العبودية والعمل القسري – ثلاث نماذج لثلاث فترات تاريخية


الطاهر المعز
2023 / 2 / 26 - 14:09     

استعباد الإيرلنديين في القرنين السابع عشر والثامن عشر
قبل اتجاه تُجّار العبيد نحو قارة إفريقيا، بهدف صَيْدِ وشَحْن ملايين الأفارقة المستعبدين في بواخر لنقل الحيوانات، ارتكب المُستوطنون الأوروبيون مجازر في الأمريكيّتَيْن ضدّ السّكّان الأصليين، ثم استعبدوا مئات الآلاف من الأوروبيين، وبالخصوص من الأيرلنديين البيض المسيحيين الفقراء، حيث تم حشدهم على متن سفن بريطانية كبيرة متجهة إلى الأمريكتين.
أرسل الملك الإنغليزي جيمس الأول، سنة 1625، ثلاثين ألف سجين أيرلندي "متمرد" (سجناء سياسيون، قاوموا الإحتلال الإنغليزي) لبيعهم كعبيد للمستوطنين الإنغليز في جزر الهند الغربية، وكان العبيد الإيرلنديون سنة 1650 يُمثلون نسبة تصل إلى 70٪ من إجمالي عدد السكان في بعض المستعمرات في جزر "الهند الغربية"، كما كانت تثسمّى آنذاك، وعندما تمرد هؤلاء العبيد، أحرقهم مالكوهم أحياء وعرضو رؤوسهم على الحراب في السوق كتحذير للعبيد الآخرين.
أصبحت أيرلندا، بين سنتَيْ 1641 و 1652، أكبر مَصْدَر ربح لتُجّار العبيد الإنغليز الذين قتلوا أكثر من خمسمائة ألف إيرلندي وباعوا 300 ألف آخرين كعبيد، ولذلك انخفض عدد سكان أيرلندا من حوالي 1,5 مليون إلى ستمائة ألف نسمة، خلال عقد واحد، بالإضافة إلى تهجير معظم الرجال ولم يسمح المُستعمرون الإنغليز لمعظم المتزوجين باصطحاب زوجاتهم وأطفالهم معهم إلى أمريكا، بل تم أرسال النساء والأطفال إلى مناطق مختلفة، ويتم بيع الآلاف من نساء وأطفال إيرلندا بالمزاد العلني في بريطانيا ومستعمراتها، وباع تُجّار العبيد، خلال عقد الخمسينيات من القرن السادس عشر، أكثر من مائة ألف طفل أيرلندي تتراوح أعمارهم (هُنّ) بين 10 و 14 عامًا تم افتكاكهم (هُن) من أُسَرِهم وبيعهم كعبيد في جزر الهند الغربية وولايات فيرجينيا ونيو إنغلاند، وتم، خلال هذا العقد، بيع 52000 إيرلندي (معظمهم من النساء والأطفال) إلى مستوطني باربادوس وفيرجينيا، كما تم نقل 30 ألف رجل وامرأة أيرلنديين آخرين وبيعهم بالمزاد، لمن يدفع أعلى سعر، وفي سنة 1656، أمر كرومويل بنقل أَلْفَيْ طفل أيرلندي إلى جامايكا وبيعهم كعبيد للمستعمرين الإنجليز ... كان أطفال العبيد أنفسهم عبيدًا، مما زاد من حجم قوة العمل لدى الأسياد، وحتى لو حصلت المرأة الأيرلندية على حريتها بطريقة ما، يبقى أطفالها عبيدًا لسيدها، وبذلك نادراً ما تتخلى الأمهات الأيرلنديات عن أطفالهن ويبقين في العبودية.
بدأت الشركات الكبيرة التي تستورد العبيد الأيرلنديين في جني الأرباح من نقل العبيد الأفارقة، خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، واستمرّت إنغلترا في شحن عشرات الآلاف من العبيد الأيرلنديين لأكثر من قرن، قبل الإتجاه نحو إفريقيا، وتشير السِّجِلّات إلى أنه بعد التمرد الأيرلندي سنة 1798، تم بيع الآلاف من المتمردين الإيرلندين ليصبحوا عبيدًا في أمريكا وأستراليا، وتم توثيق الإنتهاكات الفظيعة والمُرَوّعة للأسرى الأفارقة والأيرلنديين، وأظهرت الوثائق أن رُبان سفينة بريطانية عمد إلى إلقاء 1302 من العبيد في المحيط الأطلسي ليبقى للطاقم ما يكفي من الطّعام، إثر تأخير حصل بسبب عواصف بحرية...
