البقائية والتحوليّه: مفهومان للحضارة والوجود/3


عبدالامير الركابي
2023 / 2 / 10 - 20:49     

ليس ثمة موضع على وجه الارض كاشف عن قصورية العقل البشري مثل نموذج ارض مابين النهرين، والملفت هنا كون هذا الموضع من المعمورة هو الاكثر جلبا للاهتمام لبكورته تبلورا، وثراء ةعمق منجزه البدئي، بالاخص من قبل غير العراقيين، فان تبعهم بعض العراقيين فيظلون مجرد متطفلين، ينظرون لانفسهم بعين غيرهم، وكمثال فان هؤلاء قد مروا بدورة كونية امبراطورية هي الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، على الرغم من ضخامتها فانهم لم يتركوا ولاكلمة واحده دالة على نظر لها بصفتها دورة تاريخيه خاصة بالمكان وخاصيات تاريخه، ولا لعموم الماضي بما يمكن ان ينسب لما صار يعرف اليوم بالتعرف على الذات، ساعد على ذلك كون الدورة المذكورة، وجدت في الوقت الذي كانت البشرية حينها ابعد ماتكون عن مقاربة مامعروف اليوم باخر العلوم، "علم الاجتماع"، فما عرف وقتها سوى علم التاريخ الذي قام في بغداد ليظل حدسيا، موقوفا على مايواكب ويحايث الرؤية اللاارضوية الاولى النبوية، من دون حتى مجرد النظر في السياقات والتفاصيل التي ولد داخلها المنظور اللاارضوي الاول، ماقد احال الامر لهذه الجهه الى العصر الحديث، ليحصر تاريخ الازدواج المجتمعي واللاارضوية داخل رؤية حديثه حداثوية مستعارة، ومقحمه من خارج المكان، هي الاوربيه حصرا بما خص النظر في الدورة الاولى البدئية على وجه الخصوص، و "اسلاموية"، برانيه هي الاخرى، تسقط على المكان، من دون اي اهتمام او تلبث من اي نوع كان، عند الخاصيات المجتمعية الازدواجية، الامر الذي يستمر غالبا حتى بعد اكتشاف اهمية البدئية السومرية، ومكانها ضمن التاسيس لمايعرف بالحضارة البشرية، وكل هذا يكفي، ومن شانه جعل العراق بلا تاريخ ناطق باسمه، بلا اي حضور عائد لذاته وكينونته سوى التنوية بعصيان اهل العراق، وميلهم الدائم للخروج على الدول والحكام.
ولاشك ان الامر لهذه الجهه يستحق التساؤل، عما اذا كان العراق مسؤول بذاته عن عدم نطقيته، ام ان الكائن البشري يتكشف هنا وعند هذه المحطة، عن صفاته وخاصيات مقاربته للاشياء ك "انسايوان"، مايحيل هذا المعطى التاريخي الكوني الى "المعجز" المنتظر، غير الغريب عن سياقات تعبيريه هذه المنطقة، دلالة على الفارق بين المقصود قبل اوانه بظل العجز والقصور العقلي الباقي على مر مئات السنين من تاريخ التصيّر البشري المجتمعي، وصولا اخيرا وفي نهاية المطاف، وقت تحل الضرورة والساعه، الى "المعجز التحليلي"، ذلك الذي هو بالاحرى نقل للبشرية من حال الى اخر، ومن زمنية بذاتها انتقالية، الى ماهي مصممة لكي تبلغه وتصل رحابه.
