لا تتحدث مع الغرباء


محمود حمدون
2023 / 2 / 24 - 17:57     

لا تتحدث مع الغرباء "
====
أمام الماكينة, يقف اثنان, يبدوان كزوجين. رأيتهما يناوران آلة صرف النقود, عسى أن تخرج لهما بقية نقودهما من عملات صغيرة, لكن الشاشة الرقمية صكّت وجهها وأبت أن تنصاع لرغباتهما.
- "الحل ايه دلوقت؟!", هكذا صاح الرجل بضجر وبصوت مخنوق, لعله لم يقصد توجيه الكلام لامرأته بقدر ما يخاطب السماء بمصيبته.. ثم أكمل بصوت أعلى: لم يعد دخلنا معًا يكفي الأكل والشرب, حتى عملي في الفترة المسائية لم يعد يُجدي, هي سويعات لقاء جنيهات قليلة. توقف ونظر لزوجته لمعرفة وقع كلماته عليها غير أنها كانت في وادِ بعيد عنه, فالتفت حوله , حين لمحني أكمل حديثه: يا أستاذ والله كنّا مستورين, أهي ماشية, لكن الظروف دلوقت, انت عارف أكيد, فواتير عالية, مصاريف يومية لا نقدر عليها, "محدش حاسس بينا "!
هززت رأسي كأنما أقول له : أتضامن معك, بلغة الأعين قلت: أنا أيضًا مثلك.
-قاطع صمتي الرجل, بينما قرينته منشغلة بمداعبة أزرار الماكينة, قال: استغنيت عن ملذات الحياة, أقصد " حجرين المعسل", أتعرف ! نظرت إليه باهتمام كأنما أقنعه بمشاركتي له همومه, همس وهو يلتفت حوله بوجل: ترتفع أسعار كافة السلع الغذائية وغيرها بسرعة غريبة, حتى أن السعر يتحرّك لأعلى كل ساعة أو أقل وبات دخل الفرد وبخاصة موظفي الحكومة في سيء حال, تتدهور قيمته يومًا بعد يوم.
أمّنت على كلامه, قلت : نعم, لقد غابت أو كادت تلك الشريحة من الناس مستوري الحال, هؤلاء الذين كنّا نراهم فنحسبهم في رغد من العيش.. رأي انتهيت إليه منذ سنوات, أرى الحقيقة واضحة جليّة حين أقف بين يدي ماكينة الصرف الآلي للحصول على مرتبي الشهري, هناك أقابل أطيافًا من الناس, أكثرهم تحط على وجوههم قترة وحزنًا كامنًا..
توقف الغريب عن حديثه المتدفق, بنظرة متوجسة من المرأة, فاعتذر وانصرفا, غير بعيد سمعت المرأة تقول له بصوت لم تراع أن يسمعها أحد: " انت قلقان ليه! هاتصرف زي كل مرة"
حينها أطرق الرجل للأرض, تدلى شاربه الكبير كهلال يحتضن التراب: همس لها وهو يرمقني بنظرة لم أفهمها: الحياة تثقل عليكِ, بل علينا جميعًا, لم يعد هناك من يقبل بإقراضنا, حتى لو وجدنا فنحن نعجز عن سداد ديوننا القديمة للآخرين, بلهجة ساخرة أكمل: "كل اللي نعرفهم مستلفين فلوس من بعض"," محدش قادر يسدد اللي عليه", "طيب هانسدد احنا ازاي", ثم اتسعت عيناه بشدة , نظر إليّ وقال: عندك حل؟!
غير أن المرأة عاجلته, بلهجة آمرة تحمل بقية ودّ, قالت: لا تتحدث مع غرباء فالأمر لا يسلم, ثم أخرجت هاتفًا صغيرًا من صدرها المكتنز, عبثت بأزراره, أجرت حوارًا مقتضبًا: " أنا ثريا يا أبلتي, عندك شغل الليلادي ؟ تمام أنا جاهزة من دلوقت, بس تكون حاجة كويسة, والدفع مقدم, خلفي لأ, مفيش بيات ". كانت تُملي شروطها على الطرف الآخر بحزم من يعرف قدر نفسه, حجم مهارته في مهنته, ثم صمتت قرابة دقيقة تنتظر.. بعدها أنهت المكالمة وعلى وجهها ابتسامة رضاء باهتة, التفتت إلى بعلها وقالت: ألم أقل لك من قبل "متشغلش" بالك, رَوَّح انت للعيال, قفزت في أقرب " تاكسي", وأنا أتبعها بعيني, حتى غابت عن الأبصار. زوجها يرمقها هنيهة من مكانه, موليًا ظهره للماكينة, يديه في جيبي بنطلونه. دهس بقوة عُقب سيجارة قديم ملقى تحت قدميه, ثم قطع الشارع عدوًا .