التعليم وتطور الحركة الطلابية (1)


تاج السر عثمان
2023 / 2 / 16 - 22:13     

تابعنا في دراسة سابقة تطور التعليم الحديث في السودان الذي بدأت بذوره في فترة الحكم التركي وتوقف في قترة المهدية، ليواصل توسعه في فترة الاستعمار البريطاني ، وبعد الاستقلال ، وخلصنا الي ضرورة :
إعادة تأهيل نظام التعليم باعتباره استثمار مستقبلي وركيزة مهمة لنهضة البلاد، مما يتطلب ديمقراطية ومجانية والزامية التعليم العام فعلا لاقولا، وتوفيره لكل مناطق السودان غض النظر عن النوع أوالعرق أو الدين أو الثقافة ، ومحو الأمية، وتوفير مقومات التعليم الأساسية : المباني الصالحة للدراسة ، المعامل ، المناهج القومية المرتبطة باحتياجات البلاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، المعلم المؤهل والمستقر ماديا ، والمدرسة الشاملة التي تلبي احتياجات التلاميذ الأكاديمية والثقافية والرياضية والفنية ، وتوفير المكتبات المدرسية التي تشجع التلاميذ على الدراسة من المهد إلى اللحد . وهذا يتطلب رفع ميزانية التعليم وإعادة النظر في خصخصة التعليم العام ومحاربة طريقة الحشو والتلقين الحالية التي تقتل روح التفكير الناقد ،والخلق والإبداع المستقل عند التلاميذ ، ورفع نسبة التعليم الفني في التعليم العام ، وضرورة المدرسة الشاملة التي تجمع بين التعليم الأكاديمي والفني. الخ. وفي التعليم العالي : فتحت حكومة الإنقاذ جامعات وكليات كثيرة دون توفير مقومات التعليم العالي : أساتذة مؤهلين ، مكتبات ، قاعات ،معامل ، مراجع ، ميادين رياضية وقاعات للمناشط الثقافية والاجتماعية. الخ . وهذا يتطلب معالجة هذه المشاكل حتى يرتبط التعليم باحتياجات البلاد التنموية.
كان نهوض الحركة الطلابية الحديثة مرتبطا بتطور التعليم والحركة الوطنية ، نتابع في هذه الحلقات ذلك التطور والدور الذي لعبته في الحركة الوطنية والسياسية والثقافية.
1- الحركة الطلابية في فترة الاستعمار البريطاني ( 1898- 1956)
شهدت هذه الفترة تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية قيام مشاريع القطن في مناطق الجزيرة والقاش وطوكر والنيلين الأبيض والأزرق وجبال النوبا، وقيام السكك الحديدية والنقل النهري، وتطورت المدن وزادت الهجرة من الريف اليها بحثا عن العمل ، وقيام الجمعيات الأدبية والأندية الرياضية والاجتماعية ، والأحزاب السياسية والنقابات ،والتوسيع في التعليم المدني الحديث لتلبية احتياجات جهاز الدولة الاستعماري من الموظفين والإداريين والفنيين والعاملين والكتبة كما اشرنا سابقا، اضافة الي نهوض الحركة الوطنية ضد الاستعمار.
انطلاقا من ذلك ،كانت نشأة الحركة الطلابية الحديثة في ارتباط لا انفصام له مع نهوض الحركة الوطنية التي انبلج فجرها بقيام نادى الخريجين وتكوين حمعية الاتحاد السوداني وجمعية اللواء الأبيض وانفجار ثورة 1924. نلحظ ذلك في الدور البارز لاشتراك الطلاب فيها ، سواء كان من خلال انضمام بعض الطلاب لعضوية اللواء الأبيض أو الاشتراك في المظاهرات التي ساهم فيها طلاب كلية غردون والمدرسة الحربية، هذا فضلا أن الرموز البارزة لقادة ثورة 1924 كانوا من خريجي كلية غردون أو المدرسة الحربية مثل : عرفات محمد عبد الله ، علي عبد اللطيف ، خليل فرح ، زين العابدين عبد التام، عبيد حاج الأمين . الخ.