فالبشرية محكوم عليها المرور بطورين، ماقبل ومابعد اكتشاف الحقيقة الرافدينيه، الاولى محكومة اجمالا للشروط الانسايوانيه البقائية الغالبة موضوعيا، والاخرى اللاحقة الختامية، توافق بدئية الانتقال من "الانسايوان" الى "الانسان"، والامر متعلق بمجتمعيتين، ومن ثم ببدئيتين، لايمكن للذين ينتمون للاولى منهما، مقاربة الثانية من دون ان يصبحوا ابناءها، مايعني حكما الخضوع الاستثنائي لاليات هي في اقل تقدير، موجبات انبثاق كائن اخر، كما يمكن تخيل حالة الانتقال من عالم اللقاط والصيد، الى العالم المجتمعي، مع التجمع وانتاج الغذاء، او من حيث التشبيه والمقاربة، الانتقال من الحيوان حيث غياب العقل، الى "الانسايوان" الحالي، العقل / جسدي. لابل وابعد، لاننا اليوم على مشارف نهاية زمن ممتد لملايين السنين من عملية النشوء والترقي، تمتد عائدة الى الخلية الاولى، ثم الحيوان، ثم " الانسايوان"، وصولا الى الكائن العقلي المنتظر ظهوره من هنا فصاعدا، والمؤهل لمغادرة الكوكب الارضي.
كل هذا يفترض ان يكون كافيا لكي نبطل مفاهيم البقائية، بالاخص من حيث الذهاب لتطبيقها على العراق، فهذا الموضع لاوجود له بحسب نموذج "الوطنية" و "الكيانوية" المحلوية بنموذجيتها المصرية، وحتى اعلى اشكالها الاوربية الحديثة، والجزء المنوه عنه من المعمورة نوع تشكل كوني، لابل هو المحور والبؤرة التشكلية المجتمعية على مستوى المعمورة، يبدا لاارضويا مطابقا كينونة للحقيقة البشرية المجتمعية غرضا وانتهاء، ليواصل حضوره الدوراتي الانقطاعي، ومعه تسير التفاعليه المجتمعية بما هي تصيّر كوني،الى ان تنبثق اسباب انتهاء صلاحية البقائية الارضوية، واقتراب بدء النطقية الازدواجية اللاارضوية الانتقالية الى العالم الاخر.
وبين الدورتين الاولى والثانيه، يضطلع النمط الازدواجي بالمهمات الاساس الضرورية على المستوى الكوني، ابتداء بالتعبيرية اللاارضوية النبويه كشكل مجتمعية مفارقة للبقائية الارضوية، ملبية لاشتراطات الازدواج المجتمعي الضروري واللازم لاكتمال بنية المجتمعات الا ماندر منها، والثانية الامبراطورية الكونيه التي تكفلت بتهيئة اسباب الانقلاب المفضي لانتهاء صلاحية النمط، او الصنف المجتمعي الارضوي، مع انبثاق الاله، وتحولاتها المفارقة انتاجيا للبنية الارضوية، الموافقه طبيعة للانتاجية اليدوية، وهما عمليتان موافقتان لاشتراطات الصيرورة المجتمعية التاريخيه، وماهي مصممه لاجله، الذاهبة اليه حكما.
هذا بينما تتخذ الدورة الثالثة الراهنه من تاريخ الازدواجية اللارضوية منحى مختلفا، جوهره نطقي، متوافق مع اشتراطات الانقلاب الاكبر، يلائم مشارفة الحد الانتهائي للاحادية البقائية، في الوقت الذي تمر فيه لحظة تنقلب خلالها الفعالية الكونية لتصبح من اختصاص الطرف الاخر الغربي الاوربي من المتوسط، وهو مايواكب الاله، وماينجم عن حضورها من تغير غير معهود يلحق بالاليات المجتمعية ويضاعفها، مقارنه بتلك التي لم تعرف الالة، مايتسبب في نشوء حالة من الاصطراع الافنائي، يتعرض له موضع البؤرة الازدواجية، احد اطرافه آلي راسمالي صار يتوفر على ثورة في الديناميات، جعلت من جزيرة مثل بريطانيا اليوم، امبراطورية لاتغيب عن ممالكها الشمس، وهو ماكان للامبراطورية العراقية العباسية القرمطية، مع انها لم تكن وقتها آليه، ودينامياتها الازدواجية المجتمعية في حينه كانت ديناميات يدوية استنادا لمفعول اداة الانتاج التي كانت سائدة وقتها.
