متابعات - نشرة أسبوعية - العدد التّاسِع - 04 آذار/مارس 2023


الطاهر المعز
2023 / 3 / 4 - 16:34     

في جبهة الأعداء
نيكي هالي، أميركية محافظة، من أبوين هاجرا من الهند. تنتمي للحزب الجمهوري الذي عينها في مناصب عُليا، خلال فترة رئاسة دونالد ترامب، ولا تمل من ترديد بعض الأساطير الزائفة عن "الحلم الأمريكي"، ومن أقولها: "أمريكا ليست بلدًا عنصريًّا أو دولةَ المَيْز العنصري أو دولة الفوارق، ولكنها مُحاطة بالعديد من الأعداء الخارجيين الخطرين ... مهما كانت مشاكلنا وهمومنا، نحن محظوظون لأننا نعيش في أمريكا"، وهي تُعدّ من الشخصيات الأمريكية الرجعية غير اليهودية ولكنها من غلاة الصهاينة، وزوجها صهيوني (هو وأسرته)، وهي ممن يجمعون التبرعات لإنشاء مستعمرات استيطانية جديدة في فلسطين، وكانت متعاونة نشطة مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ودائرته المؤيدة للكيان الصهيوني، مثل ابنته وزوجها كوشنر، لكنها (بعدما خَدَمَتْه ) انقلبت عليه وتريد منافسته، إذ أعلنت ترشّحها للإنتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري، على أمل أن تُصبح الرئيسة المقبلة للولايات المتحدة، بحسب وكالة "أسوشيتيد برس" - 14 شباط/فبراير 2023.
كانت حاكمة ولاية ساوث كارولينا سنة 2011، وسفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة سنة 2017، حيث خدمت الدولة الصهيونية، ودافعت عن مصالحها وعن جرائمها في مجلس الأمن، لمدة عامين، وهي التي دفعت إلى محاصرة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أنروا)، من خلال تجميد التمويل الأمريكي، لأن إنشاء أنروا يُجَسّد وقائع النكبة وتهجير أكثر من ثمانمائة ألف فلسطيني من وطنهم، كما نظمت وأشرفت على خروج الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بسبب انتقاده للكيان الصهيوني، وكانت عضوًا في فريق ترامب الذي خطط وقدّم ما يسمى بـ "صفقة القرن" إلى جانب جميع القرارات أثناء رئاسة دونالد ترامب.
تأمل نيكي هايلي في الاستفادة من تفانيها في خدمة الأيديولوجية الصهيونية ومن دورها في القرارات المتطرفة للسياسة الخارجية الأمريكية في الوطن العربي (ما يُسمّى "الشرق الأوسط") لتمويل حملتها الرئاسية من خلال المانحين والمليارديرات المؤيدين للصهيونية، والذين التقت بهم في منتدى "لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية" (إيباك، أكبر لوبي صهيوني في العالم). علاوة على ذلك ، أطلقت حملتها الانتخابية بشريط فيديو تم تصويره في فلسطين المحتلة، في مستعمرة استيطانية بالقرب من غزة المحاصرة، ما رفع شعبيتها بين المستوطنين الصهاينة لتكون أكبر بكثير من شعبيتها بين المواطنين الأمريكيين (الناخبين)! لقد أكسبها تفانيها في خدمة الصهيونية تعهدات بتبرعات لحملتها الإنتخابية، بقيمة 17 مليون دولار في غضون بضعة أيام.
نشر مايكل وولف كتابًا سنة 2018 بعنوان (Fire and funy : inside the Trump white house ) "النار والغضب: داخل البيت الأبيض زمن ترامب" ، يصف نيكي هالي بأنها شخصية بلا مبادئ، بل "طموحة وانتهازية"، وعلى أية حال ، فهي تعبر عن كراهية شديدة تجاه الفلسطينيين والعرب، مقابل حب للصهيونية والاستعمار، بلغ حد الهَوس.
خلال إحدى زياراتها العديدة إلى فلسطين، خلال شهر حزيران/يونيو 2017، اتهمت الأمم المتحدة في مؤتمر صحفي مشترك مع بنيامين نتنياهو بـ "مضايقة" كيان الإحتلال.
