مختارات شعرية: جويس منصور (نكلترا، 1928 باريس 1986). ترجمة وتقديم: رشيد وحتي.


عبدالرؤوف بطيخ
2023 / 2 / 22 - 11:02     

صدر، عن آفاق للنشر والتوزيع، أنثولوجيا شعرية للسريالية المصرية جويس منصور، تضم زهاء 80 قصيدة من مختلف مراحلها الشعرية، بتقدمتين وملحقين لأندري برطون - رائد الحركة السريالية ـ وجورج حنين ـ العضو الأبرز في فرعها المصري:
جماعة الفن والحرية .
الأنثولوجيا مذيلة بألبوم صور للشاعرة.
صدر هذا الكتاب بعد أن تم منح آفاق حقوق الترجمة العربية لمجمل القصائد بإذن خاص من دار لافون ومنشورات منتصف الليل الباريسيتين.
(قصيدة الرغبة الأنثوية الجامحة)
(مقتطفات من تقديم المترجم)
ذات يوم، وأنا أنظر لإتنا Etna ، الذي كان نهده يتقيأ حمماً، وددت لو كنت هذا البركان الشهير
الماركيز دو ساد.
سنختزل الفن في أبسط تعبيراته، ألا وهي الحب .
(أندريه بريتون).
*****
(جويس منصور) شاعرة مصرية ولدت فى (باودن Bowden انكلترا، 1928 ـ باريس 1986). من وجوه الحركة السريالية الأساسية التي تجددت بها دماؤها بعد الحرب العالمية الثانية، ضمن ما اصطلح عليه باسم الركب الثالث (بعد جيل المؤسسين وجيل ما بين الحربين)ولدت لأبوين مصريين من الطائفة اليهودية. أقام الوالدان في مانشستر حيث أسسا شركةً لتسويق القطن، قبل عودتهما للاستقرار في مصر، فور ولادة جويس. في تلك الفترة افتتحت ماريا كاديا (زوجة الوزير محمود رياض. كانت مغرمةً بالسريالية، لحد جعلها تنتمي لجماعة الفن والحرية . لها ديوان ومجموعة حكايا. كانت إقامتها تضم أهم مقتنيات الفن الفرعوني، كما كانت قبلةً لكل الفنانين والكتاب من جميع الجنسيات والأقوام) صالوناً للقاءات الأدبية بالقاهرة، وكانت الأولي في فتح إقامتها الباذخة بالزمالك لأعضاء الفرع المصري للحركة السريالية: ما يسمي جماعة الفن والحرية ، التي أسسها في 1938 جورج حنين، رمسيس يونان وفؤاد كامل. وفي هذا الصالون بالذات التقت جويس بحنين الذي كان منشط النقاشات الرئيس، وهناك اكتشفت الشاعرة روح الحركة السريالية.

مع صدور ديوانها الأول صرخات (أواخر 1953)، صار الكتاب حديث الصالونات الأدبية في القاهرة والإسكندرية. أما السرياليون في باريس فقد اعتبروا جويس، مذاك، واحدةً منهم.
استمراراً لنفس الجذوة الشعرية، وتماشياً مع روح السريالية، أصدرت جويس ديوانها الثاني تمزقات ربيع 1955، ولاقي نفس الاستحسان لدي أعضاء الحركة في فرعيها بالقاهرة وباريس.
مع أزمة قناة السويس والعدوان الثلاثي، وبعد تحذيرات تلقياها من مجموعة من الأصدقاء، تضطر جويس، رفقة زوجها سمير منصور، لمغادرة مصر في ايلول (سبتمبر) 1956. بعدها، لم تعد الشاعرة قط لمصر.
بين 1956 و1966، ستجد جويس نفسها في خضم الحركة السريالية، لا أسلوباً وجمالية شعرية فقط، بل أيضاً انتساباً تنظيمياً، نشاطاً جماعياً يومياً: صار الإسهام بالقصائد المشبوبة ونشرها في المجلات والمطبوعات السريالية مقروناً بتوقيع البيانات النارية. وبعد أن أصبح التحاق الشعراء نادراً، جاء إسهام جويس دفعةً ودفقات جديدة في دماء الحركة السريالية بعد الحرب العالمية الثانية وزخماً أغني إنجازاتها الشعرية.

