انعزالية القومية الأصغر وشوفينية القومية الأكبر متكاملتان


صلاح بدرالدين
2023 / 2 / 26 - 14:13     

( 1 )
تؤكد التجربة التاريخية الطويلة للحركة الكردية السورية ، استحالة حل القضية الكردية بشكل عادل ونهائي ومستدام ، الا في ظل النظام السياسي الديموقراطي ، وهذه الحقيقة باتت من المسلمات ،لأن الأنظمة والحكومات المستبدة ، ومنظوماتها الأمنية ، لم تعمل يوما ، بل عجزت عن تقديم أي حل ، فقط وظيفتها الأساسية هي إدارة الازمات ، واختلاق المشاكل ، واثارة الفتن بين مكونات ، وفئات الشعب السوري خصوصا ضرب العرب بالكرد ، ووضع المخططات التي تفرق ولاتوحد مثل التجاهل ، والاقصاء ، والاحصاء ، والحزام ، واشعال النعرات العنصرية ، ولدينا أمثلة ، وقرائن لاتعد ولاتحصى في هذا المجال ، منذ عهد الانتداب ، مرورا بحكومات الاستقلال ، وانتهاء ، بحكومات الوحدة السورية المصرية ، والانفصال ، وحزب البعث ، وآل الأسد ، منذ بداية الستينات وحتى الآن .
( 2 )
الشرط الثاني الذي يجب توفره بحسب دروس تلك التجربة هو تحقيق التفاهم والتوافق مع شركاء الوطن ، وحركتهم الديموقراطية ( مهما كانت ضعيفة ) التي تمثل موضوعيا إرادة الغالبية من الشعب السوري ، وذلك على جملة من المبادئ المتعلقة بالمصير الوطني ، والدستور ، والنظام السياسي المنشود الذي يحقق طموحات الجميع ، والحوار هنا يستند الى عملية الأخذ والعطاء ، خاصة اذا علمنا الطبيعة التعددية للمجتمع السوري قوميا ، وثقافيا ، و،دينيا ، ومذهبيا ، وضرورة مراعاة ، واحترام خصوصياتها ، وصولا الى توافقات حول القضية الكردية وسبل واشكال حلها ، أي ان أمام المحاور الكردي الشرعي المخول مهام معقدة ، ووظيفة في غاية الصعوبة ، لايجوز استسهالها .
( 3 )
أما الشرط الثالث الذي لابد منه ، فهو ان يكون المحاور الكردي على شكل ( الهيئة ، أو اللجنة ) مستندا الى نوع من ( الإجماع الكردي ) ، المتجسد في حركة كردية سياسية سورية موحدة ، منبثقة عن مؤتمر جامع يضم كل التيارات ، والأطراف الوطنية الديموقراطية في اطار ( الاتحاد على قاعدة التنوع ) ، ويستعيد الشرعية القومية ، والوطنية ، وفقط بهذه الحالة يمكن تمثيل إرادة الكرد ، وابرام الاتفاقيات مع شركاء الوطن ، والمشاركة عن جدارة في تقرير مصير البلاد ، أما مايروج له الآن من مزاعم أن ( الانكسي ) بتحالفه مع الائتلاف كفيل بحل القضية الكردية فمجرد – مزحة – عابرة ، أو أن جماعات – ب ك ك – ستحقق ذلك عبر تقلباتها بين – قنديل – والمحور الإيراني الروسي ، وتعاملها المصلحي مع التحالف الدولي ، وتفاهماتها مع نظام الأسد فمحض تضليل .
هذه الشروط الثلاثة المستقاة من تجربة عمرها يقارب القرن من الزمن تقريبا ، في مسار طويل ، واستثنائي شديد الوعورة ، مثقل بالآلام ، والتضحيات الجماعية ، والفردية ، ترتبط مع بعضها بصورة تكاملية ، ولايمكن فصلها عن بعضها في أي مكان أو زمان ، في عهود الاستبداد ، وحتى في ظل الديموقراطية ، في ظروف الثورات ، والانتفاضات ، او في أوقات السلام ، تحت وطأة الكوارث الطبيعية – كما هي الحالة عليها الآن جراء الزلزال المدمر – و في أجواء الامن والاستقرار ، وبايجاز شديد لاتخضع هذه الشروط للحالات الطارئة ، ولاتذعن لمزاعم الإجراءات الاستثنائية ، والحالات الخاصة ، والمشاعر ، والأهواء ، والأمزجة الصادقة منها أو المزيفة.
نزعات انعزالية مغالية تهدد وحدة المصير الكردي السوري
يجتاز الكرد السورييون منذ العقود الثلاثة الأخيرة ، وبشكل خاص في العامين الأخيرين المرحلة الأخطر في تاريخهم ( أزمة وجود ) ، وتعاني مابقيت من حركتهم السياسية الأزمة الأعمق منذ ظهورها قبل عقود ، والتي كما نعلم اخترقتها أجهزة نظام الدكتاتور حافظ الأسد في ( عهد محمد منصورة ) بداية التسعينات بعد تجنيد حفنة من مسؤولي الاحزاب الكردية الضعاف النفوس ، والمسألة لاتتعلق ( بحزب الاتحاد االشعبي ) كتنظيم كان له دور ومكانة مرموقة ، بل ( بكسر عيون ) مناضلين واجهوا النظام بشجاعة ، وحملوا مشروع حق تقرير المصير الكردي ، وللمرة الأولى يحصل اصطفاف علني بمشهده المشين تحت خيمة العار بالقامشلي ، يجمع أجهزة النظام بصف واحد مع مواليه من التيارات السياسية الكردية في مواجهة أصحاب المشروع القومي – الوطني ، وتطبيق معادلة – تكريد الصراع – الذي شمل فيما بعد أيضا جماعات – ب ك ك – ومحاولة تصفية انجازات شعب كردستان العراق ، وماتلا ذلك من تراجعات ، وردات ، وانقسامات نعيش نتائجها المدمرة الآن ، على شكل ظواهر مرضية سلبية ، ونزعات انعزالية – ماقبل قومية – تهدد التطور الطبيعي للحياة السياسية ، والاجتماعية الكردية ، وتضع العوائق أمام توفير شروط تحقيق المشروع الكردي بشقيه القومي ، والوطني .
