متى يتصالح العراقيون مع أنفسهم ؟


داخل حسن جريو
2023 / 1 / 17 - 04:42     

ثمة مقولة كان يرددها الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في سياق حديثه لتسويق الحرب التي تورط فيها مع إيران في عقد الثمانينيات من القرن المنصرم وراح ضحيتها آلاف العراقيين والإيرانيين , مفادها أن "العراقي يكاون جلده , إن لم يجد من يتكاون معه ", بمعنى أن الفرد العراقي يتشاجر مع نفسه ,إن لم يجد من يتشاجر معه , أي أن الفرد العراقي بطبيعته شخصا مشاكسا وعنيفا, يفتعل المشاكل كي يتقاتل مع الآخرين لسبب او بدونه , فأن لم يجد من يتقاتل معه,فأنه يتقاتل مع نفسه, وكأن القتال هواية يتسلى بها , وليست جريمة تزهق فيها الأرواح وتتنافى مع مبادئ الأرض والسماء ويعاقب عليها القانون حيث قد تذهب ضحيتها أرواح. ومن هذا المنطلق يعتبر صدام حسين الحرب العراقية الإيرانية فرصة يمارس فيها العراقيون هوايتهم القنالية لتفريغ شحنة العنف التي إمتلأت بها نفوسهم ,بحسب مقولة صدام حسين آنفة الذكر , وإلاّ كيف تفسر تلك المقولة ؟.
فلا عجب أن ينتقل العراق من حرب مدمرة دامت ثمان سنوات, إلى حرب ألعن منها دون مبالاة أسماها أم المعارك , فالمعارك في نظره ولّادة الواحدة تلد الأخرى في مسلسل معارك لا تنتهي , وعدم إكتراث لما قد ينجم عنها من تضحيات وخسائر مادية وبشرية لا موجب لها . تكبد العراق جراء هذه الحروب المجنونة آلاف الضحايا ودمار هائل لحق بمؤسساته, أعقبه حصار شامل ظالم طال كل مفردات الحياة , إستمر لأكثر من عقد من الزمان , وفقد العراق سيادته على أرضه ومياهه وسمائه , وراحت فرق التفتيش الدولية سيئة الصيت تصول وتجول في جميع أرجاء العراق بما فيها القصور الرئاسية , بحثا عن أسلحة دمار شامل مزعومة . والغريب أن تكاليف زيارات هذه الفرق وإقامتها تتحملها الحكومة العراقية , ولا يحق للعراق تقييد حركتها أو الإعتراض على تصرفاتها وإنتهاكاتها لسيادة العراق وكرامة مواطنيه بكل صلافة, بل عليه الإذعان والطاعة لكل ما تطلبه .
وبرغم ما لحق بالعراق من دمار شامل وإهانة لكرامته الوطنية وإنتهاك لسيادته الوطنية في أرضه ومياهه وسمائه , حيث لم يكن مسموحا للطيران العسكري والمدني العراقي التحليق في الأجواء العراقية , ولم يكن مسموحا للعراق التصرف بثروته النفطية وموارده الطبيعية بأي شكل من الأشكال , وإخرجت محافظات السليمانية وأربيل ودهوك عن سيطرة الحكومة العراقية حيث سلمت إدارتها إلى الحزبين الكرديين , الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الإتحاد الوطني الكردستاني . كان قادة النظام السياسي يتحدثون عن النصر العظيم الذي حققوه بمجابهة أقوى دولة في العالم , بقولهم أكبر لا لأعظم دولة في العالم , غير مكترثين لما حل بالعراق والعراقيين من كوارث ومصائب وويلات. ويبدو أن ما كان يهمهم في المقام الأول هو إستمراهم بالسلطة ولو على أنقاض العراق , وما داموا قابضين على زمام السلطة بأية صورة كانت فهذا يعني في نظرهم نصرا مبينا .