يؤكد ذلك ماورد في كتاب محمد عمر بشير تاريخ الحركة الوطنية : " أنه في عينة مكونة من 104 من عضوية اللواء الأبيض كانت تضم 4 من الطلاب، وكذلك نشير لمظاهرات 25 /6/ 1924 في أمدرمان ومظاهرات 26 /6/1924 في الخرطوم اشترك فيها الطلاب من كلية غردون، ونشير أيضا الي مظاهرة طلبة الكلية الحربية في الخرطوم 8 /أغسطس/ 1924 والتي كانت من نتائجها اعتقال أحد عشر فردا من قادة طلاب المدرسة الحربية، وأُحتجز الباقون في منازلهم وحددت إقامة كل منهم" ( محمد عمر بشير، تاريخ الحركة الوطنية، ترجمة هنر رياض وآخرون 1987 ، ص 106- 108 ).
تعرض الطلاب مع قادة ثورة 1924 بعد انحسار الثورة للقمع والسجن والفصل من الكلية، وتم اغلاق المدرسة الحربية وكلية غردون بعد أحداث الثورة.
رغم حالة الإرهاب داخل الكلية والارهاب العام الذي ساد البلاد بعد فشل ثورة 1924 ، نرى أن طلاب كلية غردون يكسرون حاجز الإرهاب والخوف ويعبرون عن استمرار واتقاد جذوة الثورة والوطنية السودانية وسط الخريجين باضرابهم الشهير عام 1931 احتجاجا علي تخفيض أجور الخريجين بعد الأزمة الاقتصادية الرأسمالية عام 1929، الذي تجاوب معه الخريجون والمجتمع مما اجبر الحكومة علي التراجع النسبي، وكان الاضراب معلما بارزا في نضال حركة الطلاب والخريجين ضد الانجليز ، ولأول مرة بعد ثورة 1924 يفاجأ الانجليز بأن جذوة الوطنية ما زالت متقدة في نفوس الطلاب والمتعلمين.
رغم القمع والارهاب ومحاصرة الطلاب ثقافيا بالمناهج العقيمة في كلية غردون ، الا أن بعض الطلاب استطاعوا أن يكسروا حاجز العزلة ، واستطاعوا أن ينهلوا من الثقافة الغربية والادب العربي والتراث الإسلامي. كما استطاع بعض الطلاب الهروب الي مصر لمواصلة تعليمهم الجامعي ، واسهم بعض الطلاب في الجمعيات الأدبية والفكرية، والأنشطة الرياضية والثقافية التي كانت تدور داخل الكلية وخارجها ، وساهموا في النشاط الثقافي والمسرحي خارج محيط الكلية في الأندية الثقافية والرياضية وأندية الخريجين، وفي النشاط الثقافي والمسرحي والخيري وبناء المدارس الذي كان يقيمه مؤتمر الخريجين ، بالتالي وضعوا الأساس المتين للتفاعل بين الطلاب والمجتمع.
2
النهوض الآخر للحركة الطلابية في هذه الفترة ارتبط بتصاعد الحركة الوطنية بعد قيام مؤتمر الخريجين عام 1938 ، والأحزاب السياسية بعد الحرب العالمية الثانية، فقد حدث تطور في التعليم العالي بقيام كلية الطب عام ،1924 ، معهد بخت الرضا عام 1934 ، ومدارس عليا للزراعة والطب البيطري عام 1938 ، وكلية الهندسة والعلوم 1939 ، كلية الآداب عام 1945، وفي عام 1946 تم تحويل كلية غردون الي كلية جامعية التي تحولت عام 1956 الي جامعة الخرطوم ، وانتقلت الأقسام الثانوية إلي مدارس وادي سيدنا وحنتوب ، وبعدها قامت مدرسة خور طقت ، والمدارس الثانوية في الخرطوم وعطبرة ومدني وبورتسودان . وبقية المدن، وقامت المدارس الصناعية ، والمعهد الفنى، ومدرسة الغابات ، وتم انشاء معهد شمبات الزراعي عام 1954 ، ومعهد التدريب البيطري والتدريب الحيواني بحلة كوكو، وفي عام 1951 ، وفي عام 1955 تم انشاء جامعة القاهرة فرع الخرطوم التي كانت تضم كليات التجارة والحقوق والآداب.
