قراءة في كتاب: دين العقل وفقه الواقع


عبد الحسين شعبان
2023 / 1 / 9 - 14:21     

مناظرات مع الفقيه السيد أحمد الحسني البغدادي
للأستاذ الدكتور عبد الحسين شعبان


أ.د. باقر الكرباسي / جامعة الكوفة


يتحدّد الوعي عبر المسار البشري بمراحل عدة , ففي بعض الأزمان يكون مساره تصاعدياً , وفي بعضها يكون مساره تنازلياً سيئاً , كما هو حاصل اليوم في مجتمعاتنا , حيث الهيمنة الدينية المتصاعدة التي تعصف بالمجتمع لدواع شتى , تارة دواعي حفظ الدين من التلاعب وتارة وصم الفكر التنويري بالإلحادي بغية تسقيطه وشن حرب على مريديه مما يستدعي الوقوف للإيضاح بأنَّ الفكر التنويري ليس فكراً إلحادياً , أو مقصده تسقيط الدين والتراث بل هو فكر تقدمي غايته أن يتقدم بالمجتمع ويخرجه من هيمنة المؤسسة الدينية ودورها المقيت في السيطرة على مقدرات المجتمع المادية والمعنوية على حدّ سواء .
أسوق هذه المقدمة وأنا أبدأ بقراءة كتاب مهم صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت ب٣٢٠ صفحة وبطبعته الأولى / حزيران/ 2021, الكتاب هو ( دين العقل وفقه الواقع- مناظرات مع الفقيه السيد أحمد الحسني البغدادي-) , للأستاذ الدكتور عبد الحسين شعبان المفكر العراقي المعروف عربياً وعالمياً , وهو أحدُ المفكرين الفاعلين والمنفتحين على تيارات عديدة , و كتابه هذا يعد التفاتة ذكية وجريئة في تناوله قضايا عديدة مسكوتاً عنها منذ أمد بعيد , وهو حقوقي عالمي عمل طويلاً في مجال حقوق الإنسان و أبدع في أكثير من سبعين كتاباً في قضايا الإنسان المعاصر , وهو أحد المؤسسين للشبكة العربية للتسامح في التاسع من أيلول سنة 2008م ومشاركاً في إعداد وثيقتها النظرية , له إسهامات متميزة في إطار التجديد و الحداثة والثقافة والنقد , وهو ينتمي إلى العقل و إلى حركة الحياة المتغيرة وديدنه التنوير وحقوق الإنسان والعدالة الإجتماعية , وحين شرعت بقراءة الكتاب وجدت نفسي مشدوداً إلى متابعته بفضول كبير.
وكنت قد تابعت كتابه السابق الموسوم ( الإمام الحسني البغدادي) مقاربات في سسيولوجيا الدين والتاريخ والسياسة - والسيد أحمد الحسني البغدادي أحد رجال الدين الذين أعطوا السياسة حيزا واسعا في مناظراتهم على الرغم من الإنفصال بين حقلي الدين والسياسة , فموافقه الراديكالية وجذريته السياسية كانت متواصلة ومتصاعدة خصوصاً في إزاء القضايا المصرية التي تهم الأمتين العربية والإسلامية , ولقد وجدت وأنا أقرأ هذا الكتاب القيم مواضيع أساسية تم تداولها بهذا الشكل على القارئ للمرة الأولى في تاريخ الثقافة العراقية المعاصرة .
يكتب الدكتور عبد الحسين شعبان في (على سبيل التمهيد) قائلا : ( في الحديث عن الدين والتدين , الدين والعقل, الدين والواقع, الدين والعلم, الدين والقانون, ما زالت الحقبة المظلمة التي يقابلها في أوروبا القرون الوسطى تسكن الكثير من عقولنا وتعشش في لغتنا السائدة والمستخدمة بقواميسها ومفرداتها واشتقاقها وأحكامها وتتحكم في سلوكنا وتهيمن على عاداتنا وتقاليدنا لتفرض الركود والرتابة والنمطية والشكلانية على حياتنا وتفرش جناحيها على نمط تفكيرنا لتجبرنا إلى الماضي بدلاً من التطلع للمستقبل ) ص9 .
