-بابداد- ونهاية الموت الجسدي؟


عبدالامير الركابي
2023 / 3 / 2 - 14:19     

مسالتان سوف تواجهان الكائن المتحرر من وطاة الجسدية والموت الملازم لها، اولها نوع السكن المفترض التفكير به خارج الجسدية، والثاني احتمالية مابعد الجسدية، واذا كانت ستفتح الباب على لقاء مع العقول التي اضطرت لمغادرة اجسادها الميته، قبل ان تصل درجة من التصير تسمح لها بان تستقل بذاتها، ونحن لانعرف بالطبع مااذا كان العقل الذي يموت جسده، يتاح له الاستمرار بالتصير مستقلا خارج التفاعلية الازدواجية( مفترضين توفرة على مقومات الاستمرار المستقل بلا لاجسدية)، وان بوتائر اضعف، او مع التوقف عند النقطة التي انفصل عندها عن الجسد، بالمقابل فاننا لسنا الان في وضع يتيح لنا التعرف على نوع ومستوى القدرات التي يكتسبها العقل، ابان تحرره، ولو كان في البدايات الاولى من مرحلة وجوده الجديده، مايحول بيننا وبين ان نقدر اذا كانت طاقاته وقتها ستكون ملائمه حتى يقوم بجهد ما، بخصوص العقول المتوقفه ماقبل الاستقلال النهائي عن الجسد، هذا في حال قبلنا بالاساس بفكرة استمرار العقل حيا، وان متجمدا، بعد موت الجسد، وهو مجرد افتراض لادليل عليه حتى الان، كما لادليل قاطع ينفيه.
ولنفترض بهذه المناسبة في حال لم تختف العقول كليا بعد موت اجسادها، ان لايكون الامر هينا او قابلا للمعالجة الناجحه فورا، او بالنسبه لجميع العقول المقصودة، وهذه ناحية قد توحي بها امثولة القيامه والحساب، وموضوع النار والجنه الوارد في المنظور اللاارضوي الاول الابتدائي النيوي، وهي مجرد لمحة والتماعة، لابد من تذكرها من دون اعتبارها حقيقة واقعه، مع اننا بالاحرى لسنا في وضع يمكن معه الجزم بخصوص مامعرف على انه "الحياة"، ماقد يترك مداخل للعقل غير ارضوية ابان الفترة السابقه على الموت، وفي هذا يفترض بنا ان لانجزم ايضا بخصوص الحياة، محددين معالمها فيما هو مرئي بصورة قاطعه، ذلك لاننا لانملك سوى قدرة محدودة للغاية على الرؤية، لايجوز معها اعتبار مايمكننا رؤيته او تلمسه حاليا بمثابة معطى نهائي، وكمثال فنحن لم نكن نعرف لقرون مديده، ان كوكبنا الارضي كروي طائر، وان الارض هي التي تدور حول الشمس، مايجعلنا نكون واثقين من ان اشياء كثيرة هامه، ومن النوع الانقلابي، ماتزال خافية عنا.
وثمة مسالة تستحق التوقف مليا، تخص احتمالية انتفاءالازدواج الوجودي، المقصى من الاهتمام كليا، بمعنى فرضية الوجود العقلي بلا جسدية، اذا كان له من وجود محتمل فيما قد ورد له ذكر هو الاخر في الرؤية اللاارضوية الابتدائية، باسم "البرزخ" الانتظاري، او مايرد من بقاء موجي في الفضاء للصوت البشري مع امكانية استعادته، وهي مسالة اشكالية تضعنا امام مايبدو متناقضا داخل الفرضية التي نعتمدها، ذلك لاننا نقول من ناحية بان الازدواج والفعالية التصادمية الاصطراعية هي المحرك الديناميكي التحولي الضامن للحياة اصلا، لكننا في الوقت نفسه نقول بالانفصال، ويامكانية تحرر العقل عن الجسد، اي حرمانه من مصدر ديناميته التصيريّة، بمعنى اننا نقترح والحالة هذه توقفه، وربما موته.
