عصبة مكافحة الصهيونية ونقض الرواية -الإسرائيلية- 2


عبد الحسين شعبان
2023 / 2 / 16 - 11:59     

(الحلقة الثانية)


(قراؤنا الأعزاء بدأنا من يوم السبت 11/2/2023، نشر وعلى أجزاء متلاحقة، آخر إصدار/كتاب؛ للمفكر والباحث العربي العراقي عبد الحسين شعبان، الموسوم بعنوان: عصبة مكافحة الصهيونية ونقض الرواية "الإسرائيلية". هذا الكتاب الهام والصادر في يناير من العام الحالي بعدد 92 صفحة، بحجم ورق من القطع المتوسط؛ الصادر عن دار البيان العربي للطباعة والنشر والتوزيع؛ نضعه بين أيدي قرائنا آملين أن تتم الاستفادة المرجوة منه في موضوعه المحدد وعلاقته المباشرة؛ بشعار/دعوة/مبادرة/ضرورة: "اعرف عدوك" وضرورة مواجهة تجسيداته العملية إلى جانب ما يسمى: راويته التاريخية.
نوجه شكرنا الكبير وتحياتنا العالية إلى المفكر القدير عبد الحسين شعبان، على جهده الفكري والمعرفي المتواصل، وعلى خصه بوابة الهدف بنشر كتابه على أجزاء عبر موقعها الإلكتروني).



المبادرة في تأسيس العصبة
"لطالما كانت قضية فلسطين هي قضية البلاد العربية بأسرها،
فلا يمكن إذن أن نقف إلّا بجانب عرب فلسطين ونؤيدها...
ونحن إذ نتصدّى لمكافحة الصهيونية علانية وعلى رؤوس الأشهاد،
ذلك لأننا يهود ولأننا عرب بنفس الوقت"

من رسالة العصبة الموجهة إلى وزير الداخلية

لم تكن المبادرة بتأسيس "عصبة مكافحة الصهيونية" بمعزل عن سياسة الحزب الشيوعي ومواقفه إزاء القضية الفلسطينية، وذلك قبل تغيير القيادة السوفيتية رأيها وانتقالها من الدعوة إلى إقامة دولة ديمقراطية مستقلّة موحدّة في فلسطين بإنهاء صكّ الانتداب البريطاني إلى تأييد قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947، وهو الموقف الذي أثار ارتباكاً في أواسط الحركة الشيوعية واليسارية بشكل خاص ولدى الجمهور العربي بشكل عام، حيث انقلب الموقف بنسبة 180 درجة، وهو ما ظلّت الأحزاب الشيوعية العربية تعاني منه وتتراوح مواقفها بين التمسك بالماضي وبين غضّ الطرف عنه في بعض الأحيان أو تجاهله أو مسّه بالنقد على نحو خفيف باستثناءات محدودة، تلك التي ذهبت إلى نقده والدعوة إلى إعادة قراءته لتصحيح المسار والتوجّه .
وكان تأسيس العصبة يعود إلى تقدير نظري سليم قبل تغيير الموقف السوفييتي باعتبار "أن للمشكلة اليهودية جذور عميقة في النظام الاجتماعي، وهي ليست كما تبدو لمن ينظر إليها نظرة سطحية على أنها وليدة اختلاف ديني أو تمايز عنصري أو عدم ائتلاف في العادات والأخلاق..." ولطالما كانت قضية فلسطين هي "قضية البلاد العربية بأسرها، فلا يمكن إذن أن نقف إلّا بجانب عرب فلسطين ونؤيدها ..."
ولتأكيد هذا الموقف عملياً، خصوصاً بعد الدعوات التي تردّدت في الأواسط الدولية بشأن الدعوة إلى تقسيم فلسطين، وجّهت العصبة رسالة إلى ستالين أمين عام الحزب الشيوعي السوفيتي جاء فيه: " إننا نتضرّع إليكم أيها الرفيق ستالين أن تؤيّدوا قضية فلسطين عندما تطرح أمام الأمم المتحدة...لا التباس في حق شعب فلسطين العربي بالاستقلال، وقضيّتهم لا علاقة لها بمخاوف اليهود المعتدلين" وجاء فيها "إننا واثقون أن حكومتكم التي تعتمد مبادئها وسياستها الخارجية على احترام حق الشعوب في تقرير مصيرها، ستقف إلى جانب العرب في محنتهم."
ويمكن تحديد أهم ما جاء في العريضة (المذكرة) الموجّهة إلى وزير الداخلية من مطالب أساسية:
1. العداء للصهيونية عداءً صميمياً كما ورد في النص.
2. الدعوة إلى تعاون العرب واليهود على دعم قضية فلسطين.
3. منع الهجرة اليهودية.
4. إيقاف انتقال الأراضي العربية إلى أيدي الصهاينة.
5. (إقامة) دولة ديمقراطية عربية مستقلة استقلالاً تاماً.
6. ضمان حقوق المواطنين كافة عرباً ويهوداً.
إن الأساس في هذا التوجّه الإيجابي يقوم على رفض الانعزالية التي حاولت الصهيونية بثّها بين اليهود، بهدف فصل اليهود ( عن مجتمعاتهم العربية)، وبالمقابل سعي النخبة اليهودية المتقدمة والمؤمنة بمبادئ التضامن والعيش المشترك إلى الفصل بين اليهودية كدين وبين الحركة الصهيونية كحركة عنصرية رجعية، وهو الأمر الذي فات على الكثير من "القوميين"، ولاسيّما المتعصّبين الذين لم يفرقوا بين اليهود وبين الصهيونية، وظلّ مثل هذا الالتباس قائماً وشمل في الكثير من الأحيان توجّهات دينية، نظرت من موقع عدائي وكأنه صراع بين الأديان والمقصود بين الإسلام واليهودية، وهو ما حاولت الرواية الصهيونية أن تعزف عليه، باعتباره صراعاً إقصائياً إلغائياً لا يمكن حلّه، وأن اليهود محاطون بالمسلمين من كلّ حدب وصوب وهم "أغلبية" عددية على المستوى العالمي، في حين أن اليهود "أقلية".

