العلمانية النظرية وزيف العلمانية العربية -1


لبيب سلطان
2023 / 2 / 11 - 11:21     

1. العلمانية النظرية
هناك فهما ناقصا لمفهوم العلمانية يشترك فيه كل ألاصوليين دينيا او ايديولوجيا في العالم العربي ، قائما على اساس ان العلمانية هي فصل الدين عن الدولة ، وهو مظهرا واحدا للعلمانية لاغير، ورغم انه صحيح ، ولكنه مفهوما ناقصا ربط العلمانية بجذور وظروف نشأتها التاريخية في محاربة تسلط الفكر الكنسي في اوربا ، وليس بمنهجها الفكري وبجذور دعوتها العامة بتحرير العقل والانسان والمجتمع والدولة من هيمنة كافة انواع الاصوليات سواء بشكلها الديني ، او أصوليات ادلجة الفكر بأشكاله قومي، طبقي ، أو عرقي، او ماشابهها.
ان البحث في تاريخ نشأة وتطور مفهوم العلمانية الحديث سيجد ان نظرية وجذور منهجها تقوم على ثلاثة اسس ومحاور لايمكن التفرد بواحدة منها دون الاخرى، وهذه يمكن تلخيصها:
1. وضع العقل ، أي العلم ، محل المقولة الأصولية (أي المؤدلجة ) في فهم الطبيعة والمجتمع.
2. حرية ممارسة الرأي والعقائد والمساواة بينها ومنع التمييز بين المواطنين في الدولة والمجتمع بسبب معتقداتهم وفصل الدين عن الدولة.
3. شجب ومنع ثقافة بث الكراهية في المجتمع سواء الناتجة من مقولات الاصوليات الدينية أوالفكرية بمختلف انتمائاتها .

هذه هي الاسس التي بنى عليها فلاسفة ومفكري العلمانية اطروحاتهم عليها ، وهي الاسس التي خطت على طريقها الحضارة الاوربية في عصر التنوير في القرنين الثامن والتاسع عشر وصولا لأقامة دولا ومجتمعات علمانية تحترم اختلاف عقائد مواطنيها وتضع مبادئ المساواة والاخاء والحرية الفكرية والاجتماعية اسسا لعمل دولها، مثلته واضحا الثورة الفرنسية في شعاراتها ودستورها ، واخذت بها تدريجيا باقي الدول والمجتمعات الاوربية ومنها انتقلت لبقية العالم. وأدت مبادئ العلمانية هذه لتطور الفكر الليبرالي اساسا وانتقلت الدول الاوربية تدريجيا الى العلمانية الليبرالية كونها تحترم وتطبق هذه المبادئ الثلاثة للعلمانية في اسس نظمها وممارسة عملها وخصوصا محوريها الثاني والثالث اعلاه الخاص بالحريات ونبذ الكراهية، فلن يكون نظام هتلر ،مثلا ، نظاما علمانيا حتى بفصل الدين عن الدولة ، كما هو الفهم الشائع للعلمانية في العالم العربي، كون الفكر الهتلري ناهض جوهرها الذي يمنع التمييز بين العقائد والوقوف مسافة واحدة منها (ألمحور الثاني ) ومنع بث ثقافة الكراهية في المجتمع (المحور الثالث) ، كما ولايمكن اعتبار نظام ستالين علمانيا ايضا ، كونه صادر حرية المعتقد والرأي ( المحور الثاني ) ومارس بث ثقافة الكراهية ضد ثقافة المجتمعات الاوربية باعتبارها شعوبا ذات ثقافة برجوازية (المحور الثالث ) . وكذلك نظامي صدام والاسد وغيرهما، يصنفها البعض نظما علمانية كونها لم تقم على النصوص الاصولية الاسلاموية في عمل الدولة ومؤسساتها ،ومنه دعوها علمانية، ولكنها ليست كذلك كونها نظما قامت على الغاء حرية الفكر والتمييز وبثت فكر الكراهية لاسباب سياسية وايديولوجية.
وعموما لوطبق مفهوم العلمانية النظرية باسسها لأنتفى ان يكون اي نظام ديكتاتوري ومؤدلج ان يكون علمانيا ، حتى وان عادى الدين والتدين ، أو فصلهما عن الدولة، كون اللدولة الايديولوجية نفسها قائمة على فكر التمييز بين المواطنين وعدم احترام معتقداتهم وعدم مساواتهم، فالفكر الايديولوجي يبث الفرقة بين المواطنين و بين البشر عموما ، ويبث روح الكراهية والتمييز للمخالفين، والأصوليات الدينية ليست وحدها وحدها ، بل ان كل الاصوليات هي في الواقع اديان ، حتى لو ادعت انها ضد الدين، وكل الاصوليين هم متدينون حتى ولو كانوا ملحدين، فالمسألة لاترتبط بالدين فقط وفق العلمانية النظرية، بل كل فكر يدعو للتمييز وبث ثقافة الكراهية تجاه الاخرين.