هذه من ناحية بداهية تبسيطيه، تتابعية عادية، تسقط من الاعتبار ماهو محوري واساس في العملية الجاري الحديث عنها برمتها، اي "التحوليه"، تلك التي نقلت الحياة من الجمادية ببعدها الارضي، الى العضوية العقل/ جسدية، وازدواجيتها الذاهبه الى الصنف الحياتي الاعلى الثالث، التحولي الانتقالي الى الكون الاخر اللامرئي، والمقرون من جهته بالياته ودينامياته التصيرية والحياتيه، الامر الموافق اصلا للمسار الحياتي الراهن، وطريقه المديد الطويل من التحولات والمتغيرات الايله الى مابعد ازدواجيه حالية، مامن شانه جعلنا نفكر بما قد يطرا على الكينونة الحالية كحصيلة لتراكمات صيرورتها التاريخيه الترقوية، واحتمال ان يتولد لدى الطرف المستقبلي الذاهب الى العوالم اللاارضوية، مايؤهله، او ماهو محتاج له لكي يواصل مسار التصير والدينامية، برغم الاستقلال، مايعني انبثاق، او تولد عنصر جديد هو الان خارج قدرتنا على التلمس، فضلا عن الرؤية، يكون من جنس العقل، وعاملا على اذكاء العملية التفاعلية داخله، حين يكون في حال الاستقلال عن المادية الجمادية الجسدية.
كيف واين وضمن اية شروط يمكن ان تتصيّر عملية الانتقال الى المستوى الخلقي الحيوي الثالث، وفي اي موضع يمكن ان تتوفرحالة كهذه لها مفعول انقلابي من مستوى يقارب ذلك الذي حدث ابان مابعد ابتراد الكرة الارضية، لينتج بعد مخاض عسير، الصيغة الحيوية الحالية بتفاعليتها الكبرى، ومسارها الطويل، وتحوليتها؟ لايجب اليوم ان نتصور تكرارا لما سلف التنوية به، فالانقلابية التفاعلية داخل العقل، قد تحدث ضمن اشتراطات اقل تعقيدا وخصوصية نوعيه في ما مهيأة لان تفرزه، مولدة من داخلها وبقوة واحتدامية اصطراعيتها الذاتيه، مامحتاجة لاكتسابه راهنا، الامر الذي من شان الطبيعة نفسها تهيئة اسبابه، مواصلة بذلك دورها الرعائي الطويل، والذي لايكاد يتوقف، بما في ذلك انتقالها الى الاشتراطات الطاردة، وانتهاء زمن الامان الكوكبي لصالح الكوارثية.
اراد فطاحل العقل الاوربي الحديث، ماركس، ان يضع قاعدة للتاريخ، لم تكن لتخرج عن محدودية معطياته التي يتوفر عليها مجتمعيا، فقرر في وقته "ان تاريخ المجتمعات ماهو الا تاريخ صراع طبقات"، وهي مقوله ايهامية محلوية اوربية ارضوية، تقابلها الحقيقة المجتمعية الكونية التي تقول : " ليس تاريخ المجتمعات سوى تاريخ الانتقال من اليدوية الى العقلية"، ذلك علما بان المجتمعية تبدا اصلا لاارضوية، عقلية غير قابله للتحقق في حينها، مايتولد عنه نمط تاريخ وحياة هي بالاحرى نوع اشتراطية طردية بيئية، يتشكل المجتمع معها في غمرة "العيش على حافة الفناء"، وهو النموذج الابتدائي السومري الذي ازور عنه العقل البشري لقصوريته وتدني المتاح له من طاقة على الاحاطة، ليسود ويظل غالبا، المنطوق والرؤية الارضوية الاحادية الجسدووية الحاجاتيه، الماخوذه بمنطق "الحضاروية" والبنائية التابيديه.
