الايديولوجية الألمانية-تحقيقات وتعليقات


نايف سلوم
2023 / 3 / 3 - 22:47     

الدرس الأول:
تحقيق. يقول ماركس: الإيمان الديني؛ (الطريقة اللاهوتية الحقيقية) نقد متكافئ مع ذاته. إخفاء الإيمان كغرض أناني.."إنه صامد في مكانه يقاتل عن داره وأرضه". الإيمان الديني تعني حماية الفرد نفسه ضد نكران الجمهور (انسحاب الوعي من الحياة)؛"
انكفاء الوعي حتى حدود الفردية الخاصة. لم يعد الفرد في علاقة فاعلة مع محيطه الاجتماعي، بل علاقته باتت علاقة وجدانية مع نفسه (مع السماء)
. تحقيق. يقول ماركس: برونو باور يسهو عن مقالة فيورباخ: "ضد الفلاسفة الإيجابيين" في حوليات هال(*).
تعليق: مؤلفات فيورباخ: "تاريخ الفلسفة الحديثة" عرض وتحليل ونقد فلسفة ليبنتز، بيربايلي؛ إسهام في تاريخ الفلسفة والبشرية، "جوهر المسيحية" ومقالته: "إسهام في نقد الفلسفة الإيجابية" نشر دون توقيع في حوليات هال 1838. في هوامش الكتاب "تشير عبارة "الفلسفة الإيجابية" هنا إلى الاتجاه الديني والصوفي في الفلسفة الذي يمثله ك.هـ. ويس، والشاب ج.غ. فيخته، أ. غونتر، و ف. بادر، وف. و. شيلينغ خلال السنوات الأخيرة من حياته، وكان هذا الاتجاه ينتقد فلسفة هيغل من جهة اليمين. وكان "الفلاسفة الإيجابيون" يسعون إلى إخضاع الفلسفة للدين، وينكرون إمكانية المعرفة العقلانية، وينظرون إلى الوحي الإلهي على أنه مصدر المعرفة "الإيجابية" وكانوا يسمون جميع الأنظمة (الأنساق) القائمة على المعرفة العقلانية أنظمة (أنساق) سلبية"
لكن، من أين تأتي "السلبية" في المعرفة العقلانية وفق الاتجاه الفلسفي الديني والصوفي؟
يبدو أن الامر متعلق بدرجة الإيمان الوجداني بالأفكار العقلية، وبالممارسة التاريخية و"السياسية". فليس امام الفلسفة العقلية طريقاً نحو الممارسة العملية (العمل) سوى الدين والسياسة التاريخية (الحزب الثوري). الدين (خاصة الاسلام) يتحدث عن العلم والعمل، والماركسية تتحدث عن النظرية والممارسة. إن فلسفة هيغل حسب تعبير ماركس نفسه، طورت الممارسة على نحو مثالي (سلبي) لا على نحو إيجابي عملي فاعل تاريخياً، أي أنها لم تبن أحزاب وفق فكرتها النظرية، بل ظهرت تيارات هيغلية من كل الاشكال على اليمين واليسار.
من هنا يكون القصد من تعبير "فلسفة إيجابية" إلى أن الدين هو الممارسة التاريخية الوحيدة في ذلك الزمن مجسداً بالوحي الالهي، وبالتالي على الدين أن يهيمن ويقود الفلسفات العقلية بما فيها فلسفة هيغل. وهذا علامة على تأخر البورجوازية الألمانية، ومعها التأخر في الظهور السياسي للبروليتاريا الألمانية على المسرح الأوروبي، مقارنة ببريطانيا وفرنسا.
ولكن ما أن ظهرت البروليتاريا الألمانية كحزب سياسي (الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني SPD 1875) ) وأممية ثانية (الأممية الثانية: (1889 -1916) حتى اختفى مفهوم "الفلسفة الايجابية"، واختفى اختزال الممارسة التاريخية "السياسية" بالوحي الديني.
أما في القرن العشرين، ومع ظهور "فلسفة العلم"، فقد أخذت الفلسفة الإيجابية أو الوضعية معنى آخر مختلف تماماً. ذلك أن الفلسفة الوضعية Positivism: هي إحدى فلسفات العلوم التي تستند إلى رأي يقول إنه في مجال العلوم الاجتماعية، كما في العلوم الطبيعية، فإن المعرفة الحقيقية هي المعرفة والبيانات المستمدة من التجربة الحسية، والمعالجات المنطقية والرياضية لمثل هذه البيانات والتي تعتمد على الظواهر الطبيعية الحسية وخصائصها والعلاقات بينها والتي يمكن التحقق منها من خلال الأبحاث والأدلة التجريبية.
جاءت الوضعية رداً على الفكر الدوغمائي الاعتقادي اللاهوتي والغيبي (الميتافيزيقي)، والذي يغيب عنه الفكر الديالكتيكي. ذلك أن الاعتقادات الجامدة الميتافيزيقية تفصل بين المقولات بشكل كامل وقطعي ونهائي، وتنكر فكرة تحول الاضداد الواحد إلى الاخر حسب تغير الشروط.