في ربيع 1968 تنأي جويس بنفسها نهائياً عن الجماعة السريالية، بعد أن بدأت تدب فيها انشقاقات وصراعات هامشية أوصلتها لباب مسدود ونزاعات حول قيادتها. لكنها بقيت علي صلة شخصية بغالبية الأعضاء الذين رفضوا إعلان جون شوستر Jean Schuster حل الحركة كتنظيم في 1969، في خرق سافر لمبادئ العمل الجماعي، ودون استشارة النشطاء الباريسيين ولا باقي الفروع السريالية في العالم.
توفيت جويس ببيتها في 27 اب (أغسطس) 1986، بعد صراع طويل مع السرطان. وقد حيتها الصحف وباقي وسائل الإعلام كآنسة غريبة، كطفلة مسكية في الحكاية الشرقية، كشاعرة سريالية ذات أصول مصرية، كأهم وجه في الجناح المصري للحركة السريالية، كأجمل سريالية، كنموذج للجمال الشرقي رغم بصرها الحسير، كمواصلة لجذوة الحركة السريالية - بصفتها نشاطاً جماعياً - بعد وفاة بريتون.

يتميز شعرها بتحرره من جميع القيود، علي مستويي الشكل (أبيات مرسلة غير مقفاة) والثيمات (استيهامات ، هوس ، أحلام وشبق ). مما يزيد قصائدها تحرراً أنها تنفك من أسر العناوين: نادراً ما تعنونها، ضمن خيار ساد كثيراً لدي السرياليين.
ويعتبر مشروع جويس منصور الشعري اشتغالاً في صلب البرنامج السريالي الذي اختطه رائده أندري برطون لهدم الهوة بين الحياة والقصيدة، ذلك البرنامج الذي ما زال قائماً ضمن مشروعية الحلم والحق في تحقيقه، ذلك البرنامج الذي يجد جوهره في مقولة برطون بلغتها التي لا تخلو من نبوءات العرافين: سنختزل الفن في أبسط تعبيراته، ألا وهي الحب ، والتي تجد صداها في هذا البيت الشعري الكثيف والذي يدخل في باب التنظير الشعري للشعر، أو ما يسمي بالميتا - قصيدة:
يبدأ الفن حيث تنتهي الرغبة (قصيدة أحاليل ومومياءات ، ديوان أحاليل ومومياءات، 1969).

(1)
فَتَحْتُ ذِراَعَيَّ
جُرْحيِ الْكَبيِرَ الْمِلْحِيَّ
تَحْتَ عباَّرَةِ الشِّتاَءِ
فَتَحَرَّكَ الشَّيْءُ لِتَوِّهِ
خَوْفاَنَ فيِ قَفَصِهِ
أَماَّ الْكَماَنُ الْجَهيِرُ الْمُلَمْلَمُ
فيِ أُذْنِ السُّلَّمِ الْحَزيِنَةِ
عَليَ شاَكِلَةِ سَهْمٍ مَكْسوُرٍ
فيِ قاَروُرَةِ حِبْرٍ صيِنِيٍّ
فَتَجَشَّأَ نوُطَةً مُلَوَّنَةً
آهٍ ياَ إِيْزيِسُ الْحاَذِقَةُ
فيِ الآلاَمِ الشَّرْقِيَّةِ

(2)
أَصْغِ إِلَيَّ
يَداَكَ تُصْغِياَنِ إليِ
لاَ تُطْبِقْ عَيْنَيْكَ
ساَقاَيَ تَبْقَياَنِ مُنْفَرِجَتَيْنِ
رَغْمَ ضَوْءِ الظَّهيِرَةِ الناَّبِحِ
رَغْمَ الذُّباَبِ
لاَ تَرْفُضْ كَلِماَتيِ
لاَ تَهُزَّ كَتِفَيْكَ
أَصْغِ إِلَيَّ، إِلَهيِ
أَدَّيْتُ الزَّكَواَتِ
وَصَلَواَتيِ تُساَويِ صَلَواَتِ جاَرَتيِ.

(3)
ثَمَّةَ رَجُلٌ يَتَراَفَعُ عَنْ نَفْسِهِ
أَماَمَ هَيْأَةِ مَحْكَمَةٍ مِنَ الْقِرَدَة.
الرَّجُلُ الَّذيِ يَطْلُبُ الرَّجُلُ الَّذيِ يَتَوَسَّلُ.
رَأْسُهُ تَخْتَبِئُ بَيْنَ فَخِذَيْهِ الْمُزَغَّبَيْنِ.
وَالْقِرَدَةُ تَنْتَظِرُ
وَالْقِرَدَةُ تَتَّهِمُ تُداَفِعُ تَضْحَكُ
قَبْلَ الْتِهاَمِ الرَّجُلِ، تِلْكَ الْمَوْزَةِ الْمُتَعَفِّنَةِ"
_________________________
(فيِ طُقوُسِ هَذِهِ الْقَصيِدَةِ ثَمَّةَ حُضوُرٌ لِلإِلَهُ تْحوُتْ -المترجم )

