جامعات الولايات المتحدة وإعلامها تروج التجهيل ونشر السخافات


سعيد مضيه
2023 / 1 / 27 - 10:44     

هل نحن نفتح عقول الأميركيين ام نغلقها؟

سؤال استنكاري وجهه الصحفي الأميركي والمعلق السياسي، باتريك لورنس، الى إدارات الجامعات الأميركية وميديا الاحتكارات، حمل انتقادا واخزا لتعمد تجهيل الأجيال واستبدال الوعي بالبروباغاندا تحول الجمهور الى قطيع مذعان. "الميديا الجماهيرية هي مجرد مرايا تعكس الأخلاق المرسومة من قبل الدولة التي تنشط فيها؛ تعمل ما بوسعها كي تبقي الأميركيين جهلاء، بكل تأكيد "، يكتب باتريك لورنس، الذي بدأ نشاطه مراسلا صحفيا لعدة سنوات ، خاصة لصحيفة إنترناشيونال هيرالد تريبيون ، وهو معلق وكاتب مقالات وباحث ومحاضر. أحدث كتبه " لم تعد: اميركا بعد القرن الأميركي" .
اشاع الرئيس ترامب، أثناء رئاسته وبعدها ، التجهيل وتحدى حقائق العلم والوقائع المتعينة، على شاكلة حركات الفاشية والتطرف اليمين في انحاء المعمورة . تجلى التنكر للحقائق والوقائع خاصة سبب اختلالات المناخ ووباء كوفيد 19 والتجني على حركة السود دفاعا ضد القتل المتعمد والدعم المطلق لنهج إسرائيل.
اورد لورنس في مقالته المنشورة في 9يناير / كانون ثاني:

اثنتان من الجامعات الأميركية انحدرتا لمستويات أدنى في زراعة الجهل في الآونة الأخيرة، رغم عدم اليقين في هذه المرحلة أين يفترض قاع التردي.
في مكان ما عبر الخط الهابط يبدو أن الفكر قد سيطر على نخبة الحكم في الولايات المتحدة ان الحكم أسهل مع الجمهور الجاهل. طرح برتراند راسل هذه النقطة العامة بقدر من البلاغة بحيث بدت واخزة مؤلمة،" الفكر الحر والبروباغاندا الرسمية"، وذلك في محاضرة القاها بلندن قبل اكثر من مائة عام، إذ قال:
"غير ان استعمال الذكاء لا يسمح به إلا نظريا ، وليس عمليا؛ فمن غير المرغوب فيه ان على الناس العاديين ان يفكروا من أجل أنفسهم؛ يسود الشعور بان من يفكرون من أجل أنفسهم أصلب قيادا ويسببون مشاكل في الإدارة.
انت ترى عواقب هذا الاعتقاد المنكفئ للوراء كل يوم في الصحافة الرئيسة وفي أوساط مذيعي المحطات المملوكة للشركات الكبرى. تستطيع قراءة عناوين مثل "10 أساليب لأن تكون سعيدا في العام الجديد" او " أين ذهب جميع البوربورن؟"[ نوع من الويسكي الرديء حمل اسم عائلة بوربوبن الحاكمة في فرنسا قبل الثورة، وعادت بنفس أساليب الحكم بعد واترلو ونفي بونابرت-المترجم].
غير انك لا تنوي تعلم الكثير من هذه الميديا عن العالم الذي تعيش فيه؛ ذكاؤك لا يرتقي أو يستحث. فالإهانات هي المألوف. غير أن الميديا الجماهيرية هي مجرد مرايا تعكس الأخلاق المرسومة من قبل الدولة التي تنشط فيها؛ تعمل ما بجهدها كي تبقي الأميركيين جهلاء، بكل تأكيد. ولو ارادت نخب الحكم في اميركا الاعتزاز بجمهور ذكي فان الصحافة والمذيعين سيقدمون ما عليهم - مثلما أدرك جيفرسون هذا الجانب كيف يكون- كي يضعوا المعلومات بمتناولهم.
لا، فحتى الناقد الصحفي ، المتشدد بقدر معلقك المفضل يتوجب عليه النظر أسفل بعيدا في المصنع كي يدرك أين تبدأ حقا عملية صناعة الجهل في أميركا؛ فهي تبدأ في مدارسنا وجامعاتنا مع المديرين والمعلمين والبروفيسورات ممن يديرونها.