فلسفة العلم، كمقولات قطعية وإيجابية مبرهنة، تتحول هي الأخرى إلى ضرب من الميتافيزيقا، بتحديدها للمقولة العلمية على انها نهائية ومطلقة، وخالصة من كل أثر للأيديولوجيا أي تنظر إلى تناسقها على أنه نهائيّ، وتراها مفصولة بشكل مطلق عن كل اعتقاد وكل صراع اجتماعي سواء كان دينياً أم سياسياً. وهي الفلسفة التي نشأت أصلاً كنقيض لعلوم اللاهوت والميتافيزيقا الذين يعتمدان المعرفة الاعتقادية غير المبرهنة.
وضع الفيلسوف والعالم الاجتماعي الفرنسي الشهير أوغست كونت هذا المصطلح في القرن التاسع عشر وهو يعتقد بأن العالم سيصل إلی مرحلة من الفكر والثقافة، سوف تنتفي فيها كل القضايا الدينية والفلسفية، وسوف تبقى القضايا العلمية التي أثبتت بالحس والخبرة الحسية أو بالقطعية والوضعية (positive) . وفي ذلك العصر (القادم) سوف يُمحى الدين والفلسفة من ساحة المجتمعات البشرية.
لكن خبرة البشرية بعد ويلات الحرب العالمية الثانية وظهور السلاح النووي كتهديد بالفناء للجنس البشري، وتعاظم عسكرة الاقتصادات الرأسمالية الامبريالية المتطورة، وتنامي عدوانية الامبريالية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، خسف مقولة فلسفة العلم، وفكرة ان يشكل العلم بديلاً عن الدين والسياسة. وقد أدى انحطاط السياسة البروليتارية بتأثير البيروقراطية السوفياتية، وأفول السياسة البورجوازية الليبرالية إلى عودة الدين للعمل في الحقل السياسي عبر الحزب الديني، خاصة أحزاب الإسلام السياسي في الشرق الأوسط. وقد ترافقت هذه العودة للجماعة الإسلامية كحزب سياسي باشتداد العنف أحياناً وظهور الارهاب أحياناً أخرى، حيث ظهرت الجماعة السياسية الدينية الإرهابية كدين غاضب يسعى لتكفير المخالفين وتصفيتهم جسدياً في ملمح فاشي بامتياز. هذه الفاشية الدينية مرتبطة جوهرياً بانحطاط الرأسمالية الامبريالية وبأزمة تقدم الحركة الاشتراكية الأممية، وبانسداد آفاق التنمية فيما يسمى بالبلدان "المتخلفة" أو بلدان "العالم الثالث".
* هامش: الحول: السنة ، والاستحالة: الحَوْلة /الإزالة: الكلمة أمر مجتمع متناقض المصالح تظهر على لسان الفرد كأنها خاصته الفردية!
(إضافة)
الوحي يعني الخطاب المباشر؛ قد يكون في البدء مسارة بين الخواص، ويكون التنظيم الاخوي سري، وما أن يتقرر إعلان الدعوة التاريخية الجديدة، حتى يتحول الوحي إلى قول مبين، وخطاب إلى قوم النبي الاقربين، ومن ثم إلى العالمين. فإذا أوحى النبي إلى قومه تعني أنه خاطبهم مباشرة إما بالقول والاقوال (Logia) أو كلمهم إشارة ورمزاً كما فعل زكريا مع قومه (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۖ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ۗ وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) [آل عمران: 41].
والوحي يعني هبوط النظرية من سماء الأفكار إلى أرض الممارسة العملية، أي تكملة العلم بالعمل، لأن كمال العلم نقص، فمن دون ممارسة عملية وعمل (العمل من جنس العلم) يتحول العقل العالم إلى شيطان اخرس ينكفئ عن مواجهة الباطل والظلم والجور، ويكون في وضع المتواطئ مع العالم الظالم.
بالطبع يتضمن الوحي المدوّن في النص القرآني كل ما يتطلبه العمل من رد على الخصوم وبيان في العقائد الأساسية، وكلام في التشريعات والمواريث والتحريمات وآداب السلوك الاخوي وفي العبادات وكيفية الحفاظ على الاعتقاد وتعزيزه يومياً. (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا) [الاسراء: 12]
ويلاحظ القارئ أنه يستخدم في نزول الوحي كلمة الهبوط (هبط عليه الوحي) وهي تنويه إلى كمال العلم وبدء الهبوط إلى العالم للتبشير بحل مشكلاته الأساسية، ولتحقيق الحق والعدل ورفع الظلم عن العباد وتيسيير أمور معاشهم وأرزاقهم وكراماتهم.
تفرض مناقشة الوحي الاسلامي، افتراض وجود جماعات سرية مرتبطة بالإعداد للدعوة الجديدة، موجود قبل وقت طويل من إعلان النبي الدعوة الجديدة. وما أن تقرأ الريح ويصبح الوقت مناسباً للإعلان ويقوم النبي بالدعوة الظاهرة، حتى تغيب الجماعات السرية في غياهب النسيان ويتم تجاهل الحديث عنها وكأنها (نون) لم تكن فتبقى في كُنّها الذي كانت فيه.