تدافع "نيكي هايلي"، سفيرة الولايات المتحدة السابقة لدى الأمم المتحدة، كما جميع موظفي الدّولة الأمريكية، عن سياسة الإمبريالية الأمريكية التي لم تكن أبدًا مساندة أو داعمة للشعوب المضطهدة أو المستعمَرة، لكنها تُظْهر حماسة شديدة بل مُغالِية، ويبدو أن صِدْقَها وإخلاصها لا يُضاهيه شيء عندما تدافع عن قضية واحدة: الصهيونية ودولتها وجرائمها.
اليمن
يهتم الكيان الصهيوني بأرخبيل سُقطْرَى لموقعه الاستراتيجي ولأنه يمثل نقطة ارتكاز للمراقبة ولعدوان محتمل على إيران، وفقًا لتحليل نشره، سنة 2020، "معهد واشنطن" الصهيوني التابع لآيباك، وفي كانون الثاني/يناير 2022، نشرت العديد من وسائل الإعلام صورًا لسائحين يحملون علم الكيان الصهيوني في سقطرى التي دخلوها بتأشيرة صادرة عن الإمارات التي طردت قواتها والمليشيات التابعة لها قرابة ثلاثة آلاف صياد من أرخبيل سقطرى، في إطار برنامج لتحويل عدة جزر إلى قواعد عسكرية صهيونية وإماراتية، وخطفت مليشيات مرتزقة الإمارات والسعودية أكثر من ألفي صياد يمني، منذ 2014، بحسب بيان صادر عن وزارة الثروة السمكية التابعة لحكومة الإنقاذ الوطني اليمنية بصنعاء (22 شباط/فبراير 2023). وتتزامن عمليات الإخلاء القسري هذه مع وصول ضباط صهاينة إلى سقطرى (20 شباط/فبراير 2023) ومع بناء ثكنات ومنشآت عسكرية جديدة في جزيرة عبد الكوري ومنطقة القصير".
تم إغلاق موقع " إنسان" المنظمة اليمنية للحقوق والحريات، بعد نشر تقرير بتاريخ 16 شباط/فبراير 2023 بعنوان "مآسي خفية في البحر الأحمر"، أورَدَ إحصائيات تفصيلية عن اعتقال وترحيل القوات المسلحة السعودية والإماراتية (أو مليشيات المرتزقة) لصيادين يمنيين في البحر الأحمر منذ بداية الحرب، وأدّت هذه العمليات إلى مقتل أكثر من 274 صيادا وإصابة 215 وإعاقة خطيرة وتدمير 476 قارب صيد يمني بالبحر الأحمر، وتعتقل البحرية الأمريكية الصيادين الفارين من القصف لتُسلّمَهُم للجيش السعودي الذي يحتجزهم في بلدة خميس مشيط بالسعودية.
قبل الحرب، كان صيد الأسماك يدعم أكثر من 2,5 مليون شخص في اليمن وهو أحد أهم القطاعات الاقتصادية في البلاد، ومنذ انطلاق الحرب، تقوم مجموعات من المرتزقة المدعومين من الإمارات والسعودية، بنهب الأسماك باستمرار من الصيادين ومن أسواق اليمن لصالح الشركات الأجنبية، بحسب تقرير نشرته وكالة سبأ بتاريخ 23 شباط / فبراير 2023، كما تنهب الميليشيات المرتبطة ب"القاعدة" النفط والآثار اليمنية...
قال زعيم حركة المقاومة اليمنية أنصار الله، عبد الملك الحوثي، في كانون الثاني/يناير 2023 "رغم الجهود المبذولة لتجديد وقف إطلاق النار الإنساني الذي توسطت فيه الأمم المتحدة، لا تزال البلاد في حالة حرب تغذيها الولايات المتحدة وحلفاؤها ..."، واتهم، في كلمة بثها التلفزيون في 23 شباط/فبراير 2023، الولايات المتحدة بتخريب أي مبادرة تهدف إعادة السلام والاستقرار في اليمن، وقال "إن تواجد القوات الأمريكية والبريطانية والسعودية والإماراتية في اليمن غير مقبول وأن للمقاومة الحق في معاملتهم كمعتدين ومحتلين ... الولايات المتحدة هي مُطْلِقَة العديد من الحروب والصراعات التي تدور في العالم، لكي تستفيد شركاتها من تجارة السلاح ... هي وراء مصادرة حقوق الشعوب في الحرية والاستقلال كما الحال في فلسطين .. عملت الولايات المتحدة على إطالة عمر والحروب والأزمات الإنسانية بما في ذلك أزمة اليمن، لجني أرباح طائلة من مبيعات السلاح .. نحن ندين الجرائم المروعة التي ارتكبت تحت رعاية الولايات المتحدة وإسرائيل وبريطانيا وغيرها. ... نقول للأميركيين والبريطانيين والسعوديين والإماراتيين، غادروا كل محافظاتنا ومياهنا الإقليمية ».
