن طريق البرانيه المتعاقبه، نفسه بحال غير مسبوق من الضعف، استوجب استفارا غير عادي، ونزوعا للعنف الشامل، ومساعي للتكتل، في حين بدت بغداد ونخبتها عاجزة كليا عن القيام باي دور، بعد ان شكلت بحماية الاحتلال الانكليزي ماسمي وقتها بالدولة الواجهه، لتنتقل المهمة الى ريف المنطقة العليا / عراق الجزيرة/، ويصير لازما الاطار الايديلوجي الحزبي المحور سلطويا، والمتداخل مع نواة قرابيه، مع ان هذا ماكان له لوحده ان يفعل شيئا لصالح الاطار الاعلى، لولا النفط وريعه، العامل الحاسم والفاصل، لنصبح امام ثلاثية، (الحزب، العائلة، النفط)، وهو ماقد تبلور وصار واقعا، بعد عشر سنوات من الاصطراع في 17 تموز 1968 .
وكان الحزب الشيوعي قد عرف ظواهر انشقاقية ضخمه، كان محركها الاول تاريخها اللاارضوي، في محاولة لاستعادته في وقت صارت فيه المهمة مختلفة، وفي حين كانت الانشقاقات تكرر ذات المفاهيم الايديلوجية الاساسيه دون ان تدرك المطلوب، اي الذهاب الى النطقية اللاارضوية التي صارت اليوم شرطا لازما، من دونه لاعودة لاحضان اللاارضوية، ماانتهى بها الى التصفية والغياب، في حين مال الحزب مابعد الارضوي الايديلوجي الى الالتحاق بالاطار الاعلى وجرب في السبعينات التحالف معه على امل لعب دور "بعثيي الجبال" بناء لمحركات جزئية كردية، لنشهد من يومهاغيابا طويلا، لاي شكل من اشكال " الوطنيه"، بما في ذلك الزائفة منها، بعدما انتقلت الاحزاب الايديلوجية الى موضع اخر، ظل مستمرا الى اليوم وقد تحولت بسبب غياب النطقية، الى قوى معيقة، معادية للوطنيه، تبريرية لحكم الحثالة الحاكمه باسم الاحتلالين الامريكي الايراني.
ليس من الغريب على اللاارضوية ان تكون بلا نطقية، فهذا اصلا هو المبدأ الساري عليها منذ وجدت عند بدايات التاريخ البشري الى اليوم، فما تسنى لها من ممكنات التعبيرية الا ماهو حدسي نبوي في الدورة الاولى السومرية البابلية الابراهيمه، تكرر بصيغ اخرى مع الالتزام بالجوهر في الدورة الثانيه، لينتهي الى "الانتظارية" التي تحيل المهمة الى دورة قادمه، المفترض انها الثالثة الحالية، الذاهبة مع الانقلاب الالي، والغلبة النموذجية الغربية، والانتقال من العيش البيئي على حافة الفناء، الى شكل العيش المذكورليس بيئيا اليوم، بل بحكم التصادمية مع الظاهرة الغربية، والتفاعلية الراهنه مع حضور عنصر من خارج البنية المجتمعية هو "النفط"، مضافا للايديلوجيا والسعي الافنائي الغربي.
ولايمكن بالطبع لابل على الاطلاق، المقارنه بين نخبة نهاية القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، وتلك التي تعيش منذ ثورة 14 تموز 1958 واشتراطاتها الى الوقت الراهن، ولم تتبلور بعد، ولا استطاعت التعبير عن ذاتها،مع الذروة المتعاظمة كما ونوعا من المعطيات المحفزة والضرورية لانبلاج اكثرالمهمات صعوبة واهمية كونية، على مر التاريخ.
ـ يتبع ـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حول انعطاف القبائل العربية الجنوبية الى التشيع يراجع / فهد عبدالله النفيسي/ (دور الشيعه في تطور العراق السياسي)/ دار النهار ـ بيروت.