نجوت من الموت بأعجوبة - القسم الأخير


فاضل عباس البدراوي
2023 / 2 / 13 - 00:28     




بعد وصولنا الى مقر اتحادهم العام، في الحقيقة كان ذلك هو مقر نقابتنا قبل استيلاء البعثيين عليها كما أسلفت، وجدنا جمعا من النقابيين البعثثين يقفون في الباب وهم مدججين بالسلاح، من حسن الحظ كان من بين الواقفين عدد من عمال المطابع البعثيين الذين يعرفونني، ما أن ترجلنا من السيارة حتى استقبلني عدد من هؤلاء بشكل شبه ودي بعبارات مثل (هلو فاضل اشلونك خو ما اذوك) كما انهم صافحوني، عند ذاك استادر لؤي بسيارته مع منقذ حيث تيقن بأنني لست شيوعيا.
ادخلوني في القاعة الكبيرة نسبيا التي كنا نعقد اجتماعتنا فيها، كانت تغص بالعشرات من العمال النقابيين الشيوعيين واصدقائهم تصوّروا ( حوّلوا الاتحاد العام لنقابات العمال الى معتقل للعمال ) خلال عدة أيام من بقائي في هذا المعتقل لم يجر معي اي تحقيق كما ان معاملتهم مع الجميع كانت لا بأس بها فلم تجر أية عمليات تعذيب عدا واحدة شاهدتها وسمعتها، سأمر عليها، لكن نائب رئيس اتحادهم الذي عينوه بقرار من قيادتهم، الفلسطيني عيسى خضر طه كان موتورا وحاقدا على الشيوعيين وعبد الكريم قاسم بشكل كبير بين فترة واخرى كان يفتح باب القاعة يستفزنا ويكيل بالشتائم ليس ضد شخوصنا انما على الحزب الشيوعي كأنما الشيوعيين هم الذي سلموا وطنه فلسطين للصهاينة وليس قادة امته العربية (الواحدة ذات الرسالة الخالدة ) كذلك يشتم الزعيم الذي فتح ابواب الكلية العسكرية امام الشباب الفلسطيني ليتخرجوا ضباطا ليساعدهم على انشاء جيش فلسطيني لتحرير بلدهم.
لو لا كبح جماحه الانتقامي من قبل رفاقه الاخرين لكان يقوم بأبادتنا جميعا. في احدى الليالي جاءوا بالكادر العمالي الشيوعي باركيف سركيس وهو من الرفاق الارمن سبق وان قضى اعواما طويلة في سجون النظام الملكي، تعرض الى تعذيب وحشي وقاس من الليل حتى الصباح على يد الفلسطيني عيسى وعدد اخر من الحرس كنا نسمع انينه، أعتقد جازما انه لم يحصلوا منه شيئا اخذوه صباحا الى جهة مجهولة اعتقد تم تصفيته.
بعد عدة أيام جلبوا من الموقف العام القائدين النقابيين الرفيقين عبد القادر العياش وكليبان صالح العبلي، في الحقيقة لم يتم أي تحقيق معهما ولم يتعرضا الى تعذيب. في عصرية أحد الايام ادخلوا علينا الرفيق والصديق ابراهيم الحريري، وقف ٠قرب الباب يتلفت يمينا ويسارا وعلامات التعذيب بادية على وجهه وهو في حالة رعب، نادينا عليه واجلسناه بيني وبين الرفيق العياش، التفت عليَّ هل ذكرت أسمي في التحقيق قلت اطمئن لم يجر معي أي تحقيق وانا ليست لي علافة بك، بينما في الحقيقة تعود علاقتي به من عام ١٩٥٥ عندما كنت معتقلا في التحقيقات الجنائية بسبب نشاطي الحزبي واطلق سراحي بعد اسبوعين لصغر سني وقد جلبوا الرفيق الحريري من سجن بعقوبة لكي يُرسل الى بدرة لقضاء فترة المراقية وبعد ثورة ١٤ تموز كان يزور منظماتتنا كمشرف من اللجنة العمالية للمشاريع الصغرى وهو الذي حضر اجتماعا لمنظتنا مع الرفيقة الراحلة زكية شاكر التي كانت عضو مكتب لجنة منطقة بعداد اواسط عام ١٩٦١ حيث تم تبليغي بأن رُشحت للجنة العمالية للمشاريع الصغرى، كنت في حينه قد خرجت من التوقيف قبل أيام قليلة.