بخصوص الكيان الصهيوني نشر موقع "معهد أبحاث الأمن القومي الصهيوني" بحثًا سنة 2022، يعتبر إن الكيان الصهيوني طرفٌ مُشاركٌ في العدوان على اليمن، يُراقب عن كثب دقة التخطيط والتنفيذ وإصابة أهداف في عمق الإمارات والسعودية، من قِبَل المقاومة اليمنية، رغم الحماية الأمريكية التي أصبحت غير فَعَّالة، ويدرس التّداعيات الإقليمية للتحولات الجارية في اليمن والتي قد تصل إلى ميناء "أُمّ الرّشراش" (إيلات ) بجنوب فلسطين الذي احتله الصهاينة سنة 1949 ليكون لينفذوا منه إلى البحر الأحمر...
أصبحت الإمارات ( مع سلطة أوسلو) رائدة في إدماج الكيان الصهيوني، بسُرْعَةٍ فائقة، في الوطن العربي الذي يُصبح تابعًا وخاضعًا ليس للإمبريالية لوحدها وإنما أيضًا لربيبتها الصهيونية سياسيا واقتصاديا (عبر اتفاقيات كويز والغاز والربط الكهربائي والمعدّات الأمنية والإستخباراتية...) وإيديولوجيا، باعتبار وجوده "طبيعيًّا" بيننا، بل أصبح كيان الإحتلال حليفًا عسكريًّا ضد شعوب إيران، ما يعني شطب حق الشعب الفلسطيني في وطنه وشطب حق العودة لضحايا الإحتلال الإستيطاني...
تُجّار الحرب
ارتفع حجم السلاح النّوعي المتطور المتدفق إلى أوكرانيا، منذ ربيع سنة 2022، لما أعلنت دول حلف شمال الأطلسي الدعم العسكري المباشر من خلال تقديم المعلومات الاستخبارية المهمة بشأن توجيه الضربات المدفعية، أو كشف التحركات الروسية، أو عبر تأمين أجهزة الاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية من خلال شبكة "ستارلينك"، وكذلك عبر تقديم الاستشارات العسكرية والخبراء، وعبر تدريب آلاف الجنود الأوكرانيين وتقديم الأسلحة والذخائر، وفي أيار/مايو 2022، قدّم حلف ناتو مئات المدافع وعشرات آلاف القذائف، ومنظومات صواريخ أميركية، متطورة من طراز "هيمارس" و"MLRS 270"، بالتوازي مع زيادة نشاط الأقمار الصناعية وأجهزة استخبارات دول حلف شمال الأطلسي، لتزويد قوات أوكرانيا بمعلومات دقيقة عن المراكز الحساسة ونقاط التجمع ومخازن ذخيرة الجيش الرُّوسي، وبداية من حزيران 2022 حصل جيش أوكرانيا ( من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وبولندا ) على المدرّعات القتالية الخفيفة وناقلات الجند المدرّعة، والمدافع ذاتية الحركة ودبابات "تي-72" المحدّثة، فضلا عن آلاف المُدَرِّبين والمُستشارين العسكريين والخُبراء والفنيين الأجانب العاملين مع جيش أوكرانيا، ما دفع الجيش الروسي إلى التراجع في عدد من الجبهات، بعد حوالي ستة أشهر من بداية الحرب...