(4)
ثَمَّةَ فيِ الْمَديِنَةِ
جَيْشٌ رَهيِبٌ وَمُتَأَلِّقٌ مِنَ الراَّقِصيِنَ
يَعْبُرُ الْجُسوُرَ بِالْجِياَّدِ
باَسِطيِنَ لِلْمَوْتيَ فَوْقَ وُجوُهِ الأَحْياَءِ
كَالزُّبْدَةِ فَوْقَ كَسْرَةِ خُبْزٍ باَئِتٍ

(5)
لاَ تَبْحَثواُ عَنْ زَحْزَحَةِ الشَّجَرَةِ الْمُثْمِرَةِ خُبْزاً
فَحَتيَّ الْمَوْتيَ يَطْلوُنَ أَجْساَدَهُمْ بِمَساَحيِقِ الطَّحيِنِ
غَنواُّ مُتَّبِعيِنَ نوُطاَتِ الْموُسيِقيَ
عَليَ شِفاَهِ الشاَّطِئِ الْمُجاَوِرِ
فَجْأَةً تَسْتَحيِلُ عَلاَمَةٌ موُسيِقِيَّةٌ مِنْجَلاً
فَيَنْحَرِفُ الصَّوْتُ مَشْدوُداً لِلْحَبْلِ
بِالْخَوْفِ الْمَحْفوُظِ

(6)
مَكاَئِدُ يَدَيْكَ الْعَمْياَءُ
فَوْقَ نَهْدَيَّ الْمُرْتَعِشَيْنِ
الْحَرَكاَتُ الْبَطيِئَةُ لِلِساَنِكَ الْمَشْلوُل.
فيِ أُذْنَيَّ الْمُجَيِّشَتَيْنِ لِلْعَواَطِفِ
كُلُّ فِتْنَتيِ الْغاَرِقَةُ فيِ عَيْنَيْكَ دوُنَماَ بُؤْبُؤَيْهِما
الْمَوْتُ فيِ بَطْنِكَ وَهُوَ يَلْتَهِمُ دِماَغيِ
كُلُّ هَذاَ يَجْعَلُ مِنيِّ آنِسَةً غَريِبَةً.

(7)
رَجُلٌ مَريِضٌ بِأَلْفِ فُواَقٍ
رَجُلٌ مُرْتَجٌّ بِأَفْكاَرٍ مُمْلاَةٍ
مُمْلاَةٍ مِنْ طَرَفِ ظِلِّهِ الَّذيِ يَتْبَعُهُ دوُنَ تَوَقُّفٍ
الْمُسْتَعِدِّ لالْتِهاَمِهِ فيِ لَحْظَةٍ دوُنَ شَمْسٍ
الْمُسْتَعِدِّ لِيَصيِرَ سَيِّدَ شَهْوَتِهِ
الْمُسْتَعِدِّ لِجَرْجَرَتِهِ عَبْرَ الْفَضاَءِ.
رَجُلٌ بِلاَ جُذوُرٍ صاَرَ نَجْماً.

(8)
هَبيِ حَلْقَكِ لِلَّيْلِ
أَيْ إِفْريِقْياَ الْمُلاَزِمَةُ لِلْباَلِ
أبْصُقيِ أَسْناَنَكِ أَزْباَلَكِ
دَوْخاَتِكِ
فيِ الْقِشْدَةِ الْمَخْفوُقَةِ
لِلْكَنيِسَةِ

(9)
تُحِبُّ النَّوْمَ فيِ فِراَشِناَ الْمُخَرْمَشِ.
عَرَقُناَ الْعَتيِقُ لاَ يُنَفِّرُكَ.
إِزاَراَتُناَ الْمُوَسَّخَةُ بِأَحْلاَمٍ مَنْسِيَّةٍ
صَرَخاَتُناَ الَّتيِ تَضُجُّ بِهاَ الْغُرْفَةُ الْمُعْتِمَةُ
كُلُّ هَذاَ يُهَيِّجُ جَسَدَكَ الْجاَئِعَ.
وَجْهُكَ الْقَبيِحُ يُشْرِقُ أَخيِراً
لأَنَّ رَغَباَتِناَ أَمْسِ أَحْلاَمُكَ غَداً.