ويقول الدكتور شعبان في فقرة أخرى : (ما نحتاج إليه اليوم هو إخضاع مالدينا من سلطات ومؤسسات ولغات ومعارف وموروثات وأخلاقيات وقوانين وطرائق تدين وإيمانيات ((بعضها))لا علاقة له بالدين, للنقد حتى وإن كان خروجاً على المسلمات واليقينيات , ما دام هدفه البحث عن الحقيقة , الأمر الذي يحتاج إلى انفتاح واستعداد فكري يسعى لتقبل ما ينسجم مع الثورة التي يشهدها القرن الحادي والعشرون على جميع المستويات التي تجاوزت ما انتجه هو العقل البشري على مدة خمسة قرون من الزمان, وهذا يعني ضرورة أدراك ((روح العصر)) الذي نعيش فيه ومتغيراته بكلياته وجزئياته , بأفكاره النظرية وملموساته العملية , لإعادة إنتاج الفكر بما يؤدي إلى التواصل , بدلا من الإنقطاع والحلول , بدلاً من النفي والإنبعاث, بدلا من القطعية , وليتساوق مع التغيرات على الصعيد الإقتصادي والإجتماعي والثقافي والتكنولوجي والعملي والبيئي والصحي والنفسي وفي جميع الميادين ) ص10 , أي إعادة قراءة ما أملاه علينا السلف من قناعات ومسلمات واطروحات وإخضاعها للنقد, ويعني هذا لابد من أشتغال العقل كي يعطي الرأي السديد لها ,
وما زلنا في (على سبيل التمهيد) والحديث عن مناظرات الدكتور شعبان مع السيد الحسني البغدادي فيقول : ( المناظرات مع السيد البغدادي فيها متعة بقدر ما فيها فائدة , لأنها تتسم بالصراحة والوضوح وهدفها البحث عن الحقيقة وليس هناك غالب أو مغلوب , ولا يريد أحد أن يسجل على الآخر نقاطاً للفوز, بقدر الرغبة في تبادل الآراء ووجهات النظر) ص12 , ‏ويستمر الدكتور شعبان في وصفه للمناظرات مع السيد البغدادي قائلا: ( الموضوعات التي التقي أو أتباعد فيها مع السيد الحسني البغدادي متعددة ومتنوعة , في الماضي والحاضر, وهي قضايا إشكالية حاولت بشفافية أن أتبادل الرأي معه بوضوح الرؤية وصدق الدلالة ,اختلفنا أم اتفقنا في شأنها ,سواء تباينت المواقف أم توافقت لكن زوايا النظر إليها تبقى مختلفة , باختلاف المرجعيات والنظر إلى الحياة بكل تنويعاتها ,حتى وإن كانت البيئة الإجتماعية التي حكمت العلاقة
ووازنت بينها واحدة أو موحدة بمعنى مشتركة , تلك التي جعلت من الإختلاف أداة بحث وتفكير وتنافس أحيانا بين ما هو ديني وما هو غير ديني وبين ما هو حداثي وما ضوي وعلماني وإسلامي وتساؤلي وإيماني ونقدي و تبشيري , في منعطف كل منهما)ص14 , نعم كان حواراً مفيداً وعلمياُ في الحجة مقابل الحجة وفيه الرأي السديد مقابل الرأي الآخر, وفيها الجرأه والشجاعة المعهودة للإثنين معاً .
كتاب الدكتور عبد الحسين شعبان على قسمين : الأول:( الإطار المنهجي و المفهومي ) . والثاني : ( المناظرات ), ففي القسم الأول يتحدث الدكتور شعبان عن مواضيع مهمة يبدأها في حيثيات المناظرات : الحداثة والتقليد ومن ثم في محتوى المناظرات وفيها الوعي بالتاريخ والاجتهاد بالإسلام والقضية الثالثة: في إطار المناظرات و منهجيتها :الإسلام و الحداثة وفروعها هي الديني والعلماني, وعن فكرة الإسلام دين ودولة , وعن فكر اللغة ولغة الفكر , و القضية الرابعة: في جوهر المناظرات - الإصلاح والتجديد وفيه حديث عن الفكر والدين ومن أين يبدأ الإصلاح وعن اختلاف المعرفة بين العلم والإيمان كتب الدكتور شعبان قائلا: وتختلف المعرفة بين العلم والإيمان لأنها في الأول تحديد أو مقدمات وتجارب ونتائج.
