الديالكتيكك الماركسي

جون مولينو
2023 / 2 / 16 - 22:32     


نشر المقال في مدونة الكاتب بتاريخ 14 آذار/مارس عام 2007

لم تكن نقطة انطلاق الماركسية فلسفة مجردة إنما تصميماً على تغيير العالم وتحديد الطبقة العاملة، وبواسطتها، كعامل التغيير. مع ذلك، من نقطة الانطلاق هذه، طور ماركس بسرعة كبيرة، نظرة فلسفية متماسكة بنيت على كل الفلسفة السابقة وتجاوزتها. عادة تسمى هذه النظرة المادية الديالكتيكية (على الرغم من أن ماركس نفسه لم يستعمل هذا المصطلح).

إنها مادية لناحية أنها تؤكد الوجود الموضوعي للعالم المادي وأولوية المادة على العقل، لناحية، بشكل أساسي، أن الظروف المادية للحياة هي التي تشكل الوعي الإنساني والأفكار بدلاً من الفكرة القائلة إن الأفكار هي التي تحدد الظروف المادية. ولكن الأمر ليس على الإطلاق كناية عن مادية ميكانيكية أو حتمية قدرية تتعاطى مع تاريخ البشرية على أنه يعمل مثل الساعة ويصل نحو نتيجة محددة بشكل مسبق. بدلاً من ذلك، تكون جدلية لأنها تتعامل دائماً مع التفاعلات والتناقضات المعقدة.


الديالكتيك هو مصطلح فلسفي قديم يعود إلى اليونان القديمة حيث يعني أنه يمكن الوصول إلى الحقيقة من خلال الحوار، واشتباك الحجج المتعارضة. في نهاية القرن الثامن عشر، استلهم هيغل من الثورة الفرنسية، فاستعمل طريقة ديالكتيكية متقدمة جداً لمحاولة سرد التاريخ الكامل للوعي الإنساني والتفكير الذي يتطور من خلال التناقضات الداخلية، ولكن بقيت ديالكتيكية هيغل محصورة في عالم الأفكار.

استعمل ماركس الديالكتيك الهيغلي وحوّله، وأعطاه أساساً مادياً. بالنسبة لماركس القوة الدافعة للتاريخ، سواء البشري أو الطبيعي، ليست صراعاً بين الأفكار أو المفاهيم المتعارضة، إنما صراعاً بين القوى المادية والاجتماعية المتعارضة.

نقطة البداية الفلسفية للديالكتيك هي أن كل شيء، كل شيء في الكون يتحرك ويتغير. وهذه حقيقة علمية مثبتة اليوم ولها آثار سياسية عميقة- فكر/ي في عدد المرات التي نسمع فيها الناس يقولون “لن يتغير هذا وذاك” أو “ستستمر العنصرية وانعدام المساواة والحكام أو أي شيء آخر”- ولكن لها كذلك تضمينات فلسفية لأن الديالكتيك هو منطق التغيير.

وهذا الأمر مهم لأن نمط التفكير المهيمن، يقوم على المنطق الذي طوره أرسطو، لا يقوم على مبدأ التغيير الشامل، إنما يتعامل مع الحالات الثابتة أو “الأشياء”. افتراضاتها الأساسية هي أن أ = أ (الشيء يساوي نفسه) وليست أ= غير أ (الشيء لا يساوي شيئاً آخر غير ذاته)، والتي يشتق منها متواليات من التفكير المنطقي تعرف بالقياس المنطقي، مثلاً:

كل الطيور يكسوها الريش

البجعة طائر

لذلك يكسو الريش البجعة

كان هذا المنطق الشكلاني، وما زال جيداً وضرورياً للغاية للشؤون الإنسانية ولكنه محدود- لأنه يستبعد التغيير. ينتقل المنطق الديالكتيكي إلى أبعد من المنطق الشكلاني من خلال البدء ليس في “الأشياء” إنما بالسيرورات، التي تعني الوجود وتجاوزه. في اللحظة التي تدخل عمليات التغيير في المعادلة، يصبح ضرورياً التعامل مع التناقض. إذا تغيرت الحالة أ (مثلاً، النهار) إلى الحالة ب (الليل)، فإنها تمر بمرحلة لا تكون فيها أ، أو تكون أ وب في الوقت عينه (الشفق).

