بانتظار-وطنية- مابعد النهرين التحولية؟؟/3


عبدالامير الركابي
2023 / 3 / 8 - 16:11     

يلعب علو مستوى الديناميات اللاارضوية العراقية دوره الطبيعي وهو يتعرض لتحد من نوع الاحتلال العسكري، وقد لعب دورا في تاجيج ردة الفعل العراقية، ارتكاب الطرف المحتل لخطأ استراتيجي غير مقصود، غاية في الخطورة، فالحملة البريطانية دخلت العراق من جنوبه، وظلت تصعد شمالا نحو بغداد على مدى ثلاث سنوات، بنوعها وعدتها المختلفة، مخترقة "منطقة الامان" التاريخي، فالعراق وهو موضع انصباب السلالات من شماله وشرقه وشماله، من الصحاري والجبال الجرداء، باتجاه ارض الخصب جنوبا، لم يعرف في حياته وعلى امتدادها، حالة واحدة من التهديد، ناهيك عن الاحتلال من الجنوب، الذي ظل بناء عليه نقطة الامان وموضع التشكل المجتمعي، ماقد جعل من مجيء الانكليز على هذه الشاكله، بمثابة تهديد وجودي افنائي، استثار مايقابله ومن عينته من ردة فعل غير معروفة نوعا، ولامثال لها، هي الثورة اللاارضوية الاولى الحديثة غير الناطقة، عام 1920 .
وبحركة بلا قيادة مشخصة، ولاسلاح من صنف مايملكه من تجري مقاومته، وبلا حتى تهيئة مسبقة او تحضيرات، تفجرت ثورة تحكي طبيعة المكان ونمطيته الخاصة، لاتخضع لتشخيصات "الوطنيه" الحداثية، ولاتنتمي لها(1) ماقد اضطر الغازي الانكليزي وقتها لان يقرر الانسحاب يائسا (2)، لولا الاستدراك المتاخر الذي سيفتح بابا من وقته، لاصطراعية مستمرة ظلت سارية الى عام 1958 حين تفجرت يوم 14 تموز، الثورة اللاارضوية الثانيه غير الناطقة هي الاخرى.
ولنتصور مثلا لو ان الحملة البريطانيه افتراضا قد جاءت من الشرق من جهة ايران، او من جهة سوريا، ودخلت بغداد مسقطة العثمانيين كما هو ديدن التعاقبات البرانيه السارية منذ زمن هولاكو، ولنحاول ان نستعمل الخيال كي نعيد ترتيب المسار التاريخي الاصطدامي الغربي الانكليزي/ العراقي من عام 1914، وهو مالم يحدث على الاطلاق ان خطر يوما لاي من فطاحل " الحداثة" الببغاوية " العلمية"!!! ولا يقف الامر هنا بالطبع، فما نتحدث عنه يشمل اجمالي المواجهة الاصطراعية الناشبة، ويلقي ظلاله على نوعها، ودور كل من طرفيها، اللاارضوي العراقي، والاحتلال البريطاني الغربي، بعدته الالية.
فارض السواد اللاارضوية، لم تثبت تعديها للقدرات الالية الانكليزيه بوسائل يدوية وحسب، بل مارست الاسبقية والفعالية الاستثنائية بما خص الادوات والوسائل الغربية الحديثة نفسها بكتلتها الشامله، ومنها الوسائل الاخضاعية الايديلوجيه واحزابها، فصادرت اهمها واكثرها قدرة على الفعالية المضادة، ضمن اشتراطات الافناء بالدولة المركبة من خارج النصاب المجتمعي، والسعي لتغيير شكل ملكية الارض، فكان لها ان جعلت الشيوعية لاارضوية، بغض النظر عن ادعائية الانتساب الى الاصطراع الطبقي الغربي، ومنجز الغرب الحديث الماركسي اللينيني، وبعد محاولات من هذا النوع ارادت بها ان تجد لها موطيء قدم في العاصمة المنهارة، وثبت فشلها، عادت سومر وعاصمة المنتفك مركز تشكل الدورة الثالثة الحالية، وصاغت "حزبها الشيوعي"، محولة اياه الى ظاهرة لاارضوية، خاضعة لالياتها ومتطلبات اصراعها الراهن، استنادا لبنيتها التشاركية، المساواتية البنيوية، مسقطة جانبها الايديلوجي البراني، وملحقة اياه بالاليات اللاارضوية.
وبازاء وبالضد من "الدولة المفبركة" كصيغة حديثة من نمط الدولة البرانيه المستمرة منذ هولاكو، متعاقبة على العاصمة المنهارة، وجدت كما المعتاد دولة اللاارضوية اللاكيانيه طبيعة وبنية، فاخترقت الان، البناء الكياني المجتمعي كله بما فية العاصمة المنهارة، فتسارعت بناء عليه وتائر التشكل الحديث العراقي، وغدت البؤرة اللاارضوية وفعلها حاضران على مستوى العراق ككل، ماقد عزل الدولة البرانيه، وحال بينها وبين ان تؤدي مهمتها الرئيسية التي اوجدت من اجلها كوسيلة، عن طريقها يؤمن مايمكن من النفوذ الاستعماري في العراق.
