لمزيد من التوضيح والفائدة.... حديث مختصر عن تخلف تكوين الأمة العربية


غازي الصوراني
2023 / 2 / 21 - 17:42     


الأمم هي تطور تاريخي للجماعات القومية. ولقد تحددت ملامح كل أمة من خلال التطور الرأسمالي وما حمله معه من اقتصاد وسياسة وفكر، ولأن التطور الرأسمالي قد تأخر في المجتمعات العربية فقد تخلف تكوين الأمة العربية.
وإذا كانت العملية القومية أي عملية تشكيل الأمة العربية، تشق طريقها بصعوبة بالغة حتى الآن، إذ أن الشعوب العربية في أقطارها المختلفة مازالت تناضل ضد بقايا القهر الاستعماري ، فإن الاتجاه لتكوين الدولة القومية فد بدأ في أوربا مثلاً في القرن السادس عشر، ثم سادت الظاهرة القومية فيها ابتداء من القرن التاسع عشر.
وفي العالم كله كان انتصار الرأسمالية الحاسم على الإقطاع مقترنا بانتصار الحركات القومية أيضاً. وأساس هذه الحركات موجود من الناحية الاقتصادية في الإنتاج لا في التبادل. فعندما يتفوق الإنتاج السلعي، أي الإنتاج من أجل السوق، على غيره من أشكال الإنتاج، وعندما تصبح له الغلبة عليها، فإنه يتطلب قيام الطبقة أو الفئات الرأسمالية الصاعدة بالاستيلاء أو بالسيطرة على السوق الداخلية التي تتداول السلع المنتجة، كما يتطلب في الوقت نفسه توحيد الأراضي التي يتكلم سكانها لغة واحدة في دولة واحدة وإزالة كل حاجز من شأنه أن يحد من تطور تلك اللغة ورسوخها في الأدب والثقافة.
فلماذا إذن لم تتطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية العربية في القرون القليلة الماضية إلى نظام رأسمالي على الرغم مما عرفته تلك الأوضاع من تبادل سلعي عريق في التاريخ؟ إن السبب الواضح لنا هو عدم تفوق الإنتاج السلعي وعدم سيادته. كان هناك اقتصاد سلعي، بعض المنتجات السلعية، وتجارة داخلية وخارجية واسعة النطاق. لكن الإنتاج السلعي، الإنتاج من أجل السوق لم يتفوق على غيره من أشكال الإنتاج الطبيعي، أي الإنتاج من أجل الاستهلاك. كما أنه لم يستطيع أن يقوم بتصفية الأسواق المفتتة الضيقة لحساب سوق داخلية موحدة تكون هي بدورها أساسا لتطوير أكبر لفنون الإنتاج وتنظيماته. فإنه بتكوين هذه السوق الداخلية الموحدة الواسعة تتهيأ الظروف لقيام السوق القومية، فالسوق هي المدرسة الأولى التي تتعلم فيها الرأسمالية الناشئة دروس الوطنية والقومية.
والسؤال الثاني : لماذا لم يتفوق الإنتاج السلعي حتى الآن في العالم العربي؟ الواقع أن الوطن العربي قد سقط في غيبوبة حضارية في ظل المماليك (منذ القرن الثالث عشر الميلادي وبالتحديد من 1250 إلى 1517.) ، وفي ظل الحكم العثماني ( 1517- 1918 )ثم الاستعمار وصولا الى الامبريالية الامريكية الذين أحكموا قبضتهم وسيطرتهم على مجتمعاتنا العربية ، وعلى الرغم من استقلال معظم الدول العربية – عدا فلسطين – الا أن هذه الدول سرعام ما غرقت في أوضاع التبعية والتخلف من جديد خاصة بعد رحيل القائد الوطني والقومي التقدمي جمال عبد الناصر وبداية عصر الانفتاح وعقد اتفاق كامب ديفيد ومن ثم بداية الهبوط العربي مجددا الى جانب إعادة انتاج وتجديد التخلف وتفاقم التبعية للتحالف الامبريالي الصهيوني .