النزعة الانعزالية السياسية – المناطقية
التي ظهرت ، وتوسعت بعد تردي الحركة السياسية الكردية ، وانحراف مسؤولي غالبية الأحزاب عن الخط النضالي ، والتبعية للمال السياسي بمصادره الداخلية والخارجية ، والتراجع عن الدعوة القومية الديموقراطية الجامعة بين كل المناطق نحو التقوقع في أماكن جغرافية محددة ، وتكتل مجموعات متجانسة ومن منطقة واحدة على شكل شلل تستبعد مشاركة الآخرين .
وللأسف لم تشكل ردة الفعل المتجسدة الان في هذه النزعة الانعزالية المناطقية المبالغة لعدد من الافراد من لون واحد البديل الأفضل لا في النظرية ، ولافي التطبيق ، بل أساءت أكثر في مجال اثارة الحساسيات بين صفوف الكرد ، وبينهم وبين المكونات الأخرى ، وزيادة الانقسامات ( العامودية ) ، حتى بتنا نسمع عبارات نافرة مثل ( إقليم المنطقة الفلانية وتقسيم الجغرافيا الكردية الى عدة أقاليم ) في حين لم ينجح الكرد السورييون جميعا في جلب الاعتراف الوطني لإقليم كردي واحد منذ عقود وحتى الان .
وفي ظروف الزلزال المدمر الأخير ساهم أصحاب هذه النزعة في الإساءة الى – مسلمات – النضال الكردي ، واثارة الأحقاد ، واستفزاز الآخر المختلف ، وعلى سبيل المثال كلنا يعلم أن المناطق الكردية في جبل الاكراد ( جياي كرمينج ) التي تعرضت للزلزال ، قد تعرضت قبل ذلك الى عملية التغيير الديموغرافي ، والتهجير لاسباب عديدة ( ليس المجال هنا للتوسع فيها ) ، ولم يعد الكرد يشكلون الغالبية في مناطقهم ، ويسيطر عليها مسلحون فاسدون من غير اهل المنطقة ، وبدلا من مراعاة أحوال البقية الباقية من أهلنا ، نرى أن أصحاب النزعة الانعزالية ، وبدعواتهم اللفظية المتطرفة غير الواقعية ، يضعون أهلنا في دائرة الخطر من جديد ، بل يتمادون في اعتبار أأنفسهم أوصياء ولايجوز لغيرهم من الوطنيين الكرد حتى بحث أوضاعهم ، أو ابداء مواقفهم !! .
وفي سيرة النزعات الانعزالية هناك اشكال عديدة بدأت تظهر خصوصا بعد حدوث فراغ في الساحة الوطنية الكردية ، وتفكك وانقسام الحركة الكردية ، وفي ظل حكم ، وسيطرة الأحزاب ، التي تغذي الى جانب النظام المستبد هذه النزعات مباشرة وغير مباشر ، ومنها الانعزالية العشائرية – القبلية ، والانعزالية الإنسانية في ظروف االزلازل ، والنزعة الانعزالية الحزبوية الضيقة ، وكذلك الانعزالية الآيديولوجية ، ولاننسى هنا شرور الانعزالية " الثقافية " عندما يعزف " كتاب ومثقفون ! " على وتر تلك النزعات القاتلة للروح المبدعة كتوابع لهذا الحزب وذاك ، والتنقل بينها حسب المصلحة الذاتية ، بل مساهمة بعضهم المباشرة في تعميق النزعة القبلية ، والرفع من شأن دور ( الأغا – الزعيم ) على حساب دور الشعب الكردي في صنع تاريخه ، أو ذلك " المثقف المصطنع " الذي ذهب بعيدا في النزعة – الانشائية – المفرطة الخالية من أي مضمون فكري ، ثقافي مبدع .
هذه النزعات جميعها كظواهر مرضية ، وتجليات واضحة لأزمة الحركة الكردية لابد من ازالتها ، لأنها تتناقض من حيث الجوهر مع الشروط الثلاثة الآنفة الذكر التي لابد من توفرها لاعادة الأمور الى نصابها في توحيد الحركة ، وتوفير الاجماع الكردي الدموقراطي ، وتحقيق التوافق مع شركاء الوطن ، ومن ثم حل القضية الكردية على قاعدة مبدأ تقرير المصير في سوريا الجديدة التعددية الموحدة .
وقبل هذا وذاك العودة الى انتهاج الطريق الصحيح في محاولة إعادة بناء حركتنا ، وماتتطلب من تكاتف ، وتعاضد بين مختلف الفعاليات الوطنية الشبابية ، والنسائية ، والمثقفة الملتزمة بقضايا الشعب ، وصولا الىى تنظيم هذه الطاقات المؤثرة لتحقيق مانصبو اليه جميعا في توفير مستلزمات عقد المؤتمر الكردي السوري الجامع .