البقائية والتحوليّه: مفهومان للحضارة والوجود/4


عبدالامير الركابي
2023 / 2 / 15 - 14:21     

ثمة نقطة او جانب غير مطروق ولا ملاحظ عقليا، يخص الحكم على الصيرورة البشرية والحياتيه، ومساراتها وافقها، الكائن البشري، الانسايوان مايزال ازاءها في الطور الطفولي السابق على وعي الذات، بمعنى اعتماد الذاتيه المستقلة بازاء الطبيعة والزمن، فالكائن البشري الذي نعرفه و نعيشه الى اليوم، هو الكائن في المهد، او الذي بالكاد وضع خطواته الاولى على الارض، وهو عند هذا الطور من الوعي، يعيش موضوعا لسواه، ولمن يقوم على رعايته وتربيته، ليس له من مقومات الانفصال والاستقلال الذاتي والكينونة، بمايجعل منه طرفا مكتملا فاعلا بذاته، ويدخل هنا عامل يكرس الحالة المنوه عنها، يخص الاسبقية التي يحظى بها عنصرا الزمن والطبيعه، باعتبارهما الحيز الذي يولد فيه الكائن الحي، الامر الذي لايمنع احتمالية تحوله في وقت لاحق، الى ذات فاعله مستقله اضافية، مع الاخذ بالاعتبار العوامل والخاصيات المختلفة التي يتمتع بها، مقارنه ببقية عناصر الوجود الاساسية.
هنا يتوجب البحث عن الكائن البشري الحي، وعن اشتراطات وجوده ومقومات تصيّره، لابصفته عنصرا مستجدا وجد لكي "يعمر الارض" هذا المفهوم البدائي، الموافق لطفولة وبدائية الكائن الحي، فالارض بالاحرى هي التي توجد وتعمر الكائن المذكور، الذي لاانفصال له عنها، وهي التي افرزته من داخلها ومن بين احشائها، واعتنت بوجوده، ورعت سيرورته وتحولاتها الحيوانيه، وصولا الى الكائن المنتصب على قدمين، والذي يستعمل يديه، وفي كل هذا المسار على مدى ملايين السنين، ماكان هو حاضرا او يتوفر على اي حد من التدخلية والحضور الفعال المتعلق بوجوده ومصيره، فظل مرهونا لمن ولدته ورعت نشوئيته، في حين ظلت هي تتغير وتتحول بما يوافق ارتقائه، مقدمه بحضورها الحي ومستجداته، مايوافق ويدفع سيرورته وتصيره، الى ان صار بالازدواج العقل/ جسدي، كائنا منطويا على اسباب الاستقلال والحضور، بما ينتج عنه نوع فعل موصول بالاكوان العليا، لابمجرد كوكب لايكاد يرى بالعين المجردة.
وكل هذا ومايمكن ان يكمن خلفه من بعد تجري مقابلته بقائيا بالعبثية واللامعنى الطفولي، بالتصور ان مثل هذا النوع من الحضور بمواصفاته المختلفة عن الزمن والطبيعه، وكونه حصيلتهما المركزه، موجود ارضويا وحسب، يعيش سنواته ويموت مجمدا خارج منطق ووحدة التحولية الكونية، ومن دون افاقها الهائلة، وكانه ظاهرة للتسلي الكوني، لاحقيقة مرهونه الى غاية عليا مترابطة مع غيرها، والى موجبات التحول والفعالية الملائمه لتعقيد الوجود ،وضخامته التي لاتحد. ولا يجدي هنا حتى الافتراق الراهن، وبعده المغاير كما الحال مثلا في تجليات التعبيرية الكونية اللاارضوية، وكيفية انغراسها المخالف لماهو معروف لدى اولئك الذي يداعبون لعبهم وهم في المهد، او غادروه قبل بضعة شهور.
