كتاب -دنيا وأديان- لنقولا فياض: سياحة في عالم الفكر والفلسفة


صلاح الدين ياسين
2023 / 2 / 26 - 14:07     

كتاب من تأليف المؤلف والشاعر الراحل نقولا فياض (1871-1930)، صدرت النسخة الأصلية من الكتاب في العام 1951، لتعيد مؤسسة هنداوي نشره سنة 2018. ينصرف هذا العمل إلى تظهير الإسهامات الفكرية لصفوة الفلاسفة والحكماء والعلماء، الذين كان لهم عميق الأثر في الحياة الفكرية والإنسانية، وذلك على نحو مقتضب خال من الحشو والإطناب، وبأسلوب سلس وأخاذ. كما ذيل صاحبنا كتابه بعرض انطباعاته وآرائه الشخصية إزاء قضايا معينة مثل الحرب والعنصرية... إلخ.
وهكذا استهل نقولا مَحَاور كتابه بالحديث عن "بوذا"، مؤسس الديانة البوذية التي ذاع صيتها في آسيا، بحيث تناول في هذا الصدد شذرات من حياته وسيرته، موردًا بأنه كان أميرًا ينتسب إلى العائلة الحاكمة، إلى أن هجر في الأخير قصر أبيه الملك لائذًا بالغاب، حيث اعتزل الأنام وغاص عميقًا في شجون تأملاته، ومن هنا لُقب ب "بوذا" بما مفاده "الحكيم الأكبر". أما فيما يتعلق بأهم جوانب وتعاليم ديانته، يشدد المؤلف على أنها ديانة هادمة لهوى الإنسان وشهواته ولذاته، وهو ما يجسده مناداتها بالزهد والتقشف والتبسط في العيش، وعدم الاغترار ببهرج الدنيا الفانية.
مرورًا ب "كونفوشيوس"، الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، وكان في الوقت عينه مؤرخا ومشرعا ووزيرا. وبالنسبة لتعاليمه، ينبه الكاتب إلى أنها بسيطة ومفرغة من أي فلسفة أو تجريد، متخذةً الطبيعة البشرية كأساس لها وغير متعالية عنها، ويمكن إجمالها فيما يلي: محبة الإنسان لأخيه الإنسان، إطاعة الوالدين والحكام، البدء بإصلاح الذات كتوطئة ضرورية لإصلاح الأمة والمجتمع ككل، القناعة والإحساس بالمسؤولية إزاء المجتمع. كما أنه خلافًا لأخلاقيات الزهد والتقشف عند بوذا، فإن دعوة كونفوشيوس ذاتُ منزع مادي، صدورًا من درايته بطبيعة الصينيين، وهي في جوهرها (= تعاليمه) أقرب إلى الشيوعية الحديثة، في تقدير الكاتب، بالنظر إلى أن ثقافة الصينيين مشدودةٌ إلى تغليب روح الجماعة والاشتراك على الأنانية والفردانية.
وصولًا إلى الفيلسوف اليوناني أبيقور (270-341 ق.م)، الذي أسس مذهبه على فكرة السعادة واللذة المعتدلة، داعيًا إلى التخلص من الأسباب الموجبة للشقاء والتعاسة كالخوف من الموت والآلهة. وقد عرج الكاتب، أيضًا، على الناقد الفني الإنجليزي جون راسكن (1819-1900)، الذي نافح عن الجمال والفن والإحساس والطبيعة في وجه زحف التصنيع والتحديث المادي.
على أن المؤلف ما ذهل عن التطرق إلى أحد أكثر الفلاسفة إثارة للجدل في التاريخ الحديث، والمقصود هنا فريدريك نيتشه (1844-1900)، والذي انصرف إلى إقامة التمييز بين طبقتين، أولاهما "طبقة السادة" أصحاب الهمة والطموح والنبوغ والإبداع، وثانيهما "طبقة العبيد"، التي تجسم السواد الأعظم من الناس - في تقديره - المنساقة وراء سطوة التقاليد المجتمعية المكبلة، والمدفوعة بالحقد والحسد إزاء المتفوقين. وعليه ليس ثمة متسع في فلسفته لفضائل أخلاقية من قبيل الإيثار، والإخاء، والرأفة، لأنها تدخل في عداد أخلاق "العبيد"، أما أخلاق السادة وعلية القوم، والتي من شأنها أن تكفل لهم السيادة والسلطان، فهي القوة، في المقام الأول، من حيث هي شرط لبناء الحضارة وتثبيت حكم الأكفأ (= الأرستقراطية الفكرية)، على عكس الديمقراطية التي تُمكن الرعاع والديماغوجيين، مثلما يرى نيتشه، من بسط نفوذهم وإقصاء ذوي الموهبة والكفاءة.
كما تناول نقولا فياض بإيجاز سيرة الروائي الروسي ليو تولستوي (1828-1910)، ملخصا أهم مواقفه الفكرية، بدءا من عدم إقراره لبعض العقائد المتضمنة في الإنجيل كالخطيئة الأصلية، وانتهاء بعرض الملامح الأساسية لفلسفته على النحو التالي: المنافحة عن السلام والمساواة، الدفاع عن الفلاحين والمعدمين، مناهضة المآل الذي انتهى إليه العلم الحديث، مقاومة الاستبداد والجور والفساد، إدانته للعقائد والإيديولوجيات الحديثة (الوطنية من خلال دعوته إلى إلغاء الحدود القطرية بين الدول، الاشتراكية... إلخ). وهكذا يخلص الكاتب إلى أن تولستوي كان يمني النفس بالعودة إلى الحالة الفطرية والحياة البدوية الأولى، مديًرا بذلك ظهره للمدنية الحديثة.
كما بسط الكاتب، انتهاء، أبرز أفكار الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان (1823-1892)، الذي يُعد من الأتباع الخُلص للوضعانية العلمية، الأمر الذي يُترجَم، بحسب الكاتب، في عدم قبوله إلا بما يثبته العلم، ومن ثم استبعاد كل ما يصنف في خانة الميتافيزيقا والماورائيات. ومع ذلك فهو (= رينان) لا يزعُم بأن العلم بوسعه الإحاطة بكل الحقائق، وتحقيق الخلاص والفردوس الأرضي للبشرية، بحكم أن مهمته تقتصر على فهم ومعرفة الحقيقة، لا تحقيق المثل الأعلى الذي يختلف من فرد إلى آخر تبعا لقناعاته واختياراته القيمية. كما لم يفت الكاتب التنبيه إلى المواقف السياسية للكاتب الفرنسي، من حيث تحوله من الاشتراكية إلى الأرستقراطية الفكرية بعيد معاينته لأهوال تجربة كومونة باريس.