الصهيونية وأكثر من حجر
تحاول الصهيونية أن ترمي أكثر من حجر لتصيب ذات الهدف، والمقصود بذلك إثبات صحة روايتها بشأن أحقيّتها في فلسطين، وهي دائماً تريد الترويج إلى عدد من القضايا بقصد لفت الأنظار عالمياً لتصديق روايتها من خلال ما يأتي:
أولاً – أن اليهود مهدّدون بالإبادة من جانب المسلمين ، وأن الصراع إلغائيّ إقصائيّ لا مجال إلى حلّه، في حين أن المشكلة هي اغتصاب حقوق شعب ومنعه من تقرير مصيره بطرده خارج أراضيه وإحلال مستوطنين محلّه من كلّ بقاع الأرض. أي أنه صراعٌ على الحقوق في الأرض وليس حول قيم السماء أو تعاليم الأديان.
وثانياً – الزعم بأن الصراع ديني والهدف من ذلك هو فصل المسيحيين عن المسلمين، في محاولة لمنعهم من المشاركة في النضال ضدّ الصهيونية ونظام الأبرتايد الجديد، بل والعمل على إجلائهم وتهجيرهم كي يظهر الصراع بوجهه الديني اليهودي – الإسلامي وليس بوجهه الوطني الفلسطيني العربي ضدّ سلطات الاحتلال الإسرائيلي وضدّ الصهيونية.
وثالثاً – أن الصهيونية تمثّل يهود العالم وتنطق باسمهم، وذلك بتأسيس كيانية سياسية لها تمثّل جوهر العقيدة الصهيونية والمقصود (إسرائيل) التي تأسست بقرار من الأمم المتحدة، وينبغي حمايتها، وظلّت تغزل على هذا المنوال منذ قيامها وإلى الآن، على الرغم من عدوانها المتكرّر واحتلالها للأراضي العربية وتوسّعها وتنكّرها لجميع قرارات الأمم المتحدة وما يسمّى بالشرعية الدولية وبينها القرار 242 لعام 1967 و338 لعام 1973، ناهيك عن تجاوزها على القرار 181 باحتلال كامل فلسطين وضمّها القدس الشرقية، والقرار 194 الخاص بحق العودة للّاجئين.