أما في الثانية فيحددها القلب ومدى علاقتة بالسماء أو الغيب أو الماوراء, فقد يحتاج الإنسان إلى كليهما, فبقدر ايمانه يحتاج العلم كمسار للنمو والتطور , ولا سيما إذا ربط الحقيقة بالعلم لإثبات (حقيقتها)وإذا لم يكن هناك توافق بينهما فلأن حقليهما مختلفان , إذ لا يمكن إثبات العلم إيمانيا أو الإيمان علمياً ,فقوة العلم خارقة وبلا حدود, في حين أن قوة الإيمان محدودة و أن لا يستهان بها بحسب تعبير ابن سينا , لأنها (قوة الحب) التي تستخدمها القوى الأخرى التي تسعى لخدمة الإنسان والإنسانية )ص20 , أي أن العلم سيد الموقف ولا بد من تسيد العلماء ليأخذ الإنسان حقه في الحياة ويهنأ بإنسانيته المفقودة وهو يرى ما حوله من نفاق ودجل , والجميل في حديث الدكتور شعبان صراحته المعهودة في كل ما يكتب ومثال ذلك ما قاله عن المطارحات والمناظرات مع السيد الحسني البغدادي : هذا المدخل في المطارحات والمناظرات مع السيد أحمد الحسني البغدادي , هو الذي يرتقي إلى الحديث عن دين العقل والهدف هو إصلاح المجال الديني بإضفاء العقل والعقلانية عليه ,وخصوصا في ارتفاع موجة التجهيل والتكفير والتحريم, فعلى غرار توماس هوبز , أفترض (أن أي إصلاح مفتاحه الفكر الديني).
ولا يمكن إصلاح الفكر الديني من دون إصلاح الفكر السياسي والبيئة السياسية الحاضنة وحين يتم إصلاح الفكر فهذا سيقود بالضرورة إلى( إصلاح الخطاب ) فمن يقرأ الدين أو التاريخ الديني والسياسي بطريقة خاطئة لا يتوصل إلى حاضر خاطئ فحسب بل إلى مستقبل خاطئ أيضا علماً أن القيم والدعوة الى إسعاد البشر الإنسانية هو هدف الفلسفات وجوهر الرسالة التي جاء بها الأنبياء والمصلحون - ) ص20-21 .
إذن لابد من إصلاح الفكر أولا وستكون النتائج إيجابية حتما , فصفاء الفكر من الشوائب يجعله بمسيرة صحيحة لإصلاح الفكر الديني والسياسي والخطاب أيضا, وعنوان الفقرة الثانية ( في محتوى المناظرات ) ترتكز على ركنين متداخلين وأساسين هما (الوعي بالتاريخ ) ويريد به استحضاره و اخذ الدروس والعبر منه ما يفيد الحاضر والمستقبل, ويرفض استعادته, أما الركن الثاني هو الإجتهاد في الإسلام يقول فيه الدكتور شعبان (وأي إجتهاد سيأخذ موضوع التجديد بنظر الإعتبار, بمعنى لا تجديد من دون إجتهاد والإجتهاد يعني إستنباط الأحكام بما ينسجم مع المتغيرات والمستجدات والتطورات التي تحصل في المجتمعات على صعيد العلم والتكنولوجيا والفقه القانوني والدستوري والسياسي والعلاقات الإقتصادية والأجتماعية والثقافية ) – ص 24.
ويبدأ الحوار بين السيد الحسني البغدادي والدكتور عبد الحسين شعبان ويوضح كل منهما وجهة نظره في قضايا عديدة دينية وفقهية وسأنقل . فقرة من حوارهما للقارئ العزيز يقول الدكتور شعبان (صحيح هناك حواجز فقهية ومعرفية اصطفها بعض "رجال الدين" تحتاج إلى إعادة النظر في معانيها ومبانيها وقد تكون لا علاقة لها بالدين أو بهذا المذهب أو ذاك وانما لمصالح خاصة ولو عدنا إلى الإمام علي فسنرى نقيضها ,فقد كان يتصرف بكونه ابن عصره وبرؤية استشرافية مستقبلية , حين يقول: لا تعلموا أولادكم عاداتكم لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم , لانه يتعامل مع العقل بوصفه نعمة ربانية لابد أن ينظر إليها بعيدا عن التأثيم والتحريم والتجريم فالعقل لا يمكن اغتياله أو اعتقاله أو تغيبيه , بل التعامل معه الحجة بالحجة والرأي بالرأي والمنطق بالمنطق وهو المساحة التي يوفرها العلم)ص31.