في الذّكرى السنوية الأولى لبداية الحرب، أعلن البيت الأبيض عن دعم عسكري جديد لأوكرانيا بقيمة مليارَي دولار، تُضاف إلى أكثر من نصف مليار دولارا تم الإعلان عنها في كانون الأول/ديسمبر 2022، ما يجعل من استمرار وإطالة أمد حرب أوكرانيا فُرصة إضافية لزيادة أرباح مجمع الصناعات العسكرية الأمريكية وبعض شركات الأسلحة الأوروبية، وأنشأت أكبر خمس شركات للصناعات الحربية الأمريكية متعاقدة مع وزارة الحرب الأمريكية بقيمة فاقت 2,1 تريليون دولارا، خلال عشرين سنة ( لوكهيد مارتن، ورايثيون وجنرال دايناميكس وبوينغ ونورثروب غرومان) مجموعات ضغط ( لُوبِيّات ) ومراكز بحوث ودراسات أنفقت عليها حوالي 125 مليون دولارا سنويا، فضلا عن حوالي ثمانين مليون دولارا سنويا من التبرعات للأحزاب ونواب الكونغرس والأعمال "الخيرية"، وتمكنت شركات تصنيع الأسلحة الأمريكية من توظيف عُملائها في مناصب عليا بوزارة الحرب (بنتاغون) والكونغرس ووزارة الخارجية والبيت الأبيض، وفق مواقع "بزنس إنسايدر" و "مركز معلومات الدّفاع" (23 شباط/فبراير 2023)
أوروبا خلال العام الأول من حرب أوكرانيا
عملت الولايات المتحدة على إنهاء دور أوروبا كحليف لها خلال "الحرب الباردة" ( من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى انهيار الإتحاد السوفييتي) وبدأت إعادة تشكيل العالم، لجعله أحادِي القُطب (النظام العالمي الجديد وفق بوش الأب)، بإطلاق حروب داخل أوروبا (يوغسلافيا وما حولها) وكرست الولايات المتحدة قيادتها للعالم الرأسمالي بعد حادثة 11 أيلول/سبتمبر 2001، وما تبعها من حُرُوب عدوانية "استباقية" بذريعة محاربة الإرهاب والدّول المارقة وكل ما اعتبرته "تهديدًا للأمن القومي الأمريكي" وللمصالح الأمريكية التي لا يُدْرِكُ أَحَدٌ حُدُودَها، غير أن الأحداث أظْهَرت أنها تشمل كافة مناطق العالم، على حدّ تعبير الجنرال "كولن باول"، منها مناطق ذات موقع استراتيجي هام وأخرى تحتوي على ثروات ومعادن تريد الولايات المتحدة السيطرة عليها وحرمان المنافسين والخُصُوم من الإستفادة منها...
طرحت السّلطات الرّوسية، في بداية القرن الواحد والعشرين، تقاربًا بين أوروبا وآسيا ضمن تشكيل سُمِّيَ "أوراسيا" واعتبرت الولايات المتحدة هذا المشروع خطرًا أو تهديدًا لمصالحها، لأنه قد يُبْعِدُ أوروبا عن نطاق هيمنتها، فَسَرّعت انضمام دول أوروبا الشرقية إلى حلف شمال الأطلسي وفرضت على الإتحاد الأوروبي قبول عضويتها وضمّها إلى الإتحاد رغم عدم توفُّر الشُّرُوط، لتضمن بذلك أغلبية موالية لها داخل الإتحاد الأوروبي، وبقاء قارة أوروبا تحت سيطرتها العسكرية (عبر الأساطيل البحرية ومائة ألف جندي موزعين بين القواعد الضخمة، خصوصًا في ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا) والسياسية، ثم تَعَزّزت السيطرة الإقتصادية عبر المحروقات (الغاز خصوصًا)، منذ انطلاق الحرب في أوكرانيا، وبذلك تبخّرت أحلام مشروع "أوروبا من المحيط الأطلسي إلى سلسلة جبال أورال" ومحاولات إرساء "السيادة الأوروبية"، وبقيت أوروبا مُلْحَقَة بالمصالح الإسترتيجية الأمريكية، وزادت أوروبا إنفاقها العسكري، منذ 2003 (مقابل خفض الإنفاق الإجتماعي) كما تمكنت الولايات المتحدة من إجهاض مشروع الجيش الأوروبي المُوحد، لتجعل أوروبا شريكا في كل الحروب العدوانية الأمريكية وفي احتلال البلدان ونهب مواردها، وتعتبر المُفوضيةُ الأوروبيةُ منافسي وخصوم وأعداءَ الولايات المتحدة هم أعداء لأوروبا أيضًا، ما يُفسِّرُ التّستّر (أمام الرأي العام الأوروبي) على مُصمِّمِي ومُنَفِّذِي تفجير خطوط أنابيب الغاز "نورد ستريم 1 و 2، وتعطيل وإلغاء خط السيل الجنوبي، مقابل تعزيز النزعة الأطلسية والأندماج في مشروع "الشرق الأوسط الكبير" (أو الجديد) وما يُفسّر المواقف والممارسات العدوانية الأوروبية تجاه الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والعداء الشديد للصين وروسيا وإيران، رغم الخسائر التي يتكبّدها الإقتصاد الأوروبي، فضلاً عن تأبين جوهر المشروع الأوروبي في أوكرانيا، على حُدُود روسيا...