ولكم يحضرهنا بقوة، الميل للاعتباطية والاختزال، بحيث يطرد غالبا الجانب الحري بالتوقف لصالح النتائج ومايتحقق عند نهاية المطاف، وعلى سبيل المثال، فان العقل الاعتباطي لم يحدث ان وضعنا امام صورة مثل تلك التي يمثلها النبي ابراهيم، حامل المنظور والتعبيرية اللاارضوية الكونيه الوحيد، المضطر للخروج من ارضه نحو عالم الارضوية، كي يتحمل ثقل المفارقة وسط الاستحالة وبلا سلاح، بين عالمه وعالم من هو حال بارضهم ضمن اشتراطات الغربة والعزم على الاختراق، هذا علما بان مجازفة مستحيله كهذه، قد انتهت الى حصيله شامله وكونية جعلت العالم والمجتمعات ثنائية وازدواجية، والحديث هنا عن منظومة مفارقة اخرى، لمجتمعية سماوية حلت مقابل وفي احشاء الارضوية خارج التفكرات المحلوية، والاهم ليس ماتفعله الارضوية بهذا الخصوص وهي تحيل الفعل الكوني الازدواجي كضرورة لعوالم مثل "الدين"، فاللاارضوية وعموم فعاليتها اللاحقة على النبوية، هي بالذات وماتزال الى اليوم بحال تقصير عن مقاربة عظيم فعالية النبوة الاولى، وعموم النبوية وفعلها الخارق، المتعدي للمادي الملموس، ولما يعرف بالعلاقة المعتبرة بمثابة قانون، بين البنيه التحتية والفوقية، مقارنه بالممكن البشري المعتاد، وهو مايشمل قدرة ورثة المنظور اللاارضوي، حتى على مستوى ماهم بحاجه له كمحاجة مع العقل الارضوي البقائي، فلا الازهر، ولا الفاتيكان، ولا النجف، قد وجد من بين ماعليه الاهتمام بابرازه، جانب العزلوية النوعية، مع الحصيلة الاختراقية الكونية، واذا كان ذلك منسوبا، او يمكن الحاقة بعموم المجهود المتعارف عليه بشريا، حيث نقف امام قاعدتين، اكوانيه عليّه ماتزال غير مكشوف عنها النقاب في اجمالي مقاربات العقل الارضوي واللاارضوي، بينما يحضر بقوة، الميل للاعتباطية والاختزال، بحيث يطرد غالبا الجانب الحري بالتوقف مع الفصل اللازم بين مصدري فعالية وحضور الان ومستقبلا.
وهنا ايضا تصادر الارضوية ماعداها، فتسقط اشتراطات الفعل اللارضوي وعلاقته بكينونته المجتمعية المغايرة، الامر الذي يفقر الواقع ويكرس احاديته، نازعا منه حقيقة اساس، من ضمنها الاعجازية ومافوق ملموسية ارضوية، على الاقل من وجوه هامه بعينها، فالسلوك الاختراقي الكوني الابراهيمي مثلا، لايمكن ان يقارن بالفعل الماركسي في ارضه، وابان حالة نضج اشتراطاته ، وانتقال وتبدل الاليات المجتمعية فوق المعتاد، مع ظهور الاله، هذا غير مستوى الاحتدامية الاصطراعية الطبقية، والتغيير الهائل الواقع على المجتمع الاوربي في المجالات كافة وفي مستوى الديناميات، مايجعل من دعوة ماركس من قبيل وجهة النظر، بغض النظر عن عمق او ثبات، او افتراقيتها المؤقته، والمنتهيه فعالية بانتهاء الفترة الالية المصنعية.
اليوم تتعاظم الوطاة الحالة على اللاارضوية، ابان احتمالية تجسدها بصيغتها الثانيه الادراكية العليّة السببية، على انقاض الحدسية النبوية، كما على جثة المنظور الارضوي البقائي، مع افتراض تبدل الاشتراطات، ونوع التحديات والعوامل المساعدة والمانعه معا، مع تهالك بدائية ملموسية منتهية الصلاحية، ترى الكون على انه مايقع ضمن دائرة نظرها وحواسها.