والفارق المذكور لايرد على البال، وهو غير ملاحظ اطلاقا عند المقارنه بين فعالية الطرفين اليوم بالذات، وبالذات عند احتساب النتائج، وما قد تمخضت عنه عملية الصراع الغربي البريطاني تحديدا، العراقي ابتداء، وعلى وجه التحديد من عام 1914 يوم نزول الحملة البريطانيه في الفاو اقصى جنوب العراق، فلم نتعرف على اية مناسبة تتضمن قراءة لردود الفعل، او درجة الفعالية الاصطراعية من الجهة العراقية، وطبيعتها ومستواها اذا كان فعالا، او متدنيا حضورا، مقارنه بالفعل البريطاني الاحتلالي، واجمالي الفعل النموذجي الغربي المواكب له.
وليس الاحتلال المباشر هنا مايفترض ان يؤخذ لوحده عند احتساب وزن الطرف الغربي وممكنات فعاليته، فقوة مفعول النموذج الذي تكرس مع نهوض الغرب الحديث، وماواكبه من سوية تفكرية كونية، قد تكون لعبت دورا اكبر من الحضور المباشر الاحتلالي، هذا بالاضافة الى العامل الاهم المغفل، المتولد عن الانفراد النطقي الاوربي، ووزنه بمقابل اللانطقية العراقية، فالعراق ظل مضطرا لان يصارع من دون افصاحية ذاتيه على مدى يزيد على القرن، بينما الغرب متغلب نموذجا وتفكرا بصورة كاسحة. مااتاح للتيارات الايديلوجية النقلية والاتباعية الاسقاطية، مع انها من اهل البلاد، فرصة السطو على الفعالية "الوطنية"، وتزويرها، وكسر نصلها بالباسها غير ثوبها، ولاحقيقتها، وعلى مدى ثلاث ثورات لاارضوية، هي ثورة العشرين، وثورة 14 تموز1958، وثورة الاول من تشرين 2019على سبيل المثال، وجدت بلانطقية، تسنى ل"الافكار" والاحزاب مدعية "الوطنية الزائفة"، لعب دور المصادرة، والعمل على الحاق فعل الاليات الذاتيه بالنمط الاحتلالي الاستعماري، وان اتخذ ماتقوله وتفعله القوى المذكورة صيغا مناهضة للاستعمار ظاهرا، انما باسم الغرب وعلى قاعدة نموذجه وقيمه المعتبرة غير استعمارية.
وتلك حزمة من الوسائل مورست من اعلى ومن اسفل، مفبركة وهم اصطراعية الطرف الفعلي المقابل للغرب فيها مزاح من اللوحة، ممنوع من الوجود، ومستنكرقطعا، بما ان الغرب هو النموذج الاعلى، والمطمح الذي لاينافس، والمطلوب رفض كل نموذج سواه، او يذهب لمنافسته، ذلك في الوقت الذي لم تكن الظروف تسمح الى اليوم بالنطق، مادامت اسباب استمرار غلبة البقائية لم تتوقف بعد، وهو ماكان يجب انتظاره خلال الطور الاول المصنعي من حضور الالة، ثم الطور الحالي التكنولوجي التكنتروني الراهن، الاخذ الى طور "التكنولوجيا العليا"، وتعاظم الاختلال المجتمعي الاقرب الى الفنائي على مستوى المعمورة، وبالذات بين ظهراني الغرب وانتكاسته التوهمية التي ظل مكبلا بها منذ الانتقال الى الالة، وعجزة الاحادي البقائي عن ادراك حقيقتها، وكيفية التعامل معها بما يخالف ماتقتضيه من تصرف، دونه تذهب المجتمعية الاحادية الى مراكمة اسباب الفناء.
ومن اخطر اشكال الغلبه النطقية الغربية ابان فترة النهوض الحديث الاوربي، هيمنته المفهومية على مخطط السردية الاصطراعية، عناصرها والياتها، وهو مايتجلى في مفاهيم " حركة التحرر العالمية" المعتبر مادة الاستدلال على اصطراعية شعوب الارض مع المركز الاوربي بوجهه الامبرايالي، الامر الذي يسقط تماما ناحية اساسية وجوهر، تلك التي ترى الى التاريخ في طوره الحالي الالي على حقيقته الضائعة، بما هو اصطراعية ارضوية لاارضوية، اي البقائية مقابل "التحولية".
ـ يتبع ـ