أجابه السيد البغدادي قائلا (‏اتفق معك مشيرا إلى أن بعض علماء الدين لا يفعلون ذلك, لأنهم يخشون مجي جديد يحل محلهم , يمتد أفقيا وعموديا لإجتثاث هذا الواقع الإجتماعي المريض ويستبدل المفاهيم و الأحكام التشريعية الإسلامية القديمة التي تجاوزها الزمن بإطروحات واقعية و رؤية منسجمة مع البناء والتطور الحضاري الحديث القائم على الحق والعدل والعطاء والحرية ، لذلك يتعصب هؤلاء لآرائهم و وجهات نظرهم التقليدية لأنهم عاجزون عن مواجهة التيارات الفكرية الحديثة ومواصلة العمليات التغييرية المعاصرة ) ص٣١ ، وبعد ‏حوار ماتع بينهما يوضح كل منهما للآخر وجهة نظره بكل شفافية وتفاهم ، والجدير بالذكر هنا أنَنا أمام رجل دين وعالم فاضل يفكر تفكيراً مستقبلياً فيه تحديث للدين والفكر الديني وكذلك الخطاب الذي يجب أن يكون مفهوماً وملائماً للعصر الذي نحن فيه .
أما الفقرة الثالثة في إطار المناظرات ومنهجيتها تحدث فيها الدكتور شعبان عن الإسلام والحداثة موضحاً رأيه في مناظرته مع السيد البغدادي ، والإصلاح والتجدد كان عنوان الفقرة الرابعة وهي عن الفكر والدين يقول فيها : ( تحتل المسألة الدينية في الفكر العربي المعاصر مكانة متميزة وحساسة ، ولهذا السبب تظل مقارنتها متميزة وحساسة أيضا ، فما بالك حين ‏ينصرف الحديث إلى الإصلاح والتجديد فيها ، ولعل الأمر يتعلق بتحديات وعقبات متعددة بعضها ذاتي والآخر موضوعي ، ولاسيما إذا امتدت إلى العقيدة ، بكل ما فيها من تاريخ وتقاليد وسكون وتوارث ، تلك التي ترسخت مع مرور الزمن و تواتر الإستعمال والتكرار ، حيث تحولت المعتقدات إلى (( عادات )) بعضها غير قابل للنقاش ، متنقلة من السلف إلى الخلف )ص٥٦ ، أي أنّ لابد من إصلاح وتجديد في المؤسسة الدينية لأهميتها في حياة الناس ، والتاريخ المعاصر يحدثنا ما قام به المصلح والمجدد الشيخ محمد رضا المظفر عندما أراد بخطوات مدروسة إصلاح وتجديد بعض المفاهيم بخطوات عملية علمية ، وللأسف وقفت المؤسسة الدينية بالضد من إصلاحاته رافضة خطواته التجديدية بحزم وقوة .
أمّا المناظرات فعددها ثمان عشرة مناظرة وهي أسئلة وحوارات مع السيد الحسني البغدادي فيها من التجدد والإصلاح والحداثة معلومات مفيدة جداً ، إذ كان اختيار الدكتور شعبان لموضوعات هذه المناظرات اختياراً موفقاً للإحاطة مع إجابات السيد الحسني البغدادي بماهية الدين وتجديد الفكر الديني وما نحتاجه اليوم من نهضة كبيرة كي نملك الحجة القوية ونعمل بها لنتقدم ، الحوارات الفكرية التي جاءت في المناظرات جعلت الطرفين يحللان الظاهرة وجذورها وتاريخها وعمقها التاريخي للوصول إلى مشتركات فكرية لفهم الدين والتدين ومن ثم إحالتها إلى المجتمع كي يتقبلها روحياً وفكرياً وثقافياً وقيميًا ، فكانت المناظرة الأولى ( الإيمان و اللاإيمان )ويقول فيها الدكتور شعبان وهو ينهي حديثه في هذه المناظرة : ( لعل هدف الأديان جميعها والإسلام تحديداً والإمام الحسين بوجه خاص هو الإنسان لأنه القيمة العليا ‏والحقيقية الأهم التي إستخلفها الله على الأرض ، وهو ما يعطي البشر المؤمنين الحقيقيين الكشف والفيض والإلهام ، فهناك علاقة للخير بالايمان ، فهل يمكن أن يكون السفاح و الجلاد شجاعاً أم أن الشجاعة لصيقة بالخير ؟) ص ٧٢.