صحيفتا نيويورك تايمز و واشنطون بوست تفضلان حمل القراء على النظر اليهما بجدية؛ وانا واثق من ان ذلك لن يحدث إلا بشرط أولي، تكييف أولئك الذين ينظرون اليهما بجدية ليكونوا " الغنم الممتازين" ، وهو التعبير الذي التقطه وليم ديريزيويكزمن أحد طلبته بجامعة ييل ووظفه فيما بعدعنوانا لكتابه الصادر عام 2015 " قطيع غنم ممتازة: سوء تعليم النخب الأميركية والطريق لحياة ذات معنى".
عاد راسل بعنف الى نفس النقطة ، حيث أفرز أميركا " ليست أسوأ من غيرها لكن لأنها الأكثر حداثة":
"يجب أن لا يفترض بأن المسئولين الرسميين عن التعليم يرغبون في أن يتعلم الصغار؛ بالعكس من ذلك ، فمشكلتهم تكمن في تلقي المعلومات دون تلقي الذكاء"[عمليا التردي الى مستويات العالم الثالث؛ اليس هذا دأب التعليم في مدارسنا وجامعاتنا].
ليست أفكاري حول هذه الأسئلة بالجديدة؛ فلعدة سنوات خلت وجدت ان حالة أدمغة الصغار –تعميم مع استثناءات عدة-ولكي لا تدعو للامتعاض ، نظرا لنقص في معارفهم ، وفي العمق، وفي الذكاء ، وخاصة في التاريخ. اسارع لإبداء ملاحظة في النقاش مع جيلي بأن الخطأ هنا يكمن الى حد كبير فينا: فنحن الذين قترنا في مبادئ " الفكر الحر"، وهو ما يعرف لدى الجزويت بالقدرة على فهم الغموض- نحن الذين أبدينا الإصرار على أن يتلقى كل شخص جائزة وان لا يفشل أي طالب أبدأ، نحن الذين أرسلنا الشبان والشابات ممن لا يستطيعون القراءة الى الجامعات ، حيث تبقى في إطار المعتاد أن لا أحد يفشل. نحن بالذات الذين فشلنا.
لنقدم "شرطين" يستحقان الذكر؛ يتوجه أحد الى مدرسة الحكومات بجامعة هارفارد، وأخر الى هاملاين، جامعة ميثودية صغيرة في سنت بول بولاية مينيسوتا. هاتان الجامعتان هبطتا بزراعة الجهل منخفضات جديدة ، وذلك على الرغم من ان المرء يتردد عند هذه النقطة في الافتراض اين القاع.
هارفارد وكينيث روث
تشغل الجمهور حالة هارفارد مع كينيث روث، الذي تخلى في الربيع الماضي عن منصب المدير التنفيذي لمنظمة هيومن رايتس ووتش. بعد مدة قصيرة عرضت سوشما رامان، المديرة التنفيذية لمركز كار من اجل حقوق الإنسان بمدرسة كندي مركزا مرموقا على روث.
يبدو من الملائم تماما ان فكرة روث عن حقوق الإنسان تتطابق تماما مع الأرثوذكسية الأميركية؛ كل شيء مضى على ما يرام الى ان استقر العرض على موافقة شكلية من مكتب دوغلاس المندورف، الذي يشغل منصب عميد مدرسة كندي.
رفض المندورف ترشيح روث؛ وفي الحال اتضح ان سجل روث بالنسبة لإسرائيل هو الذي أغرق سفينته، وبالذات تقرير هيومان رايتس ووتش الذي تضمن إدانة إسرائيل بانها دولة ابارتهايد. اورد ميشيل ماسينغ كل ذلك بالتفصيل في "لماذا عراب هيومان رايتس غير مرحب به في هارفارد"، والمنشور في مجلة "ذا نيشن" الصادرة في يناير 2023.

لنكن واضحين الأن في عدة امور . قدمت هيومان رايتس ووتش احكاما تدعو للإعجاب أثناء تولي روث إدارتها؛ ودمغ إسرائيل دولة إرهاب احد هذه المواقف، واحتاجت الى شجاعة ، وكان على روث ان يعرف اين يتوجه في ضوء الاتهام باللاسامية.
شغل روث سابقا منصب محامي في وزارة العدلية؛ وهو في الحقيقة صنيعة الامبريالية الأميركية، واحد رسل حقها للحكم على سلوك الأخرين جميعا، والتدخل حين يكون ذلك ملائما . وكانت نيويورك تايمز قد مجدته ك " عراب حقوق الإنسان".
