الهويّة مرّة ثانية وثالثة


عبد الحسين شعبان
2023 / 2 / 8 - 22:13     

غالبًا ما يتردّد في عالمنا العربي والإسلامي، شعارات من قبيل "ضرورة الحفاظ على الهويّة"، وبالتالي الحفاظ على اللغة والثقافة. وفي ربع القرن المنصرم أو ما يزيد ارتفع رصيد الدعوات التي تريد مواجهة التحديات التي استهدفت الهويّة العربيّة واللغة العربية والثقافة العربية.
وبقدر ما في هذه الدعوات من نبل وأصالة، لكن الدفاع عن الهويّة أو اللغة أو الثقافة، ليست شعارًا للترويج السياسي أو الأيديولوجي أو حتى وسيلةً جادة لمواجهة التحديات التي تتربّص بالأمة العربية، في الوقت الذي يتم التغافل فيه عن توفير مستلزمات تعزيز الهويّة وتطوير اللغة واعتماد الثقافة كسلطة قيمية عليا يمكن بواسطتها مجابهة التحديات الخارجية والداخلية التي تستهدف مجتمعاتنا وتريد النيل منها ومنعها من تحقيق التنمية المستدامة بجميع حقولها وأبوابها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية والتعليمية والصحية والبيئية والقانونية والنفسية وغيرها.
ولعلّ الشعور بوجود هجمة ضدّ كيانيتنا الهويّاتية واللغوية والثقافية، يعني أن هناك تلمسًا لخطر خارجي يتمثّل بالرغبة بالتسيّد وفرض الهيمنة والاستتباع علينا عبر مشروع ثقافي يعاكس ثقافتنا وطريقة عيشنا وسلوكنا، بما فيه لغتنا، حيث انصرفت بعض المجتمعات إلى تعلّم اللغات الأجنبية وبخاصة الإنكليزية والدراسة فيها على حساب اللغة العربية، بل أن هناك تهميشًا أقرب إلى الازدراء للغتنا الجميلة ساعد عليه بعض دعاة التغريب، كما أن فشل تجارب التنمية التي حاولت بعض البلدان العربية اتّباعها سبيلًا للتقدّم في مراحل ما بعد الاستقلال والتخلّص من الهيمنة الكولونيالية كان مبرّرًا لذلك، وقادت الخصوصية أحيانًا إلى الانغلاق والتقوقع، مثلما قادت المحاولات التي تريد تجاوزها إلى ضياع الهويّة وتشويه الثقافة وامتهان اللغة.
وعلينا الاعتراف أننا في أزمة ولا بدّ من تشخيص أسبابها، الأمر الذي يقتضي التعاون والتنسيق بما هو مشترك وإنساني ويخصّ وجودنا ككل، لأن المسألة لا تتعلّق بهذا البلد أو ذاك وإنما تتعلق بالهويّة المشتركة أو الجامعة وباللغة الموحدة لألسنتنا وبالثقافة التي تمثّل خط دفاعنا الأول والأخير أيضًا.
ويستوجب ذلك التصرّف بمسؤولية إزاء تراثنا وتاريخنا، لإظهار الجوانب المشرقة والمضيئة فيه، وإعلاء شأن هويّتنا المشتركة والموحّدة، وكذلك إزاء حاضرنا، خصوصًا تشخيص النواقص والثغرات التي تنفذ منها القوى الخارجية التي لا تستهدف هويّتنا ولغتنا وثقافتنا فحسب، وإنما تستهدف كيانيتنا ككل، حيث تأخذنا فرادى وغير متحدين أو متكاتفين.
وما يعزّز من وجودنا ويقوّي من قدراتنا على مواجهة التحديات هي المواطنة، ويحتاج المواطن إلى قدر من الثقة بنفسه وتاريخه وحضارته وثقافته ولغته وهويّته، لاسيّما اسهاماته في رفد الحضارة البشرية والثقافة الإنسانية بكل ما هو مفيد من علم وفن وأدب ولغة وثقافة، وكثير مما وصلت له أوروبا يعود إلى علمائنا مثل ابن سينا والفارابي وابن رشد والخوارزمي وغيرهم، ولم يكن ممكنًا تحقيق تلك المنجزات العظمى لولا أجواء الحريّة، وخصوصًا حريّة البحث العلمي التي كانت متوفّرة في زمانهم، الأمر الذي يحتاج إلى تعزيز هويّتنا الحالية بتعضيدها بقيم الحريّة التي هي أسمى القيم وأكثرها تفاعلًا مع القيم الأخرى مثل المساواة والشراكة والمشاركة والعدالة، وخصوصًا العدالة الاجتماعية.
وهذه العناصر الأساسية التي تتشكّل منها المواطنة في الدولة العصرية، فالمواطنة السليمة والحيويّة والفاعلة هي خط دفاع آخر في مواجهة النعرات العنصرية والطائفية والمذهبية التي تلحق الضرر بكيانيتنا وتضعف مقاومتنا للتحديات الخارجية.
وبالطبع بقدر ما تكون المسألة جماعية تخص المجتمع أو الجماعة البشرية التي تشكّل هويّتها المشتركة، فإن المسألة فردية أيضًا، فنحن أمام أكثر من هويّة جماعية، فردية، عامة وخصوصية، شاملة وفرعية، تلك التي تحدّد الانتماء إلى الوطن أو القوميّة أو الأمة أو مجموعة بشريّة بما تحمل من دلالات وإشارات مرجعية لكتلة بشرية من حيث طبيعة تكوينها وصفاتها الخاصة التي يتم التعبير عنها في هويّاتها الذاتية: القبيلة، الدين، المذهب، الإثنية، وفي إطار تشكّلها الاجتماعي بالانتماء إلى وحدة كيانية أساسية: الوطن، وتجمعهم سمات مشتركة موحدة وهي سمات لا تلغي هوياتهم الفرعية، "الجزئية"، الخاصة، وهكذا يتم التنوّع في إطار الوحدة أو الحفاظ على الوحدة في إطار التعدّد.
ولعلّ الوصول إلى ذلك والإقرار بالتعدّدية وقبول التنوّع وتعايش الهويّات الفرعيّة مع الهويّات الأعم والأشمل والاعتراف بحقوقها، هو أحد أركان الدفاع عن الهويّة واللغة والثقافة في إطار مواجهة التحديّات الخارجية والداخلية.
الهويّة بهذا المعنى فعل إنساني يتمظهر أو يتشكّل بما له من خصوصيّة لشعب أو لفرد (لغةً وفكرًا) وعقائدًا تمثل رؤيته إلى الكون والوجود، وهي قيم ثقافية يجد فيها الإنسان معنىً لأفعاله وتصرّفاته وأفكاره وسلوكه.
ولن يكون خطرًا على مجتمعاتنا وعلى لغتنا العربية وهويّتنا الموحّدة المؤتلفة والمختلفة وثقافتنا الجامعة، لأن العالم اليوم هو عالم الهويّات المتنوعّة الفردية والجماعية، مثلما كان في القرن العشرين عالم الأيديولوجيا المتصارعة والمتناقضة، وفي القرن التاسع عشر عالم القوميات، فإنه اليوم عالم الهويّات والمصالح، وكلّ ما يتعلّق بفعل الهويّات إنما هو نشاط إنساني ضروري يسهم في تحديد ملامح الارتقاء في هويّتنا وأفكارنا.