في الصّف المُقابل تعزّز التعاون بين الصين وروسيا، حيث استغلت الصين وضع روسيا لتفرض عليها شروطًا رفضتها السلطات الروسية طوال أكثر من عشر سنوات، كما تعزز تعاون الصين وروسيا مع إيران، وغن بِحَذَرٍ كبير، وتعززت علاقات العديد من حكومات أمريكا الجنوبية، لكن لا ترتقي هذه المشاورات إلى مصاف الجبهة المناهضة للإمبريالية الأمريكية، لأن الصين وروسيا تُدافعان عن مشروع رأسمالي "مُتعدّد الأقطاب"، كما لم تتعدّ مجموعة بريكس مرحلة التفكير في مصرف خاص بها أو عُملة مشتركة، وهي مشاريع لا ترتقي إلى مُستوى مؤتمر باندونغ ( مجموعة عدم الإنحياز) أو مجموعة السبع والسّبعين، ولا تولي أهمية لمسائل التنمية والسيادة الغذائية والتبادل المتكافئ الخ.
اليابان والصين وأمريكا
التاريخ لا يُعيد نفسَهُ
إن الحرب التجارية التي تشنّها الولايات المتحدة (ومن ورائها أوروبا ودول حلف شمال الأطلسي) على الصّين، ليست أمْرًا مُسْتَحْدَثًا، فقد سبق أن استهدفت اليابان قبل حوالي أربعة عُقُود، غير أن الحرب ضد الصّين تتضمّن جوانب سياسية وإيديولوجية لم تكن ضمن الحملة على اليابان آنذاك.
لا تهدف هذه الفقرات مُقارنة ما حصل آنذاك وما يحصل اليوم، بل التّذكير بما حصل لليابان التي كان اقتصادها في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، وإبراز شراسة السياسات الأمريكية، ولكن التّاريخ لا يُعيد نفسَه.
أظهرت الرأسمالية الإحتكارية الأمريكية استعدادها لسحْق أي منافس، ولو كان حليفًا مُقرّبًا، فهي لا تعترف بمبدأ المنافسة الحرة التي قام على أساسها النظام الرّأسمالي، وسبق لها تدمير الاقتصاد الياباني، بنهاية القرن العشرين، عندما بدأ يغزو السوق الأمريكية المحلية، وفرضت غرامات قياسية على المصارف والشركات الأوروبية لنفس الأسباب...
عادة ما تنتهج الولايات المتحدة سياسات عنيفة في التعامل مع الاقتصادات المنافسة حال استشعارها الخطر على هيمنتها الاقتصادية، وهو ما حصل بالفعل مع اليابان خلال ثمانينيات القرن الماضي، حين كانت اليابان في أوج قوتها ونهوضها وتوسعها الاقتصادي العالمي وريادتها التكنولوجية (السيارات والإتصالات والحواسيب...) وكان ترتيبها ثاني اقتصاد في العالم بعد أمريكا، وكانت السلع اليابانية تَغْزُو السُّوق الأمريكية، ما عَمّق العجز التجاري الأمريكي مع اليابان، في إطار ارتفاع أشْمَل للعجز التجاري الأمريكي مع بلدان العالم من 18 مليار دولارا سنة 1980 إلى 100 مليار دولارا سنة 1985 وإلى 151 مليار دولارا سنة 1987، واتهمت السلطات الأمريكية "حليفها" الياباني "بسرقة الملكية الفكرية الأمريكية، والاستفادة من الصفقات التجارية بشكل غير عادل"، وهو ما ردّدته الدّعاية الأمريكية ضدّ الصّين، بعد حوالي ثلاثة عُقُود، وقد تُعيد ترديد نفس الإسطوانة ضدّ ألمانيا، وكل اقتصاد يمكن أن ينافس المصارف والشركات الأمريكية في سوقها الدّاخلية، وكان هذا الإتهام مُقدمة لفرض العديد من القيود على اليابان، من بينها فرض رسوم جمركية على صادرات اليابان، وصل بعضها إلى نسبة 100%، خاصة على الصلب، والسيارات والإلكترونيات وأشباه الموصلات، وبعد حملات أمريكية وأُوروبية مُعادية (وصلت حَدّ العنصرية)، وقّعَت اليابان والولايات المتحدة ودول أوروبية "اتفاقية بلازا" سنة 1985، التي أجبرت حكومة اليابان على رفع قيمة الين الياباني مقابل الدولار وبعض العملات الأوروبية، بهدف رفع أسعار الصادرات اليابانية، ما أدّى إلى إلحاق الضّرر بصادرات اليابان وخفض مستوى العجز التجاري الأمريكي.