ولم تكتف الولايات المتحدة الأمريكية بكل ما حل بالعراق من خراب ودمار وجوع ومرض على مدى أكثر من عقد من الزمان , راحت تفتعل الأزمات لتجد المبررات لغزو العراق وإحتلاله عام 2003, لتنهي بذلك الدولة العراقية برمتها , وتعم الفوضى في كل مكان في إطار ما أطلقت عليه الإدارة الأمريكية مصطلح " الفوضى الخلاقة " , تمهيدا لبناء "نظام ديمقراطي" في العراق يكون إنموذجا مشعا للديمقراطية الأمريكية في العالم العربي وعموم منطقة الشرق الأوسط , تنعم فيها دول المنطقة بالأمن والإستقرار , وينعم فيها العراق بالحرية والأمن والآمان والعيش الكريم الذي يحفظ كرامة الإنسان في أجواء الديمقراطية على حد زعمهم . والحقيقة أن مخطاتتهم كانت ترمي إلى جعل العراق بؤرة للإرهاب يتجمع فيها الإرهابيون من مختلف دول العالم , ليسهل على الأمريكان وحلفاؤهم بإعتقادهم , القضاء عليهم بعد أن يتم حصرهم في بلد واحد . وبذلك يكونوا قد خلصوا الولايات المتحدة والدول الحليفة لها من شرور الإرهاب في بلدانهم , ولا يهمهم ما سيلحق بالعراق من أضرار بجعله ساحة حرب دولية , فحياة شعوب دول العالم الثالث رخيصة في نظرهم ولا تعني شيئا لهم .
ولسوء حظهم العاثر لم تتطابق حسابات الحقل مع حسابات البيدر , فقد جاءت النتائج عكسية تماما , حيث إزدادت العمليات الإرهابية في جميع أرجاء العالم بعامة , وفي العراق بخاصة الذي لم يشهد أية عملية إرهابية قبل غزوه وإحتلاله عام 2003, تكبدت فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها مئات الضحايا حيث لم تجد ترسانتها العسكرية نفعا في هكذا حروب, وكما هو متوقع كان العراق فيها الخاسر الأكبر على كل الصعد.
وفي خضم هذه الأوضاع الملتهبة , لعبت الإدارة الأمريكية والجماعات الإرهابية التكفيرية , على وتر الحساسيات الدينية والطائفية والأثنية , بهدف هدم النسيج المجتمعي العراقي المتعايش مع ذاته منذ سنين طويلة , وصرف نظره عن المخططات الأمريكية الخبيثة , وتحويل الصراع إلى صراع عراقي عراقي . فقد شهد العراق على مدى أكثر من عشر سنوات من غزوه وإحتلاله أعمالا إرهابية فضيعة , وبخاصة في بغداد ومحافظات غرب وشمال العراق , تحولت فيما بعد إلى حرب طائفية طاحنة في الأعوام (2005 -2007) في أعقاب هدم المرقدين العسكريين الشريفين في سامراء .
تمكنت الجماعات الإرهابية التكفيرية عام 2014من السيطرة على كامل محافظة نينوى ومعظم مدن محافظة صلاح الدين ومحافظة الإنبار وبعض مدن محافظة ديالى ومحافظة كركوك , وإعلانها دولة "الخلافة الإسلامية في العراق والشام " , وإتخاذها من مدينة الموصل عاصمة لها . إرتكبت هذه الجماعات أعمال تطهير واسعة بحق بعض سكان هذه المناطق من المسيحيين والأيزيدين والشبك والشيعة , وكل من لا يستسلم لإرادتهم الشريرة ولا يلتزم بطقوسهم المنافية لكل دين. ولم تسلم من معاول هدمهم الكنائس والمراقد الدينية ومعالم مدينة الموصل التاريخية ومواقعها الأثرية . تمكن العراق من دحر الجماعات الإرهابية وإستعادة السيطرة على كلمل التراب العراقي عام 2017 ,بفضل تضافر جهود القوات المسلحة العراقية وتشكيلات الحشد الشعبي التي تشكلت بعد صدور فتوى المرجعية الدينية العليا قي النجف الأشرف بالجهاد الكفائي لتحرير الأراضي العراقية من سيطرة الجماعات الإرهابية التكفيرية , ودعم قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية .
يعتقد كثيرون أن التوترات الطائفية وما شهدته محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى من إعتصامات عام 2012 ,مدعومة بخطابات الكراهية من قبل بعض رجال الدين,والتي تم فضها بالقوة من قبل الحكومة عام 2013 ,قد هيأت الأجواء ومهدت الطريق لسيطرة الجماعات الإرهابية التكفيرية على تلك المحافظات ,حيث لم تلق تلك الجماعات أية مقاومة من سكانها , ربما ظنا منهم بأنها جاءت لتخليصهم من هيمنة القوات المسلحة العراقية التي لم يحسن بعض أفرادها التعامل معهم . وأيا كانت الأسباب فقد دفع العراق ثمنا باهضا في الأرواح والمال والممتلكات جراء تلك الأعمال, وتركت جروحا لم تندمل بعد في الجسد العراقي.
لا نرى ضرورة للخوض بالمزيد لما تعرض له الشعب العراقي من مصائب وويلات على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان , وبخاصة في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق وإحتلاله عام 2003 وما رافقه وأعقبه من أحداث دامية, بل نكتفي بهذا القدر اليسير الوافي لما عاناه العراق والعراقيون , ونقول أما آن الأوان لتضميد الجراح وإيقاف نزف دماء الأبرياء جراء صراعاث عبثية لا معنى لها , وقودها وضحاياها نفوس عراقية مغلوب على أمرها , لاسيما أن هذه الصراعات لم تفض إلى حلول لمشاكل العراق , بل زادتها فوضى وتعقيدا أكثر فأكثر, وجعلت من العراق مسرحا لعصابات الجريمة المنظمة ومافيات الفساد الذي بات يضرب كل مفاصل الدولة ويلتهم ثروات العراق, بينما يبحث فقراء العراق عن قوت يومهم في مكبات النفايات في بلد أحباه الله بالثروات الوفيرة والخير العميم .
ونقول أن العراق أكبر من كل كبير , فالسطة تزول والعراق باق إلى الأبد بإذن الله , فليترك من بيده السلطة ذكرى حسنة في نفوس الناس , بحسن التصرف بالمال العام وصيانته وحفظ أرواح الناس والحفاظ على أعراضهم وممتلكاتهم , وتأمين العيش الكريم لهم في أجواء من الحرية وسيادة القانون ودون خوف أو وجل , وهذا يتطلب التسامي فوق أهواء النفس والتحلي بحسن الخلق بالأفعال لا بالأقوال فحسب, والكف عن إثارة الأحقاد والكراهية والضغائن بين الناس , تحت أية ذريعة وأي مسوغ لملاحقتهم , وترك القوانين تأخذ مجراها بحق كل من أساء أو أجرم بحق العراق والعراقيين سابقا أو حاليا أو لاحقا , فقضية العدل واحدة لا تتجزأ أبدا . ولا يجوز معاقبة الناس لمعتقداتهم طالما أنه لم يصدر منهم ما يعكر صفو السلم الأهلي , أو يثير الحقد والكراهية بين الناس أو ينتقص من كرامتهم , أو يهدد أمن العراق ومصالحه . وفي جميع الأحوال يجب أن تعالج جميع هذه الأمور في إطار القانون .
ولا يمكن إنتشال العراق من أوضاعه المضطربة وتشتته , ما لم تخلص النوايا وتتصافى القلوب وتتغلب لغة الحوار والعقل والحكمة, وتتخلص النفوس من عقد الماضي وسلبياته ومآسيه التي تركت ندبا سوداء في بعض النفوس . ولنا قدوة حسنة بتصرف رسولنا الأعظم محمد بن عبد الله (ص) عند فتح مكة المكرمة تجاه خصومه , بحسن المعاملة ودون إذلال بهدف توحيد المجتمع المكي وإعلاء شأن المسلمين , فقد عفا عنهم عفو الكريم المقتدر , وبالمقابل أقر خصومه بدعوته الإسلامية , وهكذا تكون المصالحة الوطنية التي تحفظ للجميع كرامتهم دون إقصاء أو تهميش .