حقا، كما ذكر ماسينغ، ان هيومان رايتس ووتش، خلال سنوات إدارة روث ال 29 ، قد تضخمت بصورة هائلة ؛ وهذا لا يهمني بحد ذاته؛ سنوات إدارة روث كانت فترة تحويل دولة الأمن القومي مهمات التخريب وتدبير الانقلابات من السي آي إيه الى الهيئة الوطنية لدعم الديمقراطية و الى مشهد " المجتمع المدني"؛ غدت هيومان رايتس ووتش ، بناءً عليه، المشرف الرئيس على " التدخل الإنساني" والغطاء لعدد من التدخلات الأميركية غير المشروعة في الخارج.
وفي النهاية، فهي قضية اين يقف المرء بصدد مسألة السلوك الأخلاقي الأميركي. منذ زمن وانا فاقد الثقة بالموقف الذي اتخذته منظمة هيومان رايتس ووتش تحت قيادة روث.
دعنا الأن، وقد قلت ما سبق، أن نتركه جانبا؛ فتحت اي شروط لا اعتبر انتقادي لروث سببا لرفض ترشيح روث؛ ونفس الأمر مع رفض المندورف؛ فالاثنان غير مثقفين.
لو كان يتمتع بادنى خواص الإداري المؤهل لركض ميلا في الاتجاه المضاد – معلنا روث إضافة مرحب بها للكلية لأنه سوف يخصب نقاش المدرسة حول امور مثل إسرائيل ويحض طلبتها على البحث عن استخلاصات تتعلق بإسرائيل وامور كثيرة اخرى.
"التعليم"، لنعود الى برتراند راسل من جديد،" يهدف الى توسيع العقل، لا أن يضيقه"؛ المندورف لم يقرأ رسل قط؛ دمج التعليم مع " البروباغندا والضغوط الاقتصادية" تماما مثلما صنف الفيلسوف البريطاني كل من على شاكلة المندورف.
بالقرار المتعلق بروث في العام الفائت بدت هارفارد أكثر شحا - أفقر في السبل ذات الأهمية حقا.
ونفس الأمر مع جامعة هاملاين في سياق مختلف؛ كلا المؤسستين يحدوهما الوله للحفاظ على الهبات ومداخيل الرسوم، تفقران الذات والطلبة بما يعمق الجهل ، والنتيجة الوحيدة لذلك دولة أضعف.
هاملاين وإريكا لوبيز براتر
إيريكا لوبيزبراتر أكثر العاماء مدعاة للشفقة، أستاذة مساعد- تتلقى راتبا أقل مما تستحق، لم تعد تصلح لشيء، لا تحسن الدفاع عن نفسها تجاه الهجوم على اسلوب تدريسها ؛ وإذا كانت حكايتها مملة أقل من حكاية روث، فإنهاعلى اقل تقدير مثيلتها في الجبن من حيث تفاصيل الحكاية.
في الخريف الماضي كانت لوبيز براتر تقدم محاضرات في تاريخ الفنون، حيث اقترحت توسيع حقل الدراسة ليتجاوز الفن الغربي وتقدم " تاريخ الفن في العالم"، شيء اقرب لمعنى الفن الحقيقي.. في هذه القضية قررت ان تعرض على الطلبة سلايدات لمختلف صور الفن غير الغربي، وبعضها ديني.
من بين الصور لوحة تعود للقرن الرابع عشر، أجمع النقاد على انها أفضل لوحات الفن الإسلامي. كانت صورة (للنبي) محمدعثر عليها في كتاب حمل العنوان"جامع التواريخ، مجموعة من احداث متعاقبة "، كتبه رجل دولة فارسي ، مؤرخ وطبيب يدعى رشيد الدين ، وكان شخصيةعجيبة: يهودي أسلم وتسلق مدارج السلطة في بلاط المونغول، الذي حكموا بلاد فارس حقبة من الزمن.
اتخذت لوبيز جميع الاحتياطات المتوقع مواجهتها في عصرنا المليء بالمكاره، المراقبة والتصحيح السيايين. نصحت في برنامج العمل انها تنوي عرض صور؛ دعت طلبتها التوجه اليها حيال اي شكوك تراودهم .
لا احد راجعها ، وعندما حان وقت عرض لوحات كتاب جامع التواريخ أعلنت عن نيتها قبل دقائق ودعت الطلبة ممن قد يعترضون تسجيل خروجهم من محاضرة اليوم، التي كانت معدة للعرض. ما من طالب سجل رغبة في التغيب.