أهداف العصبة وأساسها القانوني
حدّدت المادة الثانية من عصبة مكافحة الصهيونية أهدافها ﺑ :
1- مكافحة الصهيونية.
2- فضح أعمالها ونواياها بين جماهير الشعب العراقي، ولاسيّما اليهود.
3- الوقوف ضدّ الصهيونية ودعايتها.
4- القضاء على النعرات الطائفية التي تمزّق الشعب العراقي.
5- خلق جو من التفاهم بين مواطني الشعب العراقي.
6- بث روح الديمقراطية بين سائر أفراد الشعب العراقي.
أما الأساس القانوني، فقد أختار مؤسّسوها والحركة الشيوعية التي تقف خلفها نقطة مفصلية في تاريخ العراق، وهي ما نطلق عليه "اللحظة الثورية" (مجازاً) أي تناسب الظرف الموضوعي مع الظرف الذاتي، خصوصاً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتشار الأفكار الديمقراطية وإبداء الأمير عبد الإله الوصي على العرش استعداد المملكة العراقية للانفتاح وذلك في خطابه يوم 27 كانون الأول / ديسمبر 1945 الذي أعلن فيه موافقته على تأسيس الأحزاب "التي لا يصحّ بقاء البلاد خاليةً منها"، الأمر الذي التقطته الوزارة التي شكّلها توفيق السويدي بتاريخ 23 شباط/ فبراير 1946 وكان لوزير الداخلية سعد صالح (جريو) دوراً مهماً على هذا الصعيد وهو القانوني والأديب القريب من الحركة الوطنية فأقدم على عدد من الخطوات الجريئة منها إجازة العصبة قانونياً بعد الاطلاع على منهاجها وانسجامها مع الدستور والقوانين والأنظمة المرعية بتشكيل الجمعيات.
وقد اتُخذ قرار إجازة العصبة في 16 آذار / مارس 1946، وسُمح لها بإصدار جريدة علنية أطلقت عليها اسم "العصبة"، وقد صدر عددها الأول في 7 نيسان (أبريل) من العام ذاته، واستمرّت في إصدار أعدادها التي وصلت إلى العدد 51، ثم توقفت عن الصدور بسبب قرار حكومي بعد استقالة وزارة توفيق السويدي.
في مؤتمرها الأول انتخبت العصبة هيئة إدارية ضمّت يهودا صديق الذي أُعدم في العام 1949 بعد أن أصبح مسؤولاً أولاً للحزب الشيوعي مع مالك سيف إثر اعتقال فهد أمين عام الحزب وكان قد ترأس هيئة الرقابة في العصبة؛
- يوسف هارون: رئيس العصبة؛
- يعقوب مير مصري: سكرتير العصبة؛
- يوسف زلوف ومسرور صالح قطان ويوسف هارون زلخا ويعقوب قوجمان : أعضاء.

وكلّفت قيادة الحزب زكي بسيم ( عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي) العلاقات والتنسيق والإشراف على العصبة، وقيادة الفراكسيون الحزبي ( المكتب الحزبي الخاص بتنظيم العصبة)، وكان للأمين العام فهد دوراً مهماً في نشاطها، بما فيها كتابة بعض افتتاحيات جريدة العصبة. وقد تمّ جمع مقالاته لاحقاً بكراس سمّي "رسائل العصبة"، وكراس آخر بعنوان: نحن نكافح من أجل من؟ وضدّ من نكافح؟ وعالج في العديد من كتاباته المشكلة الفلسطينية بفصل الصهيونية عن اليهودية وربطها بالاستعمار بما فيه الاستعمار الأمريكي الصاعد.
لم تقتصر عصبة مكافحة الصهيونية على الشباب اليهودي، بل ضمّت عدداً من الوجوه الوطنية العراقية مسلمين ومسيحين وقامت بتنظيم اجتماعات حاشدة في بغداد والبصرة بلغ عددها 22 اجتماعاً واستفادت من العمل العلني لتعبئة الرأي العام ضدّ الصهيونية ومشاريعها العنصرية.
وساهمت العصبة في كسر التردّد الذي كان ينتاب بعض أفراد المجموعة الثقافية اليهودية من المشاركة في العمل السياسي وكان من أبرز التوجهات الإيجابية التي اعتمدتها هو في الذكرى 28 لصدور وعد بلفور، فأصدرت أعلنت فيها استنكارها لوعد بلفور.
ومما جاء في البيان: " أن الاستعمار يستطيع أن يتكرّم بفلسطين مئات المرات، طالما أنها ليست بلاده وطالما أنه يجد في ذلك ربحاً له ومغنماً لأن غايته وعميلته الصهيونية هي تحويل نضال العرب الموجه ضدّ الاستعمار نحو جماهير اليهود، وبذلك تخلق منهم حاجزاً يختفي وراءه الاستعمار، ولو كان المستعمرون يعطفون حقاً على اليهود لعاملوهم معاملة طيبة في أوروبا".