يمكن تلخيص وضع الإقتصاد الياباني كالتالي:
زادت مخزونات السلع اليابانية بين سنتَيْ 1985 و 1989 بنسبة 240% وأسعار الأراضي بنسبة 245%، ما أدّى إلى تحول الإستثمارات نحو المُضارَبَة بدل التصنيع، لأنها أكثر ربحًا من الإستثمار في صناعة السيارات، ما أدّى إلى ارتفاع الأُصُول العقارية والتهديد بانفجار الفُقّاعة، وأقر المصرف المركزي، سنة 1989، تقييد قروض الإسكان، فاستقرّت أسعار الأراضي والمساكن، بداية من سنة 1990، وانخفضت سوق الأسهم بنسبة 32%، بينما ارتفع حجم وقيمة "الأصول السّامّة"، فتوقفت المصارف عن الإقراض، وأفلست 212 ألف شركة يابانية، بين سَنَتَيْ 1990 و 2003، وانخفض سوق الأسهم بنسبة 80%، كما انخفضت أسعار الأراضي في المدن الكبرى بنسبة تصل إلى 84%، خلال نفس الفترة، في حين فَقَدَ أكثر من خمسة ملايين عامل ياباني وظائفهم ولم يجدوا وظائف جديدة، ليُصْبِح الانتحار أهم سبب لوفيات الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و 44 عامًا...
حاولت الحكومة، على مدى عشر سنوات، تحفيز الطلب المحلي، عبر زيادة الإنفاق العام، الذي أدّى إلى ارتفاع الدَّيْن العام سنة 2011، إلى مستويات قياسية، بتأثير من أزمة 2008/2009، ووصل إلى 230%من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أعلى معدل في العالم...
لا يزال الين الياباني ضعيفًا، حاليا، مقابل الدّولار، ، مسجلاً أدنى مستوى له خلال 32 عامًا، ويواصل المصرف المركزي الياباني شراء السندات لإبقاء العائد على السندات الحكومية اليابانية ذات العشر سنوات قريبًا من الصفر، والنتيجة أن الفارق بين الين والدولار (لصالح الدولار) يُشجّع المضاربين على بيع الين وشراء الدولار، مما يزيد الضّغط على الين وخفض قيمته...
انكمش الاقتصاد الياباني للمرة الأولى في أربعة أرباع، خلال منتصف شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2022، وبلغ معدّل التضخم أعلى مستوى سنوي له منذ أكثر من أربعة عُقُود، ووصل العجز التجاري السنوي لليابان إلى مستوى قياسي بلغ 155 مليار دولار بنهاية سنة 2022، ولم يحدث ذلك فجأةً بل كان نتيجة منطقية لعملية بطيئة بدأت سنة 2011، وهي سنة تجاوز الناتج المحلي الإجمالي للصين نظيره الياباني.
تعود أسباب انحدار الإقتصاد الياباني ( من مُنافس للولايات المتحدة إلى اقتصاد متوسط الحجم) إلى اتفاق بلازا ( 1985) الذي شكّل منعطفاً جديداً للهيمنة الاقتصادية الأمريكية وبداية لتراجع اقتصاد اليابان في بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين، وهو ما شجع الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" على شن حرب تجارية على الصين التي احتلت مكان اليابان في الإقتصاد العالمي، على أمَل كَسْر شوكة الصين، كما حصل لليابان خلال فترة رئاسة رونالد ريغن، لكن مراكز البحوث الصينية درست ما حدث لليابان واستخلصت منها دُرُوسًا ثمينة، فضلا عن اختلاف وضع الصين القوية عسكريا واقتصاديا ودبلوماسيا، عن اليابان التي كانت (ولا تزال) تحتلها القواعد العسكرية الضّخمة منذ هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، على إثر استخدام السلاح النّوَوِي من قبل الولايات المتحدة، لتبقى اليابان خاضعة سياسياً وعسكرياً للولايات المتحدة، فكانت الخاسر الوحيد من الحرب التجارية مع أمريكا، أما الحرب على الصين فهي مرتفعة التكلفة لأن تَوَفُّرَ السلع الصينية رخيصة الثمن في أسواق البلدان الرأسمالية المتطورة تُساهم في إخماد غضب المواطنين من الطبقة العاملة ومن متوسّطي الدّخل والفُقراء، ولأن العديد من الشركات الأمريكية أنشأت مصانع بالصّين لخفض تكلفة الإنتاج، ولذا – وخلافًا لليابان قبل أربعة عُقُود – يُسدّد المواطن وشركات أمريكا الشمالية وأوروبا ثمن الحرب التجارية على الصّين التي لها القُدْرة على التّصدِّي، بفضل سوقها المحلّيّة الضّخمة واتّساع نطاق علاقاتها الخارجية وبفضل مُخطّطاتها الإستباقية، مثل تنويع مصادر الطّاقة ومشروع الحزام والطّريق...