اليوم تتعاظم الوطاة الحالة على اللاارضوية بحكم احتمالية تجسدها بصيغتها الثانيه الادراكية العلية السببية، على انقاض الحدسية النبوية، كما على جثة المنظور الارضوي البقائي، مع افتراض تبدل الاشتراطات، ونوع التحديات والعوامل المساعدة والمانعه معا، مايفترض اعادة النظر في حقيقة الاليات الناظمه للوجود الارضي ومساراته وحكمه، وماهو مفض اليه من هنا فصاعدا، واذا كان واردا بعد اليوم استمرار عمل منظور البقائية، او انه سيتحول الى عنصر مقارب للعوامل والاسباب المخالفة والمتضادة مع ممكنات الوجود، واحتماليات القفز التحولي المواكب في العادة لمحطات الانتقال، المشابهه لنوع الانتقال مثلا من الحيوان، الى الكائن الانسايوان العقل /جسدي، منذ انتصاب الكائن الحيوان، وحضور العقل بعد ملايين السنين من احتجابه تحت وطاة الغلبة الجسدية الحيوانيه شبه الكلية.
تختزل البقائية الارضوية ماتسميه "الواقع"، فيها وفي نوعها، اي في شكل من اشكال تجليه وحضوره، منكرة ومتجاوزة على حقيقه فاضحه، مفادها الثنائية الازدواجية الواقعية المتعدية للارضوية الى اللاارضوية السماوية، مسقطة من مجال الاعقال والتدبر عالما هائلا، ومنطويات عن الحقيقة، والغائية الوجودية البشرية، وهو مايتوافق متلازما مع القصورية العقلية التي تواكب العقل مع بدايات تبلور المجتمعية، مع اهم مايتولد عنها من نكوص ابتدائي، يلغي من الديناميات الوجودية عالم وحقيقة التصير الذاتي، وصولا الى الحضور الحياتي البشري الانساني لاحقا كذاتيه اضافية فاعلة، لابد من مواكبتها والبحث عن منطوياتها وماتذهب اليه، املا في تعديل مسارات الوجود بحسب الممكن وعيا، ومايتفق مع الحقيقة الكونية الكبرى، الامر الذي يستحيل تخيل امكانية او احتمال صدوره عن الارضوية البقائية، فالانتقالية النضجية العقلية، لن تصبح واقعا حيا وشاملا، الا بالتجلي في الموضع الاكثر تماسا مع الحقيقة الكونية ابتدء وكينونة، المتلائم واقعا وكينونة بنيوية وماضيا، مع اشتراطات التحولية الكبرى، بعدما يصير الانتقال من الحدسية الى العليّة واجبا وضرورة، لايمكن تحاشي الاستجابة لها تحت طائلة احتمالات الفنائية.
حين يبني الكائن البشري ناطحات السحاب، ويشق الطرق، ويطير الطائرات، فان مايفعله هو مجال تجاوز للذات، لاتتعدى حقيقته كمحطة على طريق الالتقاء مع الذاتية المحكومه الى ماليس بارضوي بقائي، فالارض نفسها زائله، ومهمتها الكبرى التي تضطلع بها، تهيئة الكائن البشري بعد ان تلده، للانتقال منها وخارجها، وقتما لاتعود هي لازمة، بينما الكائن الانسايوان قيد الانتقال الى الانسان، مشرف على الذهاب الى السكن الثاني الكوني، المطابق للصيغة العقلية مابعد الجسدية، حال ان يكون العقل المنفصل عن الجسدية في حينه، نوعا اخر، ونمط ادراكية وطبيعة فعالية اكوانية، تكون هي اهتمامه اليومي، ابتداء من لحظة تحوله الاولى ساعة ينتقل بالتظافر بين العقل، و"التكنولوجيا العليا"، والمنظور الثاني مابعد النبوي الحدسي فوق الارضي اللاارضوي، العلّي، نحو عوالم واشكال وجود ليس بالامكان مقاربتها حتى تخيلا اليوم.