أمّا بقية المناظرات فقد تحدث فيها الدكتور شعبان عن طروحات السيد البغدادي في شأن الإرهاب والإرهاب الدولي ، وهو وإن كان يدينه ‏ويعتبره ( صناعة إمريكية ) لكنه يذهب إلى بعض المقولات الماضنوية التي لو طبقناها الآن ، لأشعلنا حروباً نووية حرارية لا تبقي ولا تذر ، وهنا أشكل الدكتور شعبان على مقولة السيد البغدادي قائلاً :(لقد إسشكلت قوله من أن هذا الحرب هي حرب على الشريعة الاسلامية الخاتمة ) وعلى " ‏معظم الجماعات الإسلامية " ‏حتى وإن قصده بذلك حركات المقاومة الميدانية ، ‏سواء في فلسطين أم غيرها للدفاع عن الحقوق و الإنعتاق من الهيمنة الإمريكية ‏الداعمة ﻟ "إسرائيل"‏ لكن العالم أوسع كثيراً ‏من ذلك التحديد وحركات التحرر اكثر شساعة ، ‏وحتى في منطقتنا فإن التيارات غير الإسلامية كان لها الحضور الأوفر سابقاً ، ‏ولاسيما في مقارعة الإمبريالية ، ‏وعلى الرغم من ضعفها حالياً ، ‏فهي ما تزال تمثل قوة ممانعة وتأثير كبير في الرأي العام وخصوصاً في الساحة الثقافية ) ص٧٣.
‏ إذ أنَّ الثقافة هي انعكاس لحركة المجتَمع في وعي تراكمات الماضي وتفاعلات الحاضر وتوقعات المستقبل وفي خضم ‏الدعوات والصراعات الفكرية سارعت النخبة العربية إلى المطالبة باليمقراطية والحريات العامة و الفردية, ‏ورفعت شعارات الحرية ‏والمساواة والعدالة الإجتماعية و التمثيل الشعبي و النظم الدستورية وحرية الصحافة والتعليم و الليبرالية الإقتصادية وغيرها، ‏وهذا دليل على أنّ ‏التيارات غير الإسلامية موجودة وتعمل على أرض الواقع ، ‏وكانت المناظرة الثالثة بعنوان ( الدين والعنف ) ‏وكان للسيد البغدادي ‏رأي في هذه القضية إذ استند إلى عاملين ‏وهو يفسر وجهة نظر الدكتور:
الأول: ‏إيقاظ هموم الأمة في الكفاح ضد الغزاة وعدم الخنوع أو الاستسلام ، ‏وتلك مسألة عقلانية ومنطقية وتستحق التقدير واتفق معها .
‏ ‏والثاني : ‏اعتماده على ما يسمى الشريعة الخاتمة، و الموسوعات الإستدلالية، تلك التي تبرر العنف ضد الآخر، العدو ) ص ٧٩.
‏ وتوزعت المناظرات الباقية على مواضيع ‏مهمة منها الدين بين المقدس والمدنس ‏وفي النقد والنقد الذاتي لرجال الدين وفي نقد مبدأ ( التقليد ) ‏وهل الفتوى ضرورية؟ والطائفية والتمذهب والأوقاف الإسلامية و إشكالاتها ‏، والشيعية السياسية ( البيان ) و ( البيت ) ‏، و الفدرالية ( الفدرلة ) ‏والتقسيم، ومصادر التشريع- الإجماع والشهرة -،والردة و المرتد وما في حكمهما ، وهل المرأة ( عورة )و(ناقصة)عقلاً وديناً.