كان خطاب العصبة جامعاً وموحداً ووطنياً، وقد بادرت إلى التظاهر في 28 حزيران / يونيو 1946 بدعم وتوجه من الحزب الشيوعي، وتعرّضت تلك التظاهرة إلى قسوة وقمع شديدين من جانب الأجهزة الأمنية، فسقط أول شهيد شيوعي يهودي هو شاوول طوّيق (عضو العصبة) وجُرح عدد غير قليل في هذه التظاهرة السلمية المتضامنة مع فلسطين. وعلى أثر التظاهرة اتخذت السلطات الحكومية قراراً ﺑ :
1. حظر نشاط العصبة.
2. إيقاف صحيفتها.
3. إحالة المشاركين في التظاهرة ممن ألقي القبض عليهم إلى القضاء.
وأصدرت محكمة الجزاء يوم 15 أيلول / سبتمبر 1946 قرارها بالحكم على كلّ من : يعقوب مير مصري ومسرور صالح قطان بالحبس الشديد لمدّة سنة واحدة، وعلى كل من خليل نصيف بالحبس لمدة ستة أشهر، وعلى سامي ميخائيل وعمانوئيل بطرس بالحبس البسيط لمدة ثلاثة أشهر وفقاً للمادة 89 بدلالة المواد 53 و 54 و 78 من قانون العقوبات البغدادي.
وأصدرت المحكمة حكماً بالسجن المؤبد على يوسف هارون زلخا رئيس العصبة، بزعم أنه يترأس عصبة للكفاح من أجل الصهيونية وليس ضدّها.
وكان من أبرز ما قامت به العصبة هو التنبيه إلى العدو المشترك للعرب واليهود وأهمية التضامن إزاء المخاطر المشتركة وسلّطت ضوءًا على نشاط الوكالة الصهيونية وبعض أركان الحكومة العراقية الموالية لبريطانيا، لتهجير اليهود العراقيين إلى فلسطين.
كانت مبادرة تأسيس العصبة إحدى مآثر الحزب الشيوعي وزعيمه "فهد"، إضافةً إلى الدور المتميّز للشيوعيين اليهود الذين وقفوا ضدّ الصهيونية وعارضوا منطلقاتها الفكرية وكشفوا زيفها بادعاء تمثيل اليهود بغضّ النظر عن بلدهم الأصلي وميّزوا بين الصهيونية كعقيدة عنصرية واليهودية كدين، وهو ما جاء في كتاب أوريت باشكين.
جدير بالذكر إن عدد الشيوعيين اليهود في الحزب الشيوعي العراقي كان حينها حوالي 300 عضواً كما تقول تشلسي سيمون ماي التي سلّطت ضوءًا على الشيوعيات اليهوديات اللواتي كن ملتزمات بمستقبل العراق من خلال برامج الحزب، فضلاً عن معاداتهم للصهيونية والفاشية، حيث استطاع الحزب استقطاب عدد غير قليل منهن لمواقفه من تأييد حقوق المرأة.
وحسب سجلات التحقيقات الجنائية (أجهزة الأمن العراقية) واستجوابات العديد منهن فقد برز عدداً منهن مثل: إلين يعقوب درويش ودوريس وأنيسة شاؤول ونجيّة قوجمان وسعيدة ساسون مشعل (سعاد خيري – زوجة زكي خيري) وعمومة مير مصري (عميدة مصري) ومارلين مائير عيزرا (زوجة بهاء الدين نوري) وكامن سعيدة سلمان وألبرتين منشّي وراشيل زلخا. وكانت النساء اليهوديات الشيوعيات فخورات بهويّتهن العراقية بشكل عام مثل اليهود الشيوعيين. ومثلما نشطت الحركة الشيوعية داخل الوسط اليهودي ، ولاسيّما النسوي، فقد نشطت الحركة الصهيونية على نحو واسع مستقطبةً عدداً أكبر من النساء اليهوديات، حيث بلغ عدد الناشطات نحو 600 امرأة صهيونية قبل الهجرة الجماعية (1951) كما ورد في Encyclopedia of Jewish Women .