هل الديناميات الالية اعلى واكثر فعالية من تلك اليدوية حين يتعلق الامر بحضور براني للاولى على ارض الثانية، لايمكن احتساب هذا الجانب بدقة، ومع تعدد تمظهراته بحسب المواضع والبلدان، مايغير اشكال ومستويات التصادمية على امتداد المعمورة، ومع اخذ الكتلة الالية البرجوازية مجتمعة اوربيا، بمقابل تلك التي ماتزال يدوية، واذا كانت من النوع التصادمي الافناتئي، او التصادمي الالتحاقي في الحصيلة، والامر هنا متوقف بصورة حاسمه على مااذا كنا بصدد احتمالية او امكانية "مابعد غرب"، ومدى ضرورتها،او توفر الاسباب الببيوية التي تبررها، فضلا عما اذا كانت بالاحرى هي العنصر المحرك للعملية التاريخيه، وبمقدمها المرحلة او الفترة الالية، بصيغتها الالية المصنعية الابتدائية.
ولاشك لابل لامهرب والحالة هذه، من ان نتوقع غير المنجز الغربي الهائل، منجزا مؤجلا هو من دون شك الاكتشاف الاعظم والاخطر في التاريخ البشري، فمن دون اكتشاف التحولية والاليات التفاعلية المجتمعية التاريخيه، يستحيل تصور نتائج او انتهاءات صراعية مع الغرب، ليست بصالح التوهمية الغربية، الامر الذي حصل في حالة العراق الذي هو بؤرة اللاارضوية الازدواجية، بعد ان تحقق النصر الكاسح للاارضوية على المشروع الاحتلالي الغربي في تموز 1958، لتقع اللاارضوية في التازم الناجم بالدرجة الاولى عن استمرار اللانطقية اللاارضوية، ماكان من شانه ان اعاد تكريس اشكال مستجدة من مشروع الغرب متحورا، بالاخص بعدما اضيف للمشهد، والى الايديلوجا الحزبية، عنصرالريع النفطي شديد الفعالية، ليحل من وقتها تاريخ "فك الازدواج" والحضور التحققي.
وكانت احدى توهميات الغرب الحداثي الهامة قد اعتبرت من قبيل المنجز غير المسبوق في التاريخ البشري، فعدت الماركسية وتكريسها للصراع الطبقي بالقول "ان تاريخ المجتمعات البشرية لم يكن الا تاريخ صراع طبقات"، بمثابة انتقاله الى الادراكية العقلية لاليات الظاهرة المجتمعية والقانون المسير لها، هذا مع العلم ان هذا المنجز الاني التمهيدي للرؤية الكونية اللاارضوية، لم يكن اكثر من اكتشاف آلي محلي بشروط ارضوية احادية، غير موصول بالقانون الكوني المجتمعي وان "تاريخ المجتمعات البشرية ليس الاتاريخ التصير المجتمعي من الارضوية الى اللاارضوية العقلية" وهو الاكتشاف الاعظم الباقي مؤجلا على مر التاريخ البشري المجتمعي، به ومع انبثاقه تحضر "وطن كونية مابعد النهرين" على جثة "الوطنيه الايديلوجية الزائفة"، في الوقت الذي تتحول هذه فيه، الى قوة متصادمه مع الحقيقة اللاارضوية، او خارجه عنها.
وقتها وضمن اشتراطات غاية في التداخل والتعقيد، يدخل العراق مرحلة الانقلاب التاريخي، وتصير عملة "فك الازدواج" عنوان المتغيرات، واجمال لوحة نهاية زمن "العيش على حافة الفناء" الاول البدئي والجزئي المتمثل بحالة ارض السواد وتجلياتها، السومرية الاولى، والكوفية البصرية الثانية، ليصير اجمالي المشهد الكياني، وليس جزءا منه، مشمولا منذ عام 1980 مع بدء الحرب العراقية الايرانيه، اطول حرب بين دولتين بعد الحرب العالمية الثانيه، بالتدميرية الافنائية الكلية، حروبا كونية واقليميه، وانفجارات احترابيه داخلية متواصلة، وتوقف للديناميات، مع عملية السحق المسلطة بالغزو على الكيانية المفبركة المتولدة عن زخم الديناميه ومساراتها وماانتهت اليه، بينما تطل على المشهد حالة تبدل تاريخي للمكان وصفته البيئية التاريخية، باعتباره ارض مابين النهرين، حيث يشرع النهران العاتيان بالتراجع، والاقتراب من الزوال، الى ان يصير المكان جديرا باسم "ارض مابعد النهرين".