توجد المجتمعية والانتاجية ابتداء، محكومة الى التدميرية المضادة للبنائية، والمستحيله على علوها والذرى البنائية التي هي ملزمة بتحقيقها، ففي ارض سومر وبابل يصل البناء الانتاجي المجتمعي ذروة من التنظيم والتعقيد الاقصى للنواظم والسواقي وشبكة الارواء الفائقة الاتقان، بمواجة وتحت طائلة درجة الاحتراب مع البيئة المدمرة، وعمل النهرين العاتيين الاكثر تدميرا على مستوى المعمورة وهما يفيضان عكس الدورة الزراعية، مع كل معاكسات المناخ اللاهب والعواصف، والارض الغرينية التي تتحول الى مزالق مع اول نزول للمطر، عدا عدوانية الحدود شرقا وغربا وشمالا، وانصباب سلالاتها من الجبال الجرداء والصحاري الى ارض الخصب، مايضع الكائن الحي على وقع جنونين، احدهما حدودي، والاخر يقظوي على حواف الانهار بلا غفلة، وكل هذا يجعل من الحال هنا متجه الى مابعد القمة، والى ابعد ماممكن علوا، ذهابا الى ماوراء المتاح ارضويا، بما يجعل احتمالية البناء محكومة، اما بالقفز الى مابعد ارضوية، او النكوص الانهياري والدمار الشامل، حين يبدا الاختلال، ويحل الانقطاع والتيه الاحترابي، وقت يتحول الانتاج الى احتراب في قلب الفوضى، مع الذات والطبيعة، فلا احد يزرع ارضا وهو متاكد انه هو من سيحصدها، سواء بسبب فوضى الفيضانات، او الفيوض البشرية المنافسه على حافة الفناء.
هكذا يختلف منقلبا، المقصود والهدف مابين بناء "حضاروي" ارضي، واخر المنجز الارضوي فيه من قبيل الاستحالة المطلقة ايقاعه دمار بعد الذروة، ثم انبعاث وصعود الى الذروة مقصوده تجاوز الحاجز الحائل، املا بعبور اشتراطات الارضوية، مايقلب كليا معنى ومقصد العملية الحياتية المجتمعية، ذاهبا بها الى مابعد جسدية ومابعد مدينه سكنية ترافقها كينونة مابعد بشرية جسدية من جنسها، ومن بابل وماقبلها، الى "بغداد"، تتدرج مواضع السكن الموقت ماقبل العقلي، بانتظار الانتقال الى "بابداد" المدينه العقلية، وفي حين يجري البحث عن اساس المدينه، وبدئها في "ارك" ـ كلمة " ارك" القوس موجوده كما هي في غالبية لغات العالم تقريبا ـ وسواها، لايرى العقل القاصر حقيقة "مقبرة المدن" وليس المدن، فلم يظهر على الاطلاق من بين "البحوث " و "الدراسات" الاركولوجية العبقرية، من يضع عنوانا بدل "نشاة المدينه" الاولى" مقبرة المدن ..بناؤها واختفاؤها" للتحري في الخلفية، وفي النمطية النوعية للبناء المسمى حضاريا، ومرة اخرى بين مدينه الحجرالارضوية، والمدينه العقلية مابعد الارضوية.
تزدحم ارض سومر اليوم ب " اليشن" تلالا وسط الاهوار وخارجها، وصولا الى ابابل المندثرة، بينما تعيش الى الاعلى بقية الدورة الثانيه "المدينه التي لاتحيا ولاتموت"، تظل منذ سقوطها كقمه امة امبراطورية عام 1258 موجودة بلا لاحياة، ترفض الموت، تتوالى علهيا محن لايمكن وصفها، ويصعب تعدادها، هي الطور الثاني من " تطور المدينه اللاارضوية" من المدينه المندثرة، الى التي لاتحيا ولاتموت، كعتبة متقدمه بانتظار الانتقال الاكبر الى "بابداد"، المدينه العقل العظمى الهدف الاول من بناء المدينه الاصل ضمن اشتراطات مابعد الارضوية.
ـ يتبع ـ
بغداد التي لاتحيا ولاتموت ونهاية الموت