(10)
ثَمَّةَ امْرَأَةٌ جاَلِسَةٌ أَماَمَ ماَئِدَةٍ مَكْسوُرَةٍ
وَالْمَوْتُ يَأْكُلُ أَحْشاَءَهاَ.
لاَ شَيْءَ فيِ الدوُّلاَبِ.
مُتْعَبَةٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتيَّ مِنْ ذِكْرَياَتِهاَ
تَنْتَظِرُ وَالناَّفِذَةُ مَفْتوُحَةٌ
الضَّوْءَ ذاَ الأَلْفِ وَجْهٍ:
الْجُنوُنَ.

(11)
وَحيِداً عَليَ تَلٍّ مُعَرَّضٍ لِلرِّياَحِ
يَبْزُغُ رَأْسٌ مُدَبَّبٌ مِنْ جُلْجُلٍ
صَرْخَةٌ
الريِّحُ الريِّحُ ذاَتُ الْعَيْنَيْنِ الْبَبَّغاَئِيَّتَيْنِ
ذاَتُ الْمَواَكِبِ الْجَناَئِزِيَّةِ
وَدَوَراَناَتِ الْمَجاَعَةِ
الريِّحُ تَسوُطُ خاَصِرَتَيْكِ النَّهِمَتَيْنِ
أَجِنَّتَكِ الْمِنْ قَشٍّ
كَفْلَكِ الأَدْرَدِ

(12)
فَتَحْتُ رَأْسَكَ
لِقِراَءَةِ أَفْكاَرِكَ.
قَضَمْتُ عَيْنَيْكَ
لِتَذَوُّقِ رُؤْيَتِكَ.
شَرِبْتُ دَمَكَ
لِمَعْرِفَةِ رَغْبَتِكَ
وَمِنْ جَسَدِكَ الْمُرْتَعِشِ
صَنَعْتُ قَوتيِ.
*****
جُنيِ؟

اِنْطِلاَقاً مِنْ فِراَشيِ أَتَخَيَّلُ طُمَأْنيِنَةَ الْمَقْبَرَةِ الْغَريِبَةَ. أَتَهَزْهَزُ لِفِكْرَةِ الدَّمِ الْمُراَقِ؛ وِجْنَتاَيَ تَلْتَهِباَنِ، أَسْناَنيِ الْخِسيِّسَةُ تَقْضِمُ خُطاَّفَ الْعَتَهِ الْمُنْزَلِقَ وَأَناَ أُدمْدِمُ فيِ الْحُلْكَةِ كَسَرَطاَنٍ بَحْرِيٍّ مُسَطَّحٍ.
نُتْفَةٌ مِنْ شَعْرِكَ تَتَرَنَّحُ فَوْقَ الْقَبْرِ. صَدْريِ يَنْفَلِقُ بِفِعْلِ أَلْفِ مُوَيْجَةٍ هاَئِجَةٍ؛ أَظُنُّنيِ أَسْمَعُ صَرَخاَتِ آباَئِناَ، هاَتِهِ الدوُّداَتِ الشَّريِطِيَّةَ الْفاَقِدَةَ لِكُلِّ ضَوْءٍ كَثيِفٍ حَتيَّ فيِ الآلاَمِ - الَّتيِ تَشُقُّ الْمَمَراَّتِ ذاَتَ الْحيِطاَنِ الْمُتَجَهِّمَةِ بِالرِّغْوَةِ. إِنَّهاَ تَصرُخُ وَتَنوُحُ، ناَثِرَةً لِلَذَّتيِ ذاَتِ الْاخْتِلاَجاَتِ الْمُنْزَلِقَةِ حَتيَّ الْعُمْقِ الْأَعْمَقِ لِلْحَديِقَةِ. حَديِقَةٌ جَميِلَةٌ بِصُموُتاَتِ تُفاَّحاَتِ الصَّنَوْبَرِ، بِأَحْلاَمِ الْمَرْمَرِ وَالْأُخْطُبوُطاَتِ، بِتَعاَويِذِ الصَّرْصاَرِ وَرَواَئِحِ النِّساَءِ الْعَطِرَةِ. سَأَسْحَقُ سيِاَريِ فيِ عَيْنِكَ الْمَرْسوُمَةِ بِسُرْعَةٍ بِأَلْواَنِ الْيَقَظاَتِ، سَأَسْحَقُ قَضيِبَكَ بِكَعْبِ حِذاَئيِ الْباَليِ، سَأَسْحَقُكَ بِكاَمِلِكَ فيِ نَتاَنَةِ رَفْضيِ.
صَوْتُكَ يَخْتَرِقُ الْفاَصِلَ بَيْنَ الْغُرَفِ. تَشْتَكيِ. فَرْجيِ يَضيِقُ ثاَنِيَةً. حُنُوٌّ، فَانْتِظاَرٌ..
(يوُلْيوُ 1959).