الحاضَرُ في الرّوحِ العاقِلَة -الجَدَلْ الهيجلي


خالد فارس
2023 / 2 / 22 - 13:37     

يُتَرْجَمْ كتاب هيجل , The Phenomenology of Spirit,الى العربية على النحو الآتي "فينومينولوجيا الروح". والمقصود في الروح بلغة العصر هو العقل. سأقترح ترجمة ذلك الى الروح العاقلة. أي يكون عنوان الكتاب "فينومينولوجيا الروح العاقلة"

وكلمة فينومينولوجيا تعني الظواهر التي تنشأ مع تجربة الإنسان, شيء يصبح ظاهره تخص الإنسان أو تجربته بمجرد أن تصبح حاضرة حسيا و أو ذهنيا. لذلك أقترح ترجمة فينومينولوجيا على النحو الآتي "الحاضر من الأشياء".

لذلك عنوان الكتاب يعني "الحاضر من الأشياء في الروح العاقلة". لكن, و من أجل رشاقة وليونة أكثر في الترجمة, أقترح أن تكون الترجمة على النحو "الحاضر في الروح العاقلة"

يُعْتَبَرْ هذا الكتاب, وفي العموم, كتابات هيجل, الأصعب من ناحية صياغتها وتنسيقها فلسفيا ونظريا. يحتاج القارىء الى أدوات الفاهِمْ في الدياليكتيك, من أجل دراسة فاهمة متحركة بمرونة ورشاقة فلسفية, من ناحية تاريخية ومنطقية. إضافة الى ما تراكم فلسفيا ما قبل هيجل (على وجه الخصوص كانط), ثم ما تناتج من بعد بعده (على وجه الخصوص ماركس).

قَضَمَ كانط الإدراك الحسي والذهني (الحاضر من الأشياء) قَضْمَاً مُريباً, من أَصْلِهِ و جَذْرِهِ, لأنه إفترض أن للحاضر من الأشياء أو الظواهر التي نعيش تجربتها, لها أصل وجذر في عالم آخر لا نُدركه. رَحَّلَ الحاضر من الأشياء وأحالها الى عقل مجرد يقوم على أسبقيات.
فالحاضرُ من الأشياءِ تتلاشى أو تنعدم في العقل, يحتلها العقل. العقل هو إحتلالي (هذه من عندياتي), لأنه يزيل الحاضر من الأشياء ويقضمها, يقرر مصيرها العقل المجرد, الذي يعتبره كانط قد وُلِدَ مع الإنسان, مبرمج وفق تصنيفات أسبقية على ما سيحضر من الأشياء أمام الإنسان.

عندما تحضر الأشياء أمام حواسنا أو الذهن الإنساني, يقول كانط, جُلْ ماتقوم به أنها تُشَغّلْ هذه المُبَرْمَجات العقلية, لكي تقول لنا ماهو هذا الشيء الحاضر من الأشياء أمامنا. ما يحضر أمامنا هو مجرد ظواهر لا نعرف أصلها ولا فصلها, فهي من عالم آخر لا نُدْرِكُهُ, وأن عقلنا سيقول لنا حكماً ويقيناً, أن ما حَضَرَ أمامنا من أشياء هي كذا وكذا. فمثلا, سيقول لنا العقل أن ما حضر أمامنا (لنأخذ مثال عن شيء نشاهده مثلاً) بأن هناك علاقة سببية بين شيئين حضرا أمامنا, ولكن في حقيقة الشيء بذاته, لا نستطيع أن نعرف إن كانت علاقة سببية أم لا, ولكن الظاهر منها, الحاضر منها, سيقرر لنا العقل ماهي, وعقلنا سيحكم عليها بأنها علاقة سببية.

أما هيجل الذي رفض موقف كانط من الحاضر من الأشياء, تَبَنّىّ الحَاضِرْ من الأشياء على أنه هو الشيء بذاته, الأصل والفصل, وأنه يمثل عقلانية الواقع, ويشكل الروح العاقلة, في زمانها أي في تاريخها. , الروح العاقلة هذه التي تتشكل, و ستتحرك وفق جدلية (دياليكتيك).
خطوات الجدل-الياليكتيك:

1) الحاضر الإيجابي (الإيجابية في الجدل: ما يحضر فينا, إيجابي),

2) الحاضر السلبي (عندما نستخرجه من داخلنا يتحول الى شيء حاضر أمام الآخر, فيتعرض للنقد والسلبية- السلبية في الجدل, ويصبح نقيصة أو فيه نواقص, لا بد من تحديثها وتعديلها),

3) إلغاء من الحاضر و الإرتقاء والمحافظة: مرحلة نفي النفي, أو نقد النقد في خطوة 2, ويتم فيها إلغاء السلبية في (1) ثم أخذ النقد من (2) وعكسه على (1) لكي نحافظ على ما فيه من إيجابية ونرتقي فيه نحو إيجابية جديدة.


