بانتظار-وطنية- مابعد النهرين؟؟/1


عبدالامير الركابي
2023 / 3 / 4 - 13:52     

مر العراق مع نهايات القرن التاسع عشر وعشرينات وثلاثينات القرن المنصرم، بما يمكن اعتباره تحولا انقلابيا، بالمقارنه بما كان عاشه منذ 1258 يوم انتهاء الدورة التاريخية الثانية وحلول حقبة الانقطاع الثانيه، بعد الانقطاعية الاولى التي اعقبت سقوط بابل 639 ق ـ م، الى الفتح الجزيري 636 م، وكانت الفترة الانقطاعية الحالية قد عرفت حدثا خطيرا وقع مع القرن السادس عشر هو الانبعاث الثالث، تكرارا في ارض سومر الحديثة، بظهور "اتحاد قبائل المنتفك" كحقبة تشكلية"قبلية"، تبعتها القيادة او الفترة الثانيه الانتظارية النجفية مع القرن الثامن عشر، ضمن سياق التشكلية الحالية الازدواجية الامبراطورية التقليدية، لكيانيه ارض مابين النهرين، ووفقا لايقاعية وقانون الدورات والانقطاعات الذي يحكم مسارها.
هذا يعني تاريخيا ان فترة الانقطاع التي حلت على ارض الرافدين عند منتصف القرن الثالث عشر، انتهت عمليا بعد ثلاثة قرون لتنشأ حالة ازدواج لعراق اسفل متشكل حديثا كدورة ثالثة، وعراق اعلى منهار محكوم الى البرانيه، تتعاقب عليه السلالات واشباه الامبراطوريات الشرقية عن طريق احتلال عاصمة الدورة الثانيه المنهاره، والمستخدمة كرمزية احتلالية تكرر اليوم، وفي ظل الانقطاع، خاصية اساسية تكوينيه لها صله بالازدواج التاريخيه بين مجتمعيتين متصارعيتين، متحدتين كيانيا كونيا، بلا وحدة، الاسفل من بينها مستقل بلا اعلان كينونة وطبيعة، لانه كيانيه لادولة، اي ان العراق كان حتى القرن العشرين والاحتلال الانكليزي، حالة تشكل حديث بلانطقية، بمعنى التشكل الواقعي البنيوي من دون كيانيه، وبدون نطقية ظلت مؤجله تاريخيا اصلا منذ بدايات تبلور المجتمعية في هذا الجزء من المعمورة .
ويتجسد الازدواج الذي هو خاصية بنيوية لنمطية كيانية ارض الرافدين الكونية المتعدية للكيانية "الوطنيه" بوضوح صارخ، كتشكل حديث في ارض السواد، بمقابل البرانيه المتعاقبة وصولا الى العثمانيه الاكثر استقرارا، والا طول حضورا زمنيا بطوريها، المملوكي 1749/1831، والمباشرمن 1831 حتى الاحتلال البريطاني، وهما حيزان ومجالان متباينان كليا، الاعلى منهما عائد لمتبقيات انهيارية الطور الثاني، والاسفل، حيث الانبعاثية الحديثة غير الناطقة، والممتنعة عن الكيانيه، مايعطي الاطار الاعلى فرصة وامكانيه التمثيل الرمزي ل " العراق" بدون احتلال فعلي، مادام العراق كما سبق وذكرنا، صار منذ القرن السادس عشر تحت فعل دينامية اصطراعية، طرفاها التشكل الاسفل ومقابله الاحتلال البراني ومركزه عاصمة الدورة الثانيه المنهارة.
ويعني التطور المذكور انقلابا في المسار الانقطاعي مقارنه بالفترة السابقه على ظهور "اتحاد قبائل المنتفك"، مع ان الاصطراعية المستجده ظلت بدون تغير نوعي في الوسائل لدى الطرفين، لاعلى مستوى الرؤية والتعبيرية الذاتيه او الكيانيه لامن اسفل ولا من اعلى، فالتعبير عن الذاتيه كان مايزال رهن المستقبل، مؤجلا كما كان على مدى تاريخ هذا المكان، علما بانه اليوم يواجه نوع متغيرات عالمية استثنائية، من شانها ان تلقي على المهمه الذاتيه اثقالا جدية اخرى، اثقل وطاةعلى تلك غير المماط عنها اللثام اصلا، وهو ماقد اتضح صارخا مع القرن العشرين ونزول الحملة البريطانيه في الفاو اقصى جنوب العراق عام 1914، وما ولدته من ردة فعل استثنائية تمثلت في الثورة اللاارضوية الاولى الحديثة عام 1920 حيث افتتحت من حينه حالة اصطراع افنائي، مارسة الانكليز باسم الغرب ونهضته، وقوة انموذجه وتفكره مما لم يكن واردا قبل هذا التاريخ، فالبرانيه التقليدية الشرقية المتعاقبة على احتلال بغداد، كانت ادنى قدرة وبنية من ان تصطنع لوجودها مشروعا من اي نوع كان، يتعدى نطاق الاحتلال العسكري، بينما ذهب الانكليز من بين اهم الوسائل التي راوا اعتمادها ويتوفرون عليها، بعكس من قد سبقوهم، تزوير تاريخ وحقيقة العراق الحديث، فضلا عن كينونته وطبيعته البنيوية والتاريخيه، بالاخص بجانبها الكوني.