من هذه الرؤية، طوّر ماركس وإنغلز مبادئ معينة للديالكتيك حتى تعكس (وتحلل) عمليات التغيير.

أولاً، كل “شيء” أو “حالة” موجود هو في الوقت عينه وحدة وصراع بين الأضداد، أي توازن مؤقت أو لحظة توازن بين القوى التي أوجدت تلك الحالة إلى الوجود وتحافظ عليها والقوى التي ستحدث انحلالها أو تحولها.



ثانياً، تتضمن كل سيرورة تغيير تراكماً للتغييرات التدريجية أو الكمية داخل حالة قائمة، والتي تتحول عند نقطة معينة إلى تغيير نوعي بحيث تتحول فيه طبيعة الحالة.

ثالثاً، ضمن كل سيرورة تغيير إن القوة “السلبية” أو الثورية التي تحدث التغيير هي ذاتها تتحول أو “تُنفى” بحيث تظهر حالة جديدة، وحدة جديدة من الأضداد (أطلق إنغلز على ذلك عبارة “نفي النفي”).

من الواضح، أن كل هذا الأمر يبدو مجرداً جداً، ولكنه في الواقع هو مفيد للغاية لتحليل سيرورات التغيير الاجتماعي والتأثير بها. إن نظرية ماركس للتاريخ هي بمجملها مثال على الديالكتيك التطبيقي. يتكون التاريخ من سلسلة من أنماط الانتاج (المجتمع القديم، الإقطاع، الرأسمالية…) وقد يستمر كل واحد منها طيلة قرون، ويبدو ظاهرياً شديد الاستقرار، ولكن هو في الواقع وحدة من الأضداد، وتوازن بين قوى وعلاقات الانتاج والطبقات المتنازعة. إن التغييرات الكمية التدريجية في قوى الانتاج تجعلها تتعارض مع علاقات الانتاج، ويتحول توازن الصراع الطبقي إلى النقطة التي تؤدي إلى اندلاع الثورة. فقد أطيح بالنظام القديم وظهر شكل جديد من أشكال المجتمع.

مثال آخر هو ردة فعل لينين على الحرب العالمية الأولى. انصدم لينين بشدة بسبب دعم الحرب من قبل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني وسواه من الأحزاب الاشتراكية الأوروبية، أعاد لينين قراءة هيغل. من ثم لعبت دراسته للديالكتيك الهيغلي دوراً أساسياً في تحليل الإمبريالية (الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية) بحيث أظهر أن الرأسمالية قد دخلت حقبة جديدة بحيث اشتدت تناقضات النظام وقادت مباشرة إلى الحرب. إن إدراك لينين العميق للتناقضات الديالكتيكية كان واضحاً للغاية كذلك في دعمه لحركات التحرر الوطني ضد الامبريالية. لقد كان أممياً ولكنه عرف أن الطريق إلى الوحدة الأممية للعمال يكمن في النضال ضد الاضطهاد القومي.

لكن الديالكتيك ليس لمنظّري الحركة العظماء. إنه مفيد جداً لكل نقابي ومناضل سياسي عليه التعامل مع ديناميات الإضراب أو الحملة، مع تقلبات ومنعطفات سريعة ولحظات حاسمة عندما يكون احتمال النصر أو الهزيمة متساويين وعلى كل عامل اشتراكي التعامل مع ذلك، على أساس يومي مع وعي زملائه/زميلاته العمال/العاملات، كذلك فإن الوعي يتطور بشكل ديالكتيكي، أي عبر التناقضات.

ينبغي توضيح نقطة أخيرة، لأنها عادة ما تكون غير مفهومة. يعكس الديالكتيك ويعبر عن منطق التغيير الطبيعي والاجتماعي ولكنه ليس مفتاحاً سحرياً للتاريخ. الديالكتيك في حد ذاته لا يمكن أن يثبت أن أي تغيير معين قد حصل أو سيحصل. وحده التحليل الديالكتيكي للعالم الحقيقي يمكنه فعل ذلك. وكما هي الماركسية، إن الديالكتيك ليس عقيدة إنما دليل للعمل.