وليس مشهد الكارثة المديدة المستمر طيله اربعين عاما، مسالة جزئية "محلية " بقدر ماهي حال انتقالية على مستوى المعمورة، العراق فيها كما العادة ومامقدر له، الر ائد والسباق، منذ ان يدخل اشتراطات مازق الازدواجية، او استحالة تكرارها على النمط الامبراطوري الكوني، ويحدث هذا تحديدا مع ثورة تموز 1958 حين ينهزم كليا ويسحق، الحضور الغربي، بينما لاتتوفر الاسباب التي تجعل الاطار الاعلى الارضوي يستطيع التبلور في مشروع غلبة كالعادة، ينجم عنه النزول الى اسفل، على امل تحقيق الغلبة السلطوية الارضوية قبل ان يكتشف استحالتها المباشرة، فيقرر اللجوء الى استراتيج ( المدينه/ الامه الامبراطورية)، على الحواف العليا من المجال اللاارضوي، وهم مالم يكن متاحا اليوم، فلا الامبراطورية ممكنه ضمن اشتراطات الغلبة الغربية، ولا الاطار المذكور متشكل اصلا بذاته، بينما نشأ عن ثورة تموز انهاء للبرانية ( دخل هولاكو الى بغداد واسقطها عام 1258 وتفجرت الثورة اللاارضوية الثانيه غير الناطقة في 1958) بعد سبعة قرون بالتمام والكمال، هي تاريخ البرانيه المتعاقبة، واخرها الغربي، مع نموذجية مشروعه، وفبركته الكيانيه لموضع لم يعرف الكيانيه والدولة / الوطنية في تاريخه.
وليس مانتطرق له مسالة عارضة، او مما يمكن الاستعاضة عنه بغيره، فالحاصل اليوم هو انقلاب في الاشتراطات البنيوية لكيانيه لها خواصها البنيوية التاريخيه الازدواجية، الامبراطورية الكونية، وهي تقابل مثلا، حالة الاحادية المصرية "الوطنيه" او اية حالة احادية، علينا ان نتصور لو انها واجهت مايحول دون تشكلها وطنيا، اي لو ان فرنسا او المانيا، او مصر كمثال، صارت فجاة عاجزة عن التشكل في كيان، وماتكون دلالة ذلك، ومايمكن او يتوقع ان يترتب عليه، وبما ان حصيلة تازم كل نمط كيانيه، ياتي كما مفترض من طبيعته وصنفه، فان حالة العراق بالاحرى، انطوت وكان ينبغي ان توحي بالانطواء على حضور طور " فك الازدواج"، وقد صار منذ منتصف القرن الماضي، لوحة من الاحتدام الاقصى محمولا على عنصر طاريء، دخل كما حال الاله في اوربا، من خارج التوازن المجتمعي الازدواجي وطبيعته، متخذا صيغة الريع النفطي، الذي سيصير من يومه رافعة عملية "فك الازدواج" وتداعياتها المفضية الى الانقلابية الكبرى الكونيه.
ـ يتبع ـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جرت العادة ان يتناول الحدث العشريني بحسب قدرات الايديلوجيين ومايملكونه من قدرة على التشخيص بالتركيز على خاصية " الثورة الوطنيه العامة" مع اشقاط كل مايتصل بهذا المفهوم من موضوعات على حدث يبقى مستقلا بذاته وكينونته بلا تعريف ختى الساعه.
(2) ولقد حدثت في " نهاية 1919 ونهاية 1920 احداث جسيمه في العراق كادت تؤدي الى هزيمة محققة لقوات الاحتلال البريطاني، فلقد قامت الثورة في نهاية حزيران 1920، واشتعلت نيرانها في الفرات الاوسط، وسرعان ماانتشرت الى منطقة الغراف والعمارة وديالى، وبقية انحاء العراق، ولقد تكبد البريطانيون خسائر كبيره مما اضطرهم الى الشروع بالانسحاب كليا من العراق، وبالفعل اعد الكونوليل ولسن مشروعا مفصلا بالانسحاب العسكري من العراق، لكن السلطات البريطانيه في لندن رات انه مازالت هناك فرصة لتدارك الهزيمه الكلية، فاستدعت السير برسي كوكس، واطلعته على الموضوع، فاشار الى ان هناك املا " خمسين بالمائة" بالنجاح في انقاذ النفوذ البريطاني في العراق، ولكن بشرط تشكيل حكومة عراقية تستعمل كواجهه للحكم البريطاني في العراق"/ ابراهيم علاوي ( البترول العراقي والتحرر الوطني) دار الطليعة ـ بيروت/ ص56 نقلا عن كتابي ولسن "الولاء" و "تعارض الولاء" وكذلك رسالة جرترود بيل، حيث تحتوي على فصل كتب من قبل السير برسي كوكس يشير بوضوح الى هذه القضية"/، وهكذا ولد قبل اوانه باربعين عاما تقريبا، مااطلق عليه لاحقا في الستينات ظاهرة "الاستعمار الجديد"، بمعنى ان ظاهرة الاستعمار القديم قبرت في العراق عام 1920.