بالمقابل لم تتسن للعراق وقتها الاسباب لكي تنشا على سبيل المثال حركة مقابلة، قاعدة عملها كما مفترض"اظهار الذاتيه التاريخيه المطموسة"، وهو مطلب مستحيل اذا نظرنا في تداعيات الفترة الانقطاعية وتراكماتها، وما متبق منها على المستويين الاسفل حيث كانت احتمالية من هذا القبيل ابعد ماتكون عن التخيل، او المستوى الاعلى البراني البغدادي، المعدوم الديناميات الذاتيه اصلا، مامنح الغرب وحضورة امكانيه حاسمه تعززت بتبلور نخبة مستعدة للالتحاق بمشروعها، فتعزز بقوة، قبول الاثر الشامل لنموذج وافكار الغرب عالميا في وقته، ناهيك عما كان قد وجد مما عرف بافكار "عصر النهضة العربية" الزائفة الالتحاقية، ومركزها المصري الشامي، وانعكاساته على العراق وعاصمته الانهيارية، واتخذ وقتها من بين المبررات، المقارنه مابين احتلال واحتلال، احدهما العثماني "المتخلف"، ومقابله النموذج الصاعد الكاسح "المتقدم"، والحري بالاتباع والتقليد الببغاوي الاسقاطي، فلم تظهر على الاطلاق وقتها اية دالة اشارة، الى ميل الى تقليد مختلف للغرب، غير اتباعي، يتوخي كما حال الغرب نفسه تسقط الذاتيه والانكباب عليها، وهو ماشمل ايضا القوى والتيارات التي تعتبر نفسها معبره عن خاصيات المنطقة بكل فضائها الديني، وتاريخه المديد، فلم نسمع على هذا المنقلب غير التكرار والاعادة الاجترارية الفارغه.
حين يقرر الضابط الملحق بالحملة البريطانيه ويرلند، سحق التشكل العراق الحديث الثالث الراهن،(1) ومعه كل خاصيات العراق الامبراطورية الكونية، جازما بان العراق هو وليد حركة التشكل التي بدايتها الاحتلال التركي الثالث عام 1831، من دون حتى ذكر للاسباب التي حدت بالعثمانيين وقتها لاعادة احتلال العراق، الامر المتعلق بالدرجة الاولى بحركة "تشكله" الحديث، يبادر الايديلوجيون، من ماركسيين، وليبراليين، وقومين الى تصديق المقولة الافنائية لدرجة اعتمادها اساسا ومنهاجا لوجودهم، ولاجمالي عملهم الذي عنوانه النضال ضد الاستعمار، انما ليس ضد الغرب ونموذجه، على العكس من ذلك فان نضال المحدثين الايديلوجيين الحزبيين اجمالا، هو نضال من اجل الحاق العراق بالغرب، والسعي الحثيث ،لادخاله ضمن حضيرته.
نقطة هامة وبمنتهى الخطورة تظهر مدى دونية الظاهرة الحداثية العراقية كونها ابنة موضع من المعمورة ينطوي على حقائق اساسية مضمرة غير مكشوف عنها النقاب، هي موضوعات ليست محلية او عراقية بحته، بقدر كونها قضايا كونية، تمس واقع الظاهرة المجتمعية وسيرورتها ومصيرها على مستوى المعمورة، الغرب لم يستطع مقاربتها، وانتكس دونها عاجزا لاسباب بنيوية، بما هو نمط وصنف مجتمعية ارضوية احادية، محدودة وعيا ومقاربة لمجمل القضايا المتعلقة بادراك الحقيقة المجتمعية، وان كان اليوم في قمة صعوده ومنتهى وذرة تعالي وتائر دينامياتها بفعل الاله، بما في ذلك ماقد عرف من علوم، منها علم الاجتماع اخرها الذي لم يفلح الغرب سوى في طرق بابه، وفتح نافذه صغيره تطل على عالمه.