قررت بريطانيا، سنة 1839 إنهاء العبودية وأوقفت تجارة وشحن العبيد.

العبودية في المُحتشدات النّازية
تعد معسكرات الاعتقال أحد الرموز المميزة للفاشية الألمانية، كما يرمز مُحتشد أوشفيتز إلى جميع معسكرات الإعتقال، وهو محتشد تم بناؤه من قبل شركة ( IG Farben ) متعددة الجنسيات، من أصل ألماني (التي صنعت غاز "Zyclon B"سيء الصيت ) في منطقة تعدين الفحم في بولندا، وكانت شركة إي غي فاربن ( IG Farben ) - التي لا تزال موجودة تحت أسماء أخرى - شركة متعددة الجنسيات، يمتلك رأسماليون ألمانيون ما يزيد قليلاً عن 10% من رأسمالها ويمتلك مواطنون سويسرؤيون وأمريكيون أكثر من 80% من رأسمالها، وكانت شركة ضخمة تحتكر الصناعات الكيماوية، تم إنشاؤها بنهاية القرن التاسع عشر، ومن إنجازاتها اختراع المطاط الصناعي الذي يتطلب الكثير من الماء والفحم وهما مادّتان موجودتان بكميات كبيرة في أوشفيتز، عند التقاء ثلاثة أنهار، حيث اختارت شركة ( IG Farhen ) ذلك الموقع لبناء مصنعها الثالث، بعد احتلال بولندا من قِبَل السّلطة النّازية الألمانية، غير أن المنطقة تفتقر إلى العدد الهام من العُمّال المَهَرَة الذي تحتاجهم صناعة المطّاط، ولذا سمحت السلطات النازية للشركة ببناء مُعسْكر العمل في "أوشفيتز"، حيث المصنع، بالقرب من الماء والفحم، ولم يتم بناء مُعسكر "أوشفيتز" في الأصل لإبادة الشيوعيين أو المناهضين للفاشية أو اليهود، ولكن كسجن ملحق بالمصنع الذي امتد نشاطه إلى تصنيع غاز "بونا" الذي تصنعه نفس الشركة التي أنشأت كذلك معملا لتصنيع وقود "ليونا"، وهو وقود اصطناعي مشتق من تحويل طاقة الفحم إلى هيدروجين، وكان الجيش الألماني والصناعات العسكرية في حاجة إلى كميات كبيرة من المطّاط ومن الغاز والطاقة، ولذلك سمحت سلطات ألمانيا النازية لشركة ( IG Farben ) بالإستحواذ على مناجم سيليزيا (المنطقة التي يقع بها أوشفيتز)، والتي كانت تنتج مليوني طن من الفحم سنويًا.
لم يظهر نظام العبودية الشهير في أوشفيتز (كسجن ومصنع) فجأة، ولكنه كان نتاجا لعملية تطويع الإقتصاد والصناعة لاحتياجات الحرب، بين سَنَتَيْ 1940 و 1943، وتم اختياره لتوَفُّر المادة الأولية، وتم استخدام المساجين كقوة عاملة وفيرة العدد ومجانية، وأدّى استخدام السجناء كعمالة رخيصة إلى توسُّع نشاط شركة ( IG Farben ) وزيادة أرباحها، وتلبية احتياجات السلطة السياسية النازية لشن الحرب والتّوسّع نحو شرق أوروبا، وتم تسخير أكثر من مليوني شخص، كانوا مُعتقلين في الأجنحة الأربع لأوشفيتز، للعمل المجاني، خلال ثلاث سنوات، ولكن ومنذ البداية، كانت هناك علاقة مباشرة بين احتياجات الشركة الإحتكارية (IG Farben) لزيادة الإنتاج، ومعاملة السجناء، في مصنع المطاط ومصنع الوقود والمواد الكيماوية السّامة، فقد وظّفت الشركة أكثر من 300000 مُعتَقل، في هذا المصنع، تُوفِّي أكثر من ثُلُثَيْهِم، بسبب ظروف العمل التي كانت في بعض الورشات أقسى من الحياة في المُعتقل.
أقامت شركة IG Farben ، في نهاية شباط/فبراير 1943، محرقة جثث حديثة في أوشفيتز، يتم تشغيلها باستخدام غاز "Zyclon B" الذي ابتكرته وحصلت على براءة اختراعه وتحتكر المبيعات العالمية منذ سنة 1934 (بعد عام واحد من وصول النازيين إلى السلطة)، ثم تم استخدامه وتطويره لتصفية المُعتقَلِين بالمعسكرات...
