اصطياد مصر بشبكة صندوق النقد الدولي


محمود محمد ياسين
2023 / 2 / 19 - 00:51     

توطئة
هذا المقال، الذى يجئ لإعطاء صورة مجملة لهيكل المديونية المصرية، تمليه ضرورة إلقاء مزيد من الضوء على الأزمة الاقتصادية التي تمر بها مصر والتي قد تحض نظام الحكم العسكري الحاكم على نقلها للسودان كما ذكرنا في مقال سابق بعنوان ” المبادرتان المصرية والاثيوبية ودعم التدخل الخارجي في السودان“؛ والذي يرجح احتمال تصدير هذه الازمة للسودان هو العلاقة التأريخية المختلة بين البلدين التي تميزت بعلاقات اقتصادية وتجارية غير متكافئة تصب في مصلحة مصر، وهى علاقة يدعم رسوخها وجود عسكري/ استخباراتي واسع في السودان.

عندما نتحدث عن ازمة المديونية المصرية، فيتوجب علينا النظر اليها كتعبير عن المصاعب الاقتصادية التي ما فتئت تجرها الهيمنة الاقتصادية للبلدان الامبريالية على البلدان الفقيرة؛ فأزمة المديونية هي شكل من اشكال تلك المصاعب. وتفاقم مديونية مصر تحت الحكم العسكري، التي حولت البلاد لأكبر زبون لصندوق النقد الدولي بعد الأرجنتين، تكشف عن أزمة اقتصادية عميقة تتمثل في ان المديونية مفروضة فرضا على الدول الفقيرة لإخضاعها من قبل الدول الامبريالية والهيمنة عليها بغرض استغلالها وتهب ثرواتها. فالدول الفقيرة أصبحت الملاذ الذى تصدر اليه الدول الاستعمارية ازماتها الاقتصادية عن طريق القروض الصادرة من مؤسساتها المالية (مثل مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والبنوك الخاصة، والمستثمرين والمضاربين في سوق الأوراق المالية.)

ومن ناحية أخرى فان عملية تسهيل تغلغل المؤسسات التمويلية في الاقتصادات الفقيرة وترسيخ سياسة الاعتماد على القروض تقوم بها أنظمة حاكمة تعمل كوسيط لراس المال العالمي من خلال سيطرتها الكاملة على سلطة الدولة السياسية وبالتالي احتكار القرار الاقتصادي. فالاقتراض الذى تعتمد عليه الدول الفقيرة في تسيير اقتصادها يجعل التحليل الاقتصادي في يد المنظمات الدائنة وما على المدينيين، كأمر لا يقبل الجدل، الا الانصياع لنتائجه التي تخدم مصالحها في نهاية الأمر.

ان سداد القروض والمكاسب الاقتصادية الأخرى التي تجنيها الدول الاستعمارية من هيمنتها على الدول الفقيرة تتلخص في أن الأموال التي تتنقل سنويا من الدول الفقيرة الى الدول الغنية تبلغ اكثر من 500 مليار دولار سنويا.

المقال
يبلغ الدين الحكومي الخارجي المصري 166 مليار دولار يعادل (35%) من الدخل القومي المصري المقدر بحوالي 470 مليار دولار؛ اما الدين الداخلي، الذى يشمل القروض والتسهيلات الائتمانية المقدمة من البنوك المصرية للقطاع الخاص، يقدر ب 390 مليار دولار يعادل (83%) من الدخل القومي. ونسبة أجمالي الدين (556 مليار دولار) للدخل القومي المصري (118%). وهذا يفوق الحدود الآمنة للدين التي تقدر ب 55% (في المتوسط) على حسب تصنيفات العالمية (صندوق النقد الدولي والدول الأوربية).

وهكذا فان مصر تتعرض لضغوط كبيرة من ناحية التزاماتها الخاصة بخدمة الدين الأمر الذى يضعها في موقف صعب بخصوص سداد ديونها في الأعوام القريبة القادمة، ويزيد حدوث هذه الضغوط سريعا أن نسبة كبيرة من المديونية تشكلها القروض قصيرة الاجل التي يبلغ مقدارها ما يعدل 167 مليار دولار ( (30%) من أجمالي المديونية. وأخيرا، فانه نتيجة لتعويم العملة (الجنيه المصري) الجاري حدوثه في مصر باطراد ليكون تعويما كاملا كشرط من شروط صندوق النقد الدولي، فان قيمة سداد الديون -المقومة بالعملة الصعبة- بما يعادل العملة المحلية ترتفع ارتفاعا كبيرا للغاية.