سألنا الرفيق الحريري من اين جاءوا بك التفت يمينا ويسارا وبصوت خافت قال قصر النهاية قصر النهاية هناك خيانة كبرى في الحزب تم اعتقال الرفيق سلام عادل ومعظم اعضاء الممتب السياسي واللجنة المركزية واعداد كبيرة من الكوادر الحزبية الرفيق سلام يعذب في سرداب القصر وهو معلق ورجلية في المياه الاسنة في السرداب كذلك يتعرض الرفاق عبد الرحيم شريف وابو العيس ونافع يونس والدكتور محمد الجلبي واخرين للتعذيب الوحشي لكنهم صامدين بالاخص الرفيق سلام يشحذ همم الرفاق ويناديهم هذا امتحان صعب رفاق يجب علينا اجتيازه حافظوا على شرفكم الحزبي حافظوا على رفاقكم صونوا الامانة، عدد قليل خان الحزب واخرين ضعفوا في التحقيق نتيجة التعذيب لكنهم حافظوا على اسرار كثيرة لم يتطرق اليها الخونة وانا من بينهم،( بعد أشهر ظهر بأن هادي هاشم الاعظمي عضو مكتب السكرتارية والشخصية الثالثة للحزب هو الخائن) عندما كان يتكلم كانت الدموع تذرف من عينيه وشاركناه في ذرف الدموع على المصير الذي آل اليه حزبنا. بعد عدة أشهر تم إطلاق سراحي.
الان بعد مضي ستة عقود على تلك النكبة التي حلت بالعراق والمحنة التي مررت بها شخصيا، استطيع القول بكل أمانة حيث لم يتبقى من العمر الّا القليل، بأنني خرجت من تلك التجربة القاسية مرفوع الرأس وبصفحة بيضاء، حافظت على اسرار الحزب وحميت رفاقي لكنني اقولها قولا لا شك فيه، في تلك اللحظات العصيبة التي مررت بها وبالرغم من انني كنت في شابا في مقتبل العمر ولم اتمتع بالحياة الشبابية لانغماري في سوح النضال الوطني منذ صباي، لا ادعي البطولة والصمود انما الضروف التي احاطت باعتقالي والتي ذكرتها خدمتني كثيرا.
لكنني أقولها بصدق وثقة لم أفكر ولم يدر بخلدي أبدا خيانه رفاقي في المنظمة التي كنت مسؤولا عنها مهما تكن النتائج فيما اذا تعرضت للتعذيب، كيف وهذا التنظيم تشكل عن طريقي مع رفيق اخر بعد ثورة ١٤تموز حيث تم كسب وترشيح معظمهم عن طريقي وهم ابناء مهنتي، كيف بي ان اسلمهم لمخالب الفاشيين وكيف سأواجههم ماذا أقول لعوائلهم ؟ لذا سلِم هؤلاء الرفاق من الاعتقال، كما ينعكس هذا على رفاقي في اللجنة العمالية للمشاريع الصغرى.
الان وقد مضى على تلك الحقبة السوداء ستة عقود، لم يتبقى من العمر الا قليلا، اقولها بثقة عالية، انني لا ادعي البطولة والصمود لكن الضروف السالفة الذكر التي احاطت باعتقالي ساهمت في تلك الصفحة اضافة باستعدادي لتقبل أية نتائج تسفر اذا ما تعرضت الى التعذيب.