ثم عرضت الصورة . حينئذ اشتكى طالب مسلم سوداني يدعى ارام ويداتالا ؛ طردت إدارة جامعة هاملاين إيريكا لوبيز براتر.
"من المهم ان يشعر الطالب المسلم بالأمان، شأن غيره من الطلبة، ويلقى الدعم ويحظى بالاحترام داخل الصف وخارجه"، كما صرح رئيس الجامعة فانيسي ميللر في بيان أصدره ، وبعد ذلك وضع توقيعه على رسالة إليكترونية تنص على ان احترام الطلبة المسلمين " يجب ان تعلو على الحرية الأكاديمية".
أدعو القراء تتبع منطق هذين البيانين حتى الأفق. انئذ سوف تجدون ليس جامعة هاملاين في ورطة ، بل كلنا متورطون.
يسقط الفك(دلالة الاستغراب الشديد). اولا في ضوء جميع الأطواق التي قفزت لوبيز براتر عبرها كي تمهد الطريق – اكثر مما كنت لأهتم انا بها – فإن هذا يبدو مرعبا مثل قضية فخ صممه طالب في مسيس الحاجة للاهتمام يفيض بالسلوك الصحيح أخلاقيا. وثانيا ان إدارة جامعة هاملاين تدخل، كما يبدو على الأقل في مباراة مع طلبة أمثال ارام ويداتالا معيارها ضعف العقل.
وصف الأمر العلاّمة تود غرين ، الخبير في موضوع الإسلاموفوبيا ، إدارة جامعة هاملاين "قد أغلقت المحادثات في وقت توجب فيه أن تفتح". حسنا برفيسور غرين.
وردت قضية لوبيز براتر في تقرير جيد بصحيفة نيويورك تايمزيوم الأحد [7يناير]تحت العنوان" محاضِرة عرضت لوحات عن النبي محمد، فصلت من وظيفتها". انتظرت متوقعا أن تنشر التايمز الصورة موضع المشكلة او تغلق خلسة الباب الجانبي. فعلت ما يجب فعله، وظهرت اللوحة عملا فنيا شديد الروعة.
القرآن، يجب على ان أشير، لا يتضمن منع عرض صور النبي، كما يتوجب ان يكون واضحا في ضوء منشأ اللوحة. فهذا المنع تمت إضافته بتعليمات القرون التوالي.
برنامج حقوق ألإنسان بجامعة هارفرد وقسم تاريخ الفنون بجامعة فنون صغيرة في وسط الشرق:الى أين نحن متجهون؟هل نحن نفتح أذهان الأميركيين ام نغلقها؟
في خطاب موجه الى سيمينارات قبل سنوان ست، تناول البابا فرنسيس، وهو جزويتي، مسألة الفضيلة، التي اعتبرها الموضوع الملح في أيامنا في ضوء غيابها المديد.هنا أقتبس جزءا مما ورد في خطابه: " الفضيلة اختيار الشجاعة ، على الضد من طرق تصلب الذهن المريحة أكثر والتبسيطية اكثر؛ ومن اللامبالاة، كما قلت مرارا وتكرارا. يُقصَد بتعليم الفضيلة، في الحقيقة، الهرب من إغراء البحث عن ملاذ خلف قاعدة متزمتة او خلف صورة لحرية مثالية؛ تثقيف الفضيلة يعني أن ’يهيئ ‘ المرء نفسه للخروج من عالم قناعاته وتخرصاته..."
لوبيز براتر تبدو في نظري أستاذة ذات بصيرة، وربما تجد وظيفة في مؤسسة أكثر جدارة؛فهي تمضي بالطريق التي اعتاد راسل توصيفه، شخص خجول/ قد تبقى خجولة.
وكينيث روث ؟ افترض، بتردد ناشئ من عدم الثقة الذي أفصحت عنه،علي ان اعترف انه قد اثبت انه قادر على الشعور بالخجل في مناسبات معينة.غيرانه لاعب بيروقراطي ، وسهل المعالجة، لدرجة يصعب احتسابه من بين أصحاب البصيرة المثيرين للإعجاب .
نمطان من الناس ، كلاهما يتوجب ، رغم كل ما ذكر، الدفاععنهما ضد القوى التي تنمرت عليهما في العام الفائت، أولئك المكرسين لخفوت الأضواء والهبوط بعقول الأميركيين الى مستوى ضيق عقولهم.



Patrick Lawrence, a correspondent abroad for many years, chiefly