العبودية والاعتذار الهولندي


عبد الحسين شعبان
2023 / 1 / 24 - 12:06     

لا شكّ أن اعتذار مارك روته رئيس الوزراء الهولندي الرسمي عن دور هولندا في العبودية (19 ديسمبر / كانون الأول 2022)، يعتبر شجاعة فائقة حتى وإن جاءت متأخّرة. وهو اعتذار " لجميع العبيد في جميع أنحاء العالم الذين عانوا من هذا الفعل، لبناتهم وأبنائهم ولكلّ أحفادهم"، بصفتها جريمة ضدّ الإنسانية. فهل يكفي مثل هذا الاعتذار لطي صفحة الماضي على أهميته، أم أنه الخطوة الأولى الضرورية والتي لا بدّ منها عمليًا وإنسانيًا؟
لقد شُيّد العصر الذهبي للإمبراطورية الهولندية (القرنان السادس عشر والسابع عشر) على أكتاف "العبيد" الذين تاجرت هولندا بأكثر من 600 ألف إنسان كرقيق وباعتهم إلى العنصريين البيض في أمريكا اللّاتينية والكاريبي في المستعمرات التي شملت سورانيوم وجزيرة كوراساو الكاريبية وجنوب أفريقيا وإندونيسيا؛ وقد عومل السكان الأصليون لهذه المستعمرات معاملة قاسية ووحشيّة من جانب المستعمرين الهولنديين الذين نهبوا ثروات هذه البلاد.
واستمرّت جريمة الاسترقاق والاتجار بالبشر لنحو 250 عامًا والتي جرى تحريمها لاحقًا حسب القانون الإنساني الدولي. وكانت هولندا ضالعة فيها، حيث تمّ تحويل البشر إلى سلعة بامتهان كرامتهم الإنسانية بطريقة مروّعة ونقلهم من بلدانهم إلى بلدان أخرى وبيعهم في سوق النخاسة واستغلالهم.
وإذا كان الأول من يوليو / تموز المقبل 2023 يصادف مرور 150 عامًا على تحريم العبودية دوليًا، إلّا أن بقاياها وتأثيراتها وثقافتها المباشرة وغير المباشرة ما تزال مستمرة. ولكي يتم القضاء عليها فلا بدّ من خطوات عملية ملموسة ومتدرّجة في إطار مفهوم العدالة الانتقالية مثل تحديد المسؤوليات وكشف الحقائق عمّا حصل بالتفصيل وجبر الضرر بإبقاء الذاكرة حيّة، وإزالة كل ما يمكن من شأنه خدشها أو إيذائها بتمجيد الزعماء والمسؤولين عن العبودية مثلًا. وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية الوطنية والدولية وأجهزة إنفاذ القانون في كلّ ما من شأنه يُعيق ذلك ويبقي على العنصرية والتمييز قانونيًا وعمليًا.
إن قرونًا من الاستغلال والاذلال لا يمكن محوها لمجرّد الاعتذار، فإرث هولندا الغني ومدنها المزدهرة اليوم ومتاحفها ما كانت لتقوم لولا الاتجار بالبشر. وقد سبق لمدن أمستردام وروتردام وأوتريخت ولاهاي أن قدّمت اعتذارات رسمية عن دورها في تجارة الرقيق، خصوصًا حين بدأت حركة "حياة السود مهمة" العام 2013 في الولايات المتحدة، وكذلك عقب حركة الحقوق المدنية التي قادها القس مارتن لوثر كينغ منذ العام 1955، والتي حقّقت أهدافها بصدور قوانين تحرّم العنصرية في العام 1964.
العدالة التعويضية من آثار العبودية والاستعمار هي التي تفتح الطريق وتنقي الأجواء، لذلك كان ينبغي أولًا إجراء مفاوضات مع بلدان الضحايا، إذْ ليس تخصيص 200 مليون يورو كافيًا لتحقيق وعي نوعي جديد ضدّ الاستعباد، فحتى اليوم 38% من الهولنديين يؤيدون الاعتذار، الأمر الذي يتطلّب جهدًا مثابرًا وطويلًا لتعويض هذه البلاد والعمل على تنميتها وتقدّمها.
وحين انعقد مؤتمر ديربن الدولي ضدّ العنصرية العام 2001، وكان لي شرف المشاركة فيه كعضو في اللجنة التحضيرية العربية، كانت المطالبات ترتفع لإدانة العنصرية وممارستها، وشملت مطالبة الولايات المتحدة الاعتذار عما حصل لسكان البلاد الأصليين، ومطالبة "إسرائيل" بالتوقف عن ممارساتها العنصرية والاعتراف بحقوق الشعب العربي الفلسطيني، بما فيه حقّه في الوجود وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
وكانت بلجيكا، على لسان الملك فيليب، قد أعربت عن أسفها العميق للفظائع التي ارتكبت خلال الحكم الاستعماري لبلاده في جمهورية الكونغو الديمقراطية (القرن التاسع عشر خصوصًا)، ولم يرتق ذلك الأسف إلى الاعتذار الرسمي وما يترتّب عليه.
واعتذرت فرنسا لرواندا عن المجازر التي لحقت بها على أيدي قبيلة التوتسي التي دعمتها وأدّت إلى مقتل ما يقارب عن مليون إنسان، لكنها لم تعتذر للجزائر عن ما يقارب 132 عامًا من الاستعمار والقمع ومحاولات محو الهويّة. وحين أعادت بعض الجماجم الخاصة بالمجاهدين الذين استشهدوا في فرنسا والتي احتفظت بها في متاحفها، لكنها ظلّت ترفض بإصرار تقديم اعتذار رسمي واضح وصريح عن استشهاد ما يزيد عن مليون إنسان، حتى وإن أبدت الأسف؛ ولم تعتذر إسبانيا للمغرب عن استعمارها واستخدامها أسلحة محرّمة دوليًا.
كما لم تعتذر بريطانيا عن نكبات العرب خلال القرن العشرين والتي ما تزال مستمرّة إلى اليوم وأبرزها اتفاقية سايكس - بيكو السريّة بينها وبين فرنسا، وما حصل لاحقًا في فلسطين ابتداءً من وعد بلفور إلى تشريد ما يقارب عن 800 ألف فلسطيني من ديارهم، بعد قيام "إسرائيل" العام 1948، وشنّ حروب بلا توقّف ضدّ البلاد العربية.
المطلوب اعتذار جماعي عن جرائم العبودية من جانب أمريكا وإسبانيا والبرتغال وفرنسا وألمانيا أيضًا، وعلى بلدان العالم الثالث ومنظمات المجتمع المدني ألّا تكف عن المطالبة المشروعة بالاعتذار والتعويض المادي والمعنوي عن الماضي الاستعماري والاحتلال والمجازر بما فيها ما حصل في أفغانستان والعراق من جانب الولايات المتحدة.