تخـلف التطـور الرأسمالي العربي:
يتهكم الكتاب الغربيون على العرب بأنهم قبائل تحت أعلام وطنية، يقولون إن المنطق كان يقضي بأن يكون العرب في حقبة النفط أقوى مما كانوا قبلها، لكن الواقع يؤكد أنهم أصبحوا في غاية الضعف، فبقايا القبائل لم يصبحوا بعد أمة واحدة، فقد تزايدت درجات التخلف وتفاقمت التبعية والخضوع للنظام الراسمالي الامبريالي العالمي، وأعيد انتاج التخلف من جديد حيث بات النفط واصحابه من مشايخ الخليج والسعودية لعنة على شعوبنا ومجتمعاتنا عززت التخلف واعاقة تطور مجتمعاتنا العربية وذلك بتحالفها المشين مع الصهاينة والامريكان.
على أي حال ، في هذا الجانب يقول المفكر الراحل د.فؤاد مرسي : صحيح أن العرب لم يشكلوا بعد أمة واحدة لكن إرادة التوحيد القومي والنزعة القومية عند الشعوب المقهورة ظاهرة إيجابية وتقدمية، إذ تنطوي على عنصر النضال ضد الإمبريالية من أجل التحرر الوطني، هذا النضال الذي يوقظ الوعي القومي لدى الشعوب ويساعد على قيام الأمم الحرة. ومعنى ذلك أن النزعة القومية العربية صارت تعني عملية توحيد الأمة العربية من خلال الصراع ضد الإمبريالية والتبعية الخارجية.
إن استيقاظ الحركات القومية، أعني انطلاق الحركات القومية ذات الطبيعة الرأسمالية والاتجاه لإنشاء دول مستقلة من الناحية القومية - كما يضيف المفكر الماركسي الراحل فؤاد مرسي – هي ظاهرة حديثة. وهي حديثة تماماً في العالم العربي. فالأمة مقولة تاريخية تنتمي إلى عصر محدد هو عصر الرأسمالية الصاعدة ، كما أن عملية اقتلاع الإقطاع ونمو الرأسمالية هي في الوقت نفسه عملية تشكيل الجماعات القومية في صورة أمم.
لقد كان الوطن العربي حتى سنوات قليلة "مجتمعاً قبلياً أو شبه قبلي، لم تتحول قبائله بعد إلى شعوب تنتمي إلى أوطان قطرية أي لم تنجح بعد في الارتفاع إلى مستوى التوحيد القطري." كما هو حال دويلات الخليج والسعودية واليمن وليبيا وموريتانيا. كذلك فإن معظم الدول العربية_ حتى اللحظة الراهنة ونحن في عام 2023_ لم تتخلص من مرجعياتها الطائفية والمذهبية والتراثية الرجعية والخرافية؛ كما أن معظم بلدان الوطن العربي ما زالت تعيش حالة غير مسبوقة من التبعية والخضوع للامبريالية إلى جانب اعترافها بدولة العدو الإسرائيلي مما أدى إلى تكريس حالة شديدة الخطورة من تعميق التخلف الحداثي يسبب عجزها عن تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والمواطنة ؛وعجزها في المعرفة العلمية ؛وعجزها في التقدم الصناعي وعجزها عن تحرير المرأة وتمكينها.
وإذا كانت الأقطار العربية الآن قد طورت اقتصادها على أسس رأسمالية إلاّ أنها ضمن علاقات رأسمالية تابعة ومختلطة مع بقايا الإقطاع والقبائل والعشائر والطوائف، وبالتالي فإنها مازالت مجتمعات رأسمالية مشوهة. بل إن تطورها الرأسمالي لم يصب في مجرى تطوير أسواقها الداخلية المفتتة بقدر ما ربطها أكثر من ذي قبل بالسوق الرأسمالية العالمية. ولذلك _ كما يؤكد د.فؤاد مرسي_ تخلفت عملية تكوين السوق القومية العربية حتى الآن، وتخلفت القضية القومية العربية بأسرها. ولم تعد قضية الهوية العربية مطروحة فقط من منطلق القومية بل أصحبت مطروحة أيضاً من منطلق الدين.
أخيراً لا بد من التأكيد بوضوح شديد: إذا كانت المرحلة الرأسمالية قد فشلت في قيام الأمة العربية الواحدة ؛ فإن هذا الهدف التاريخي لن يتحقق إلا في ظل الإشتراكية.وإن جدلية التطور _بتعبير د. فؤاد مرسي _ سوف تلقي على عاتق الإشتراكية مهمة استكمال بناء الأمة العربية. فهذه المهمة مثلها مثل بقية مهام الثورة الوطنية الديمقراطية العربية قد عجزت الرأسمالية عن إنجازها.