خاتمة
فرَضت الولايات المتحدة اليابان، خلال فترة رئاسة رونالد ريغن، على اليابان رزنامة لتوقع اتفاق تجاري لصالح أمريكا، لتفادي زيادة الرّسوم الجمركية، وهو ما حاول الرئيس "دونالد ترامب" ومن بعده جوزيف بايدن فَرْضَهُ على الصّين التي قَدّمت بعض التّنازلات التي لم تكن كافية لوقف الحَملات العنيفة والتّهديدات...
كان اقتصاد اليابان مزدهرًا في بداية عقد الثمانينيات من القرن العشرين، مُباشرة وراء اقتصاد الولايات المتحدة التي خشيت تجاوزها من قِبَل مَحْمِيّتها، في ظل تزايد العجز التجاري بين البلدين، فيما تم اتهام اليابان بسرقة الملكية الفكرية الأمريكية، والاستفادة من الصفقات التجارية بشكل غير عادل، تمامًا كما يُقال حاليا بشأن الصين.
بعد تولي الرئيس رونالد ريغان منصبه سنة 1981، بدأت الولايات المتحدة بالضغط على اليابان لفتح أسواقها أمام الشركات الأمريكية، وتخفيض العجز التجاري بين البلدين، واستجابت حكومة اليابان، لكن الولايات المتحدة اشترطت المزيد من التنازلات، وفرضت رسومًا إضافية على الصلب، مع تقييد واردات أشباه الموصلات والسيارات، بالتوازي مع ضغوط إعلامية وسياسية كبيرة استمرت سنوات قبل فرض رسوم جمركية جديدة ضد كل الدول التي تحقق فائضًا تجاريًا كبيرًا معها، وتأتي اليابان على رأس قائمة هذه الدّول، وللتذكير فإن دونالد ترامب كان آنذاك من قادة الحرب السياسية والإعلامية والتجارية ضدّ اليابان التي اعتبرها، خلال مقابلة في برنامج تلفزيوني "مصّاص الدماء الأمريكية"، وهو نفس الوصف الذي أطلقه بعد حوالي 35 سنة على الصّين...
مَثَّل "اتّفاق بلازا" بين اليابان والولايات المتحدة وألمانيا الغربية وبريطانيا وفرنسا، مُتنفّسًا للإقتصاد الأمريكي المُتأزِّم لأنه أدّى إلى زيادة الصادرات الأمريكية وإلى خَفْضِ العجز التجاري مع بعض دول أوروبا الغربية واليابان، ولم تتوقف حكومة الولايات المتحدة عند هذا الحدّ، بل ضَغَطت على معظم الدول الآسيوية الواقعة تحت هيمنتها لكي ترفع قيمة عُمْلَتها مقابل الدّولار، بالتوازي مع زيادة الرسوم الجمركية الأمريكية، ما يُعسّر دخول السّلع إلى السوق الأمريكية، وشكّل انفجار الفُقّاعة العقارية والمالية في الأسواق الآسيوية انتصارًا أمريكا، خصوصًا مع بداية الركود الآسيوي، بداية تسعينيات القرن العشرين، وبالنسبة لليابان فقد انتهى دورها في الحرب الباردة، واحتلت شركات آبل وإنتل ومايكروسوفت المكانة التي كانت تحتلها شركات سوني وشارب وفوجي وباناسونيك اليابانية، فضلاً عن إفلاس مصارف يابانية بسبب ارتفع حجم القُروض المَعْدُومة، فقد تزامن انهيار الصادرات والناتج المحلي الإجمالي الياباني مع انهيار جدار برلين والإتحاد السوفييتي، وبدأت الولايات المتحدة تعود لاستخدام اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا وبلدان جنوب وشرقي آسيا في حربها ضدّ الصّين، فساعدتها على تجاوز زلزال "توسونامي" سنة 2011 (وهي نفس السنة التي تجاوز خلال الإقتصاد الصيني نظيره الياباني)، وعلى خفض العجز التجاري، منذ سنة 2013، فاليابان بقيت معتمدة على الولايات المتحدة، خصوصًا بعد تلاشي التهديد الياباني للهيمنة الإقتصادية الأمريكية...