تلك هي صورة التعليم العالي والثانوى عندما اندلعت الحركة الطلابية من جديد بعد الحرب العالمية الثانية.
في عام 1939 تم تكوين الجمعية الأدبية في كلية غردون ، والتي تطورت في عام 1940 الي تأسيس اتحاد لطلاب المدارس العليا ، وتمّ تكوين أول لجنة تنفيذية له من: أحمد خير رئيسا ، ومبارك زروق نائبا للرئيس ، وعبد المجيد امام سكرتيرا" محمد عمر بشير مرجع سابق، ص 220" . وأصدر الطلاب الصحف الحائطية التي اهتمت بقضايا الأدب في بداية أمرها ، ثم تحولت مع تصاعد النشاط السياسي بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها إلي القضايا السياسية .
شهد عام 1945 أول عمل سياسي طلابي ، وذلك عندما قام طلبة كلية غردون بتعليق منشورات معادية للوجود الاستعماري " " محمد سعيد القدال : تاريخ السودان الحديث ، القاهرة 1993 ، ص 351".
في عام 1946 خرجت مظاهرة للطلاب التي كانت أول مظاهرة في السودان بعد مظاهرات ثورة 1924 ، وكانت أهم سماتها أنها سلمية ، أي لا تردد هتافات ، بل تحمل لافتات تعبر عن الاحتجاج علي مجزرة كبرى عباس والتي راح ضحيتها عدد من الطلاب والعمال المصريين ، وشارك في المظاهرة جميع طلبة الكليات آنذاك : الطب ، البيطرة ، الهندسة ، الزراعة ، الحقوق ، الآداب " مذكرات عباس علي ، مجلة الشيوعي العدد 152".
في نوفمبر 1946 اشتد نشاط الطلبة وشاركوا في مظاهرة توديع وفد السودان الي مصر ، كما كان يرسل اتحاد الطلاب البرقيات الي الحاكم العام والي دولتي الحكم الثنائي وهيئة الأمم المتحدة مطالبة بحق تقرير المصير ، مما أدي لحل اتحاد الطلاب في أواخر عام 1946.
في الفترة (1945 – 1946) كانت مجموعات حزب الأشقاء تسيطر علي اللجنة التنفيذية لاتحاد الطلاب ، وفي الأعوام 1947، 1948، 1949، كانت السيطرة الغالبة في الاتحاد لمجموعة الحركة السودانية للتحرر الوطني، وكان أثر الفكر الماركسي جاذبا وغالبا وسط الطلاب.
بعد حل اتحاد الطلاب في أواخر 1946 تكونت في أوائل عام 1947 جمعية باسم " رابطة الزمالة الثقافية" وكانت تباشر أعمالها بطريقة سرية ، وكان سكرتيرها عباس علي" مذكرات عباس علي مرجع سابق".
في عام 1948 بعد انتزاع الاتحاد ، لعبت لجنة الاتحاد دورا كبيرا في مقاومة الجمعية التشريعية، وكان دورها يتلخص في الآتي: أ- الضغط علي حزب الأشقاء والأحزاب الاتحادية لتكون أكثر ايجابية ، ب - السيطرة علي الهتافات في المظاهرات التي يدعو لها مؤتمر الخريجين ، وتحويلها من وحدة وادي النيل الي الكفاح المشترك بين الشعبين المصري والسوداني ، والجلاء وحق تقرير المصير للشعب السوداني، وسقوط الجمعية التشريعية،ج – ارسال البرقيات الي الحاكم العام ومجلسه ، والي مجلس الوزراء ، والي هيئة الأمم المتحدة. وكان من أبرز قيادات اتحاد المدارس العليا : محمد سعيد معروف، أحمد عثمان وني، محمد عمر بشير ، عباس عبد المجيد ، طه أحمد بعشر، عبد القادر مشعال ، مصطفي السيد ، ومحجوب محمد صالح..الخ.
في عام ( 1945 – 1946) انفجرت مظاهرات طلاب الثانويات ، وكان من نتائج ذلك أن قام عام 1946 الاتحاد العام لطلاب المدارس الثانوية، وأسهم في تكوينه : كامل محجوب ، الطاهر عبد الباسط ، شاكر مرسال ، محمد أحمد قاسم، حسين عثمان منصور ، عبد الرحمن البلك ، عبد الكريم مهدي، وعبد العزيز الأمين، وغيرهم تكونت أول قيادة للاتحاد " مذكرات كامل محجوب ، تلك الأيام ، الجزء الأول".