وسأتوقف عند هذه المناظرة عن المرأة فيما يتحدث به الدكتور شعبان والسيد البغدادي عن المرأة لإختلاف التوجهات و التفسيرات والمواقف و التأويلات للنصوص الدينية ، يقول الدكتور عبد الحسين شعبان :( وكنت قد سألت السيد البغدادي عن صحة مثل هذه الأحاديث و عن مدى إيمانه بها من عدمه وكيف يمكن إفادة القارئ غير المتخصص ؟ وقبل أن أنتظر إجابته سألته : كيف كّرم القرآن نساء الرسول وامتدحهن في أكثر من موضع وتأتي الأحاديث المنسوبة لتحطّ من قيمة المرأة ؟ ثم ألم يخاطب القرآن الإنسان رجلاً أو امرأة بما يحفظ الكرامة الإنسانية ؟ فكيف تنسب مثل هذه الأقوال للرسول ومثلها للإمام علي ؟ علماً بأن الضلال هو العدول على الطريق المستقيم وقد يكون بسبب نقص في المعطيات وليس نقصاً في العقل ) ص٢٣٠.
وكان رأي السيد البغدادي : أن الإنسان مفردة حياتية ترمز الى الرجل والمرأة على حد سواء , وإن ما ينسب الى النبّي أو الامام عليّ زوراً وبهتاناً بما في ذلك من قسوة وظلم ، علماً بأنّ الله كّرم بني آدم ، أي الرجل والمرأة وصوّر العلاقة العاطفية الصميمية والعقدية بينهما بأروع ما يكون )ص ٢٣١، ويرى السيد البغدادي أيضاً : ( لا فرق بين الرجل والمرأة على الصُعيد كافه ‏، بشهادة القرآن والسُّنة والعقل والوجدان والتاريخ ، ولا يمكن للإمام علي أن يتهم المرأة بأنها " ناقصة الإيمان والحظ والعقل " كما يُنسب إليه مثلما جاء في نهج البلاغة.
فكيف له أن يتعامل مع زوجته فاطمة الزهراء البتول وهي صاحبة عقل راجح وعلم ومعرفة ؟ حيث كان يستشيرها ويأخذ رأيها في الكثير من القضايا ، إذاً ستكون هناك ازدواجية حين يصدر مثل هذا الحكم بحق النساء ويستثنى زوجته حتى وإن كانت بنت الرسول محمد , ان إسناد هذا النص إلى الإمام علي يمثل عدوانا صارخاً عليه وعلى الرسول القائد محمد الذي شهد للمرأة من خلال فرقانه و(العقل الفاعل) و ساوى بين عقلها وعقل الرجل في كل القضايا والأشياء, وهو ما ورد في عدد من سور القرآن الكريم والكثير من آياته ) ص 231 .
وقد تناظر الدكتورشعبان والسيد البغدادي في قضيتين مهمتين هما : قانون الأحوال الشخصية لعام 1959 ومشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفري , وأعطى كل منهما رأيه بنقاش شفاف ومفيد , وما دمنا في قضية المرأة يقول كارل ماركس : ( إن أردت أن تعرف ثقافة المرء فسله عن موقفه من المرأة )، ولا يتقدم بلد إلى الأمام إلا بوجود المرأة ومشاركتها في المجالات كافة ,
أما المناظرات الأربعة الأخيرة كانت في النجاسة و الطهارة وفقه المخارج و الحيل الشرعية ) والعصمة و المعصوم وعلم الغيب.
وفي نهاية الكتاب المهم هذا يكتب الدكتور شعبان فقرة أسماها ( عوضاً عن الخاتمة ) وكانت على قسمين:
الأول: الدين وخفة الدم والظرافة و يتحدث فيه عن الجوانب الإنسانية المتعددة لدى السيد أحمد الحسني البغدادي فيصفها بالظرف والبساطة والأريحية وخفة الدم والدعابة والتفكه و السماحة .
والثاني: الحساسية الوطنية في الصميم يتحدث فيها عن المواقف الوطنية للسيد البغدادي ورفض أية محاولات للنيل من استقلال البلد ووحدته الوطنية كتاب الدكتور عبد الحسين شعبان ومناظراته مع السيد البغدادي كتاب ما تع فيه إثارة الأسئلة كثيرة للوصول إلى إجابات تهمنا جميعا , في تنوير وأحداث الفكر الديني نحن بأمس الحاجة إليها في وقتنا الحاضر .

نشرت في جريدة الحقيقة (العراقية) في 9 كانون الثاني / يناير 2023