كذلك فان البيع المحموم الحالي لأصول الدولة المصرية يقدم دليلا أكيدا على فداحة التدهور الاقتصادي للبلاد. ان النظام العسكري في مصر يقوم حاليا ببيع أصول الدولة التي تشمل الشركات الكبرى والبنوك الرئيسية وحتى الأماكن والمشروعات السياحية، وذلك لمقابلة الاستحقاقات المالية المتزايدة. ولكى تغل الحكومة يد المواطن عن اللجوء للقضاء للحفاظ على مقدرات بلاده، فقد جرى مؤخرا تحصين عقود بيع أصول الدولة من الطعن اذ قضت المحكمة الدستورية العليا في مصر في يناير 2023 برفض الطعن في عقود بيع الحكومة لممتلكات الدولة بموجب قانون أصدره الرئيس المصري، الجنرال السيسي في 2014 يمنع أي احد، غير طرفي التعاقد (الحكومة والمشترى) من الطعن في بيع المؤسسات العامة؛ وهكذا، فان قرار المحكمة الدستورية يصب في مصلحة المستثمرين وخاصة الأجانب الذين يتوقع أن يمثلوا غالبية المشترين الفعليين أو المتوقعين للشركات المملوكة للدولة.

وبعد توقيعه مع مصر اتفاقية لتمويلها بقيمة 3 مليارات دولار في ديسمبر 2022، طلب صندوق النقد الدولي من الدولتين الخليجيتين (الامارات والسعودية) - التي وصفها (الصندوق) بحلفاء مصر الاستراتيجيين- تقديم تمويل لمصر في حدود 14 مليار دولار لتغطية جزء من فجوة التمويل الخارجي المتبقية، التي تواجه البلاد، المقدرة ب 17 مليار الدولار. فبالإضافة لبيع الأصول التي تمتلكها الدولة، يتوقع أن تقوم مؤسسات البنك الدولي والبنك الآسيوي للاستثمار وبنك التنمية الأفريقي وبنك التنمية الصيني بإكمال سد الجوة التمويلية.

وطلب الصندوق من النظام المصري رفع الدعم عن الطاقة وفرض ضرائب جديدة (مثل الضرائب على التجارة الإلكترونية واستخدام الإنترنت) والبدء في ابعاد الجيش عن الاقتصاد بزعم تمكين القطاع الخاص من المنافسة، الخ؛ وهى شروط الصندوق المعهودة. وجدير بالملاحظة أن الصندوق شدد على الطلب من مصر التخلص من الشركات المملوكة للجيش؛ لكن فان هذا الطلب يتوافق مع ما جاء في تقرير الصندوق في 10 يناير 2023، الذى اعلن فيه قرضه الأخير لمصر، بأن البيع المزمع لأصول مملوكة للدولة يقع ضمن مقابلة الفجوة التمويلية- والمؤسسات المملوكة للجيش تمثل أكثر اغراء للمشترين لأهميتها في الاقتصاد الوطني وجدواها من ناحية الربحية (حتى بدون الميزات الخاصة التي تقدمها لها الدولة).

ان المديونية الخارجية العالية والشروط التي فرضها صندوق النقد الدولي على مصر، كالتعويم المتعاظم للجنيه المصري، أثرت على الإنتاج الذى زادت تكاليفه وعلى حياة الموطنين الذين صاروا يكتوون بنار الغلاء الطاحن والبطالة. ويمتد الأثر السلبى للمديونية ليفرض مزيدا من إعاقة النمو الاقتصادي في مصر الذى يتسبب فيه أصلا وضعها كبلاد تابعة. فالمديونية الحالية (الخارجية والمحلية) تمتص تقريبا كل قيمة الدخل القومي، وأن سداد الديون (تقدر خدمة الدين للعام المالي 2023/2024 ب 17.6 مليار دولار). وترميم الفجوة التمويلية الناشئة سيكون الشغل الشاغل للمسئولين وان الانكماش الاقتصادي سيجعلهم غير قادرين على استخدام الموارد المحلية لتحقيق النمو الاقتصادي.

ويواصل صندوق النقد الدولي جر مصر الى الهاوية بدفعها للاقتراض المفرط ما جعلها تدور في دائرة مفرغة (vicious circle) : قروض ومزيد من القروض لسداد القروض المستحقة الدفع. فالصندوق يصب جل اهتمامه في أن تكون قروضه حافزا لحصول الدولة المقترضة قروضا إضافية من جهات أخرى. و روشتتات الصندوق الخاصة بالسياسات الاقتصادية كشروط لقروضه ، كمخطط (blue-print-) يطبق على كل الدول غض النظر عن ظروفها الخاصة، لا تؤدى الى زيادة النمو الاقتصادي، فمثلا تعويم العملة في الدول الفقيرة (تخفيضها فعليا مقابل العملات الصعبة) لا يؤدى الى زيادة الصادرات، كما هو متوقع نتيجة لتخفيض العملة، وبالتالي الحد من عجز الميزان التجاري وتحفيز الاقتصاد. فتخفيض سعر صرف عملة الدولة الفقيرة يؤدى الى ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج الذى ينعكس على أسعار المنتجات النهائية بحيث تكون اسعارها النهائية مرتفعة الامر الذى يقلل الطلب عليها .