**ملاحظة بخصوص المرحلة الثالثة من الجدل: الكلمة في اللغة الألمانية التي يستخدمه هيجل وماركس هي , aufheben, تم ترجمتها الى الإنجليزية على أنها sublation. في واقع الأمر لا يوجد كلمة في اللغة الإنجليزية مقابلة لكلمة aufheben الألمانية. لذلك إتخذت في اللغة الإنجليزية ثلاثة مفردات أو معاني: إلغاء-Cancel, المحافظة على شيء-Preserve , الإرتقاء أو التطور -Lift Up.

إذا مرحلة نفي النفي, هي في الألماني aufheben, وهي إلغاء السلبي, المحافظة على ما في حاضر الأشياء من إيجابي, والإرتقاء في الإيجابي من حاضر الأشياء, أي تطويره وتحديثه الى الأفضل.

مرحلة رقم 3 تصبح هي الحاضر الإيجابي الجديد, الذي تم تحديثه وتطويره من خلال عملية نقد وتعليم وتدريب. ثم يخضع هذا الحاضر الإيجابي الجديد الى سيرورة الجدل من جديد, وهكذا يسير التاريخ في عملية تطور ونقد متواصلة.

لذلك, فإن الحاضر من الأشياء لا يتم قَضْمَهُ من أَصْلِه أو جذوره الحقيقية (الشيء بذاته) بواسطة العقل كما أراد كانط, وليس أننا لا نعرف ماهيته, بل هو ما دخل في سيرورة الجدل 1) بداية: حاضراً إيجابيا 2) ثم عندما أصبح خارجنا, أصبح حاضراً عند آخر, ستظهر عيوبه و يظهر منه السلبي, 3) ثم نقد نقده, لكي يتحول الى حاضر جديد. وهذه هي الروح العاقلة للأشياء الحاضرة.

أخذ ماركس السيرورة الجدلية من هيجل, وأعاد تعريفها في سياق حاضر الصُّنْعُ (الحاضر الحِرفي, عمل الإنسان). ويقصد بالصُّنْعُ: "العَمَلُ" -"إِخْراجْ الفَاعِلِ الحَكيِمِ المُحْدَثِاتِ مِنْ حَدِّ الوُجُودِ بالقُوَّةِ إِلىَ حَدِّ الوجودِ بالفِعْلِ" (المصدر: https://www.dohadictionary.org/dictionary/%D8%B5%D9%86%D8%B9 تاريخ 22/2/2023).

الحاضر عند ماركس ليس كما يحصرها هيجل في حاضر الأشياء الذهنية أو الحسية, إنما فيما يقوم به الإنسان من عمل, ما يصنعه الإنسان, لأن الإنسان بطبيعته وجوهره يمارس الصُّنْعُ.

إستحضر هيجل الحاضر من الأشياء في أفكار, مقابل ماركس الذي إستحضرها في الصُّنْعُ.

عند ماركس, كل شيء يقوم به الإنسان هو العَمَلُ أي الصُّنْعُ, الذي يُجَسّدْ الإيجابية الإنسانية. الشيوعية عند ماركس هي دوام وإستدامة هذه الإيجابية. في الرأسمالية يجري إستغلال لهذه الإيجابية, وتجريدها من الإنسان, أي من الصُّنْعُ الذي فيها, كونه يمثل جوهر الإنسان, بمعنى أن يتم نزعه من الإنسان, فيتحول الى نقيض صُنْعٌ, أو صُنْعٌ مُجَرّدْ في تضاد مع صُّنْعُ.

الصُّنْعُ المجرد يتخذ طابع تبادل سلعي ذو قيمة مالية مصطنعة ضرورية لكي تتحول من مال-نقد الى رأسمال, أي علاقة رأسمالية تتحكم بالصُّنْعُ البشري. أما الصُّنْعُ غير المجرد, يتخذ طابع تبادل خدمات نافعة بين البشر لكي تتحول من خدمات نافعة الى مجتمع منتفع ككل, أي علاقة إجتماعية لصالح الجميع, الإيجابية الاجتماعية.

خ.ف.