ان فهم العلمانية واسسها ومنهجها هو أوسع وأعمق وأهم بكثير من مجرد تقليصها بأنها منهج لفصل الدين عن الدولة ( الذي طرحه علنا الفيلسوف الفرنسي فولتير منتصف القرن 18 ، ولكنه طرح معه ايضا وبحزمة واحدة حرية المعتقد وحرية التعبير بينما اشتهرت مقولته الاولى حول الفصل ومنه ربما ساد هذا الطرح الشائع عن العلمانية) . وقبل فولتير وعلى مدى مئتي عام طرحت العلمانية ومنذ القرن السادس عشر مناهضة للاصولية ، واذ اعتبرت دعوتها مقصورة على فصل الدولة عن الدين فذلك لأسباب تاريخية كون ان مفكريها الاوائل جابهوا بها الاصولية الكنسية الدينية القائمة على النص الديني الغيبي،مثل أعمال وطروحات سبينوزا او الفلاسفة البريطانيين روجر بيكون ، وجون لوك ،وديفيد هيوم وجون هوبز ،وجميعهم كانوا يقصدون الديني أو أي فكر أصولي اخر ، ولكن الديني كان في الواجهة ، تماما مثلما واجه المعتزلة المقولة السلفية الأسلاموية كمواجهة للتسلط الديني، ووضعوا أحلال العقل محل النقل والنص منذ فترة مبكرة تعود لبداية القرن الثاني الهجري ( الثامن الميلادي)، فالسلفية الاصولية كانت هدفهم لمجابهة التسلط الاسلاموي الذي لازال يستمر لليوم، واذ كانت الظروف مهيأة لنصرة السلفية على العقلانية العلمانية للمعتزلة، لحاجة الحكام اليها ، أي للسلفية، فان الظروف اتت مؤاتية بعدهم بألف عام لدحر السلفية الدينية في اوربا واقامة الدول العلمانية الحديثة وتطورها نحو التحرر الانساني اي الليبرالي.

فالدعوة لتحرير العقل هي اوسع من مجرد الخروج من الميتافيزيقيا ( أي الفكر الغيبي، او المقولة الدينية)، بل للخروج والتحرر من اية مقولة تكلس العقل وتجعله صندوق مقولات جاهزات تسيطر على الانسان وتحجب العقل، فهي أوسع من دحض المقولة الدينية لأن تحرير العقل يؤدي لتحرير الانسان، ومنها وعيه بحقوقه الطبيعية ، ومنها حرية المطالبة بحقوقه وبرايه وحرية ممارساتها ، ومنها مطالبته بنظم للمجتمع تمارس المساواة مع اقرانه من المواطنين مهما اختلفت ارائهم ، وهذه لن تقوم بغير اقامة دول الحقوق والحريات ونبذ الكراهية والتمييز ، أي نظم الديمقراطية الليبرالية الحقوقية التي نراها اليوم في اوربا على سلم التطور الانساني ، والتي ناضلت لاجلها البشرية منذ زمن المعتزلة، وربما ابكر من ذلك.
هذه هي اسس العلمانية النظرية وجوهر مفاهيمها ككل مجتمع، وليس مجزء، والتي اعتقد ان العلمانيين في وطننا العربي لم يهضموها او يتملصون من هضمها واكتفوا بالأدعاء بها وقصر دعوتها لفصل الدين عن الدولة، وهي بلاشك أهم دعوة لتحرير الأنسان العربي ومجتمعاتنا العربية اليوم، ولكنهم في الممارسة السياسية والطرح السياسي والاجتماعي العام خذلوا العلمانية ووظفوها لأغراض ايديولوجية كونها بدعوتها لتحرير العقل تقف عقبة امام الطرح المؤدلج الذي غالبا ما صاهر الطرح الاسلاموي في معاداة ثقافة وحضارة الغرب مثلا، كلاهما يبث فكر الكراهية ، والتجهيل كونه يخوض نفس المعركة الايديولوجية ، معاداة حضارة الغرب، وليس الهدف لتحرير العقل والانسان العربي ، كما تدعو اليه العلمانية ، ومنها اسميها العلمانية العربية المزيفة ،التي ساكرس الجزء القادم لبحثها ومناقشتها .
يتبع
10/01/2023