تزامن مع اندلاع مظاهرات الطلاب عام 1946 ضد الاستعمار ، والتي كانت أول مظاهرات بعد ثورة 1924 ، قيام فروع للحركة السودانية للتحرر الوطني(الحزب الشيوعي فيما بعد) في المدارس العليا والثانوية والمدارس المصرية والكلية القبطية والكمبوني، وفي الجامعات المصرية، وطرحت الحركة السودانية شعار الجلاء وحق تقرير المصير للشعب السوداني والكفاح المشترك بين الشعبين المصري والسوداني ضد الاستعمار ، كبديل لشعار الاتحاديين وحدة وادي النيل تحت التاج المصري ، وشعار الأحزاب الاستقلالية، السودان للسودانيين تحت التاج البريطاني، وقامت رابطة الطلبة الشيوعيين عام 1949 ، ومؤتمر الطلبة 1949 ، والجبهة الديمقراطية كتحالف ثابت بين الشيوعيين والديمقراطيين في نوفمبر 1953 ، كما قامت تنظيمات الأشقاء ( الاتحاديين)، وتنظيم المستقلين، وفي نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات ظهر تنظيم الإخوان المسلمين كرد فعل للنشاط الشيوعي الذي كان غالبا علي الحركة الطلابية. وفي عام 1949 قامت مجموعة من الطلاب بقيادة بابكر كرار بتكوين حركة التحرير الإسلامي ، وذلك تعبيرا عن رفضهم للحركة الشيوعية التي كانت مسيطرة علي النشاط الطلابي، واعتمد الإخوان المسلمين العنف والارهاب بديلا للحوار والصراع الفكري العلمي المؤسس علي المنطق والاقناع.
تجلت القاعدة الذهبية والطبيعة الديمقراطية للحركة الطلابية وهي ارتباطها بالنهوض الجماهيري ضد الاستعمار إسوة بنهوض التنظيمات الجماهيرية الأخري مثل: نهوض مزارعي الجزيرة في معركة مال الاحتياطي عام 1944 ، وعمال السكة الحديد في عطبرة عام 1946 من أجل تنظيمهم النقابي " هيئة شؤون العمال"، وكذلك قامت اتحادات الطلاب للمدارس الثانوية والعليا في خضم النضال والمظاهرات ضد الاستعمار ، واستطاع الطلاب انتزاع حق العمل السياسي والاتحادات من براثن الإدارة الاستعمارية، وكانت تلك نقطة تحول مهمة في تطور الحركة الطلابية.
أكدت الحركة الطلابية وجودها المستقل واتحاداتها المستقلة عن الإدارة الاستعمارية ، وتم رفض الدعاوى من الإدارة الاستعمارية مع القوى الرجعية بضرورة ابتعاد الطلاب عن السياسة ، والتركيز علي دروسهم ، لكن التجربة اكدت أن العمل السياسي لم يكن عائقا في التحصيل الأكاديمي ، وهزم الطلاب تلك الدعاوى.
كما أشرنا سابقا ، قاومت الحركة الطلابية الجمعية التشريعية، مع الشيوعيين والاتحاديين الذين رفضوا المشاركة فيها ، وشارك فيها حزب الأمة والإدارات الأهلية، والتي كان الهدف منها قطع الطريق امام النهوض الجماهيري ، وتعطيل استقلال البلاد، وتعرض قادة الطلاب من الشيوعيين والديمقراطيين والاشقاء للفصل والتشريد من المدارس العليا والثانوية، وساهم الطلاب من خلال اتحاداتهم في توحيد الحركة الوطنية وأحزاب المعارضة، وتضامنوا مع اضرابات العمال والمزارعين والبوليس والفنانين والمعلمين من اجل حقوقهم، وتضامن اتحاد العمال مع الطلاب ضد الفصل والتشريد مثل : تشريد 119 طالب من مدرسة خور طقت عام 1950 الخ. وواصل الطلاب مع الحركة الوطنية حتي تمّ تحقيق الاستقلال عام 1956.
نواصل