ويشمل التهافت العراقي لهذه الناحية، مايتعدى النخب السياسية الى البحثية والاكاديميه، بالاخص منها التي اختارت الاهتمام بالتاريخ القديم البدئي التاسيسي، ملتحقه باجمالي عملية البحث والاهتمام الغربي بالظاهرة البدئية لارض مابين النهرين، وهي حركة مثيرة للانتباه من حيث ضخامتها وتركزها، دلالة على الخصوصية الاستثنائية للظاهرة الرافدينيه، مالم يكن للعراقيين اي فضل فيه، فليس ابناء هذه الارض هم من اسسوا للبحث في تاريخهم، وحين جاءوا متاخرين كي يضعوا لهم اشارة الى جانب من بحثوا وكتبوا ونقبوا، لم يخرجوا اطلاقا عن الاطار الذي راه الغرب واقترحه، او حكم بموجبه على منطويات هذا المكان وخلاصة تجربته الكونية الانسانويه، مع فشلها الفاضح، وتكرارها مرة اخرى قصورية لايمكن تجاوزها، منشؤها نوع البنية المجتمعية الغربية الادنى كينونه من تلك التي جاءت تبحث بين تضاعيفها.
وتتوزع الاهتمامات على هذا الصعيد الى التاريخ الخاص بالدورة الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، فلا نتعرف على اية نية، او ميل لقراءة تاريخ العراق ك "وحدة" محكومة لقانون الدورات والانقطاعات، لنقف امام محطات منفصلة عن بعضها، اولى تاسيسيىة سومرية بابلية واخرى عباسية، سرعان ماتصير "اسلامية"، فينزع عنها طابعها العراقي، لننتهي بالاجمال الى فوضى، سببها الاساس، العجز عن ادراك "الخاصيات" والذاتيه التي تصير اليوم محرمه لصالح الهيمنه الوحدانيه الغربية، باعتبارها خلاصة التاريخ، وقمته التي لاطريق امام المجتمعات سوى طلبها والسعي للتماهي معها.
كل هذا كان حريا ان يضع العراق في غمرة حالة انتقالية مركبة، تنتفي ابانها امكانية ظهور مايمكن نسبته الى "الحركة الوطنيه" كمفوم عام، بغض النظر عن تعدد اشكال او احتمالات تجسده بحسب الاشتراطات البنيوية الخاصه بكل مجتعية، بما فيها ( الوطن/ كونية) المطابقة للخاصيات العراقية، ونمط كيانيتها المتعدية للكيانيه المحلوية.
فماذا كانت، وماذا يمكن تسمية تلك الحركة التي عرفها العراق في الفترة مابعد العشرينات، وظلت مستمرة وان كمتبقيات وخرق بالية، الى الوقت الحالي؟ الامر الذي يضعنا، كدليل على الخصوصية الاستثنائية للحالة مدار البحث، امام ظاهرة يمكن ان نطلق عليها" الوطنية الزائفة الفعالة من خارج ذاتها"، حيث امكانات المصادرة البرانيه الايديلوجية، عرضة لمصادرة مضادة بنوية، يمارسها واقع في حال اصطراع بلا نطقية، مع الطاريء الغربي الاحتلالي تؤدي الى قلب فعالية ودور الاسقاطية الايديلوجية واحزابها، بغض النظر عن ماتتوهمه من منطلقات ومباديء واستهدافات.
ـ يتبع ـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذا مايفتتح به (د .محمد سلمان الحسن) الاقتصادي اليساري كتابه الضخم 730 ص/ التطور الاقتصادي في العراق : التجارة الخارجية والتطور الاقتصادي 1864 ـ1958/ ج1ص 27/ منشورات المكتبه العصريه للطباعه والنشر/ صيدا ـ بيروت/ نافيا اصلا وجود العراق بتبنيه نصا يلغيه من الوجود لصالح مفهوم متخيل عنه، فينقل مقولة وايرلند " العراق الحديث حصيلة العملية التدريحيه للتوحيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للولايات التركية الثلاث: بغداد، والبصرة، والموصل، توحيدا نجم عنه وطن واحد وسوق وطنيه واحده، وقد بدات هذه العملية منذ الاحتلال التركي الثالث لبغداد في عام 1831، واشتد زخمها منذ ستينات القرن الماضي، حتى افضت الى تشكيل الحكومة المؤقته، تحت الاحتلال البريطاني، في عام 1920".
(2) مرة اخرى نجد انفسنا ميالين لابقاف سلسلة مقالات على ان نعود فنستكملها لاحقا.