لا تزال الشركة الإحتكارية الألمانية ( IG Farben ) قائمة ولها فُروع عديدة، اتخذت لها أسماء مثل AGFA و Bayer و BASF و Hoechst (التي تنتمي إلى Sanofi-Pasteur) و Pelikan، وكانت "بيليكان" قد زودت قوات الأمن الخاصة الألمانية بالحبر الذي رسموا به وشم السجناء.

فولكس فاغن - فرع البرازيل بين سنَتَيْ 1964 و 1985
أنشأت شركة فولكس فاغن الألمانية، وهي ثاني أكبر شركة عالمية لصناعة السيارات، فرعًا لها في البرازيل، حيث تقوم بإنتاج السيارات منذ سنة 1953 ويعمل بها حاليًا 24 عامل، وشغّلت فولكس فاغن في مكاتبها النازيين السابقين الذين فرُّوا من ألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، نحو أمريكا الجنوبية، وخاصة البرازيل.
تم اتهام الفرع البرازيلي لهذه الشركة العابرة للقارات، سنة 2015، بخرق الحقوق النقابية وطرد 800 عامل من مصنعها في ساو باولو، وحققت اللجنة الوطنية للحقيقة في هذا الأمر، ضمن التحقيق في فترة الحكم العسكري، وصدر التقرير النهائي لهذه اللجنة التي أنشأتها الرئيسة ديلما روسيف سنة 2011، ونُشِرَ بنهاية سنة 2014، وأورد التقرير معلومات وبيانات عن دور الفرع البرازيلي لشركة فولكس فاغن خلال فترة الديكتاتورية العسكرية من سنة 1964 إلى سنة 1985، واعترض الجيش على إطلاع أعضاء اللجنة على الوثائق التي طلبوها، لذلك اضطرت اللجنة إلى الإكتفاء بمقابلة ضحايا التعذيب في ذلك الوقت والشّهود والضبّ
اط الذين وافقوا على الإدلاء بشهاداتهم، ونشرت اللجنة تقريرًا من ألف صفحة يروي مقتل ما لا يقل عن 434 شخصًا، وهي اغتيالات مُدَبَّرَة، مُوثَّقَة وثابتة ومُؤَكّدَة، وقُدِّمَتْ معظم هذه الشهادات من قبل عمال ومعارضين للديكتاتورية، مع ذكر تفاصيل عن الانتهاكات والتعذيب التي تعرض لها عدة آلاف من المعتقلين، بينهم أكثر من ستة آلاف معتقل سياسي، في عدة مراكز اعتقال، بما في ذلك "مركز أمن فولكسفاغن" في ساو باولو حيث يتعرّض العمال المناضلون والمعارضون للدكتاتورية العسكرية للتعذيب، كما تجسّست شركة "فولكس فاغن" على عمال من شركات أخرى، مثل لويس إيناسيو لولا دا سيلفا (رئيس البرازيل الحالي) الذي كان عاملا نقابيا في شركة أخرى ولم يكن موظفًا في شركة فولكس فاغن.
عملت فولكس فاغن وأكثر من 80 شركة أخرى بشكل وثيق مع الحكومة العسكرية، وأنفقت على تمويل الميليشيات المسلحة التي تقمع وتقتل المناضلين، وتوفر معلومات عن العمال، وتختطف عُمّالاً تُسلّمهم إلى الشرطة السياسية...
تمكنت اللجنة من إعادة بناء مسار ومضمون الاجتماعات بين ضباط الجيش والشرطة وممثلي ما لا يقل عن 25 شركة كبرى، بما في ذلك فولكس فاغن، بين سنَتَيْ 1983 و 1985، ويخلص التقرير إلى أن "ممثل فولكس فاغن لعب دورًا مهمًا للغاية خلال هذه الاجتماعات، حيث أثار ناقشات حول قضايا ذات أهمية كبيرة وأعدَّ تقارير لهيئات إنفاذ القانون في الجيش، وكانت الشركات تطلب المساعدة من الجيش، واستخدام القوة والإعتقال والتّصفيات لحل المشاكل مع عمالها، لأن الرواتب المنخفضة وظروف العمل السيئة كانت عناصر أساسية في النمو الاقتصادي الذي حققته البرازيل خلال فترة الدّكتاتورية العسكرية، لكن النّمو الإقتصادي لا يعني تنمية الأحياء الفقيرة ولا بناء مدارس ومستشفيات وطرقات...
توفّرت معظم المعلومات الأساسية بموقع (Mpr21) باللغة الإسبانية