تتحدّى الصين الولايات المتحدة من خلال خطط التّحفيز الإقتصادي وإقرار برنامج "صنع في الصين 2025"، الذي يهدف تعزيز الإنتاج المحلي للمكونات ذات التقنيات العالية، كما تحمي الصين حدودها البحرية بالتصدّى للبحرية الأمريكية، فضلا عن مكانة الإقتصاد الصيني الذي يمكن أن يُسبّب انهياره أزمة عالمية...
بدائل الدّولار، خطوة نحو الإستقلال الإقتصادي
لا يزال الدولار الأمريكي يُشكّل العملة الأكثر شيوعًا في المعاملات المالية والتجارية الدولية، لكن التغيير البطيء والطويل بدأ يثير قلق الحكومة الأمريكية، إذ تطمح الصين وروسيا إلى بناء عالم رأسمالي متعدد الأقطاب، وتبحث حكومات بعض الدّول عن بدائل لهيمنة الدولار، فيما بدأت توقيع اتفاقيات وعقود لتبادل وشراء وبيع المنتجات أو الخدمات باستخدام عملات محلية أو عملات غير الدولار، كما ارتفع عدد الدّراسات التي ينشرها بعض الاقتصاديين حول البدائل الممكنة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهي شبيهة بالمحاولات التي كلفت توماس سنكارا ومعمر القذافي وصدام حسين وغيرهم حياتهم.
من بين المحاولات الجادة، هناك تقارب استراتيجي بين إيران وروسيا، وهما منتجان رئيسيان للنفط والغاز، كما بدأ تقارب مماثل بين روسيا والصين وبين البرازيل والأرجنتين، ويتمثل القاسم المشترك بين هذه المشاريع، قيد التنفيذ حاليا، في وضع حد لهيمنة الدولار في التجارة الدولية والتحويلات المالية...
بعد انتخاب "إينياسيو لولا دا سيلفا"، أطلقت حكومة البرازيل حركة "إزالة الدَّوْلَرَة" في أمريكا الجنوبية وتأسيس مصرف التنمية الجديد، وهو المشروع الذي تمت مناقشته لعدة سنوات داخل مجموعة "بريكس"، ثم تأسّسَ وأصبحت مدينة شينغهاي الصينية مَقَرًّا له، ويُراد له أن يكون بديلا للبنك العالمي وصندوق النقد الدولي، وأن يهتم بتمويل المشاريع في الدول الخمس لمجموعة بريكس: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا.
إن حكومة البرازيل نشطة للغاية في البحث عن بدائل لصندوق النقد الدولي لأنها تحتاج إلى استثمارات بعد عقد من النمو الضعيف، ولكنها ترفض الشروط القاسية لصندوق النقد الدولي أو البنك العالمي، ولذلك اقترح رئيس البرازيل ( لولا دا سيلفا ) أن تكون مجموعة بريكس أداة لإضعاف هيمنة الدّولار ولإلغاء هذا الدّور المهيمن لاحقًا، من خلال إنشاء عملة موحدة تعتمد على سلة من عملات الدول الخمس، من أجل تقليل اعتمادها تدريجيًا على الغرب، وعلى المنظومة المالية التي تُسيطر عليها الولايات المتحدة من خلال الدولار.
تُشكل البرازيل والأرجنتين أهم قوتين اقتصاديتين في أمريكا الجنوبية، وسارع الرئيس لولا دا سيلفا، إثر انتخابه إلى زيارة الأرجنتين واتفقت الحكومتان على مشروع التعامل الثنائي بعملة مشتركة تتحدى هيمنة الدولار والتي قد ستسمح لأمريكا الجنوبية بأن تصبح قوة إقليمية وعالمية مهمة، قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي، عبر التبادل الإقليمي، ما قد يؤدي إلى اهتراء وإضعاف قوة الولايات المتحدة وإلى تحسين الظروف المعيشية للسكان المحليين بجنوب القارة الأمريكية...