شمال إفريقيا وإشكالية التراث


عذري مازغ
2023 / 1 / 7 - 18:32     

بصدق لا أرى مشكلة في أن يتبنى أشقاؤنا في البلدان المغاربية تأصيل تراث معين من إحدى الدول المغاربية في بحث عن كنه يشرعن استقلالية نظام معين بهذه البلدان على أن المشكلة هنا سياسية بالدرجة الأولى في سياق التقاطب، في التراث الثقافي، في التراث الحضاري، في التراث الحيواني وفي التقاليد والعادات..
في السياق التاريخي دائما هناك مشترك، لكن في المقابل هناك تنوع لا يمكن تجاوزه، والتنوع هذا، في مرحلة تاريخية معينة قد يسود ويصبح مشتركا بشكل تتناوله الأقطاب السياسية في بحثها عن شرعية سياسية لهيمنتها، التراث يستثمر في شرعية هذا النظام أو ذاك من حيث هو يبحث عن شرعية تاريخية تديم هيمنته وتوسعها، لكن المشكلة في هذا هي ان الأنظمة المغاربية في كليتها ليست أنظمة ذات مصداقية: المجتمع المغاربي مجتمع منقسم طبقيا بشكل تعيش طبقاته السائدة في عزلة تامة عن الطبقات الفقيرة والمتوسطة بشكل تبقى عملية تأصيل التراث فارغة بدون أثرحقيقي لسبب كونها تخالف الحقيقة الموضوعية: عندما يقول لك شخص بأن الكسكس هو تراث مغربي فبالنسبة لي الأمر مثير لأنه ببساطة موجود في كل شمال إفريقيا وشكل منه موجود بالأندلس (أكلة ميغاس بالأندلس) حتى وإن يتم تهييئها وتقديمها بشكل مختلف، تحضرني هنا واقعة تاريخية قرأتها في كتاب لمؤلف مجهول حول الدولة السعدية بالمغرب، كان المنتصر في معركة واد المخازن على البرتغال غير مهذب في الأكل، وعندما دخل قصور فاس تصادم مع طباخي القصور بفاس الموروثون من الحكم السابق، يقول الكتاب ان اهل فاس هم من علم السعديين الاكل المهذب الحضاري، وبكلام آخر: علمت حضارة فاس البرابرة السعديين(بمعنى الهمجيين وليس الأمازيغ) اصول الطبخ الحضاري، ويمكنني بناء على هذا واستئناسا بابن خلدون في تشكل الدولة الحديثة فيما معناه أن الدولة الحديثة تبدأ همجية إلى ان تتهذب في الحكم وفقا لمعيار دورة زمن الدولة عند ابن خلدون: تتأسس بقوة الهمجية، تتهذب أثناء الاستقرار والبناء ثم تموت ترفا بتهذبها لتنشأ دولة أو دعوة جديدة، وعادة وتاريخيا تتشكل الدولة الحديثة أو الدعوة الجديدة في الهامش ثم تتمركز في المركز او في المدن المركزية مثل فاس ومراكش والرباط في المغرب (حتى الدولة العلوية الآنية في المغرب جاءت من الهامش وكانت بربرية في نشأتها أيضا).
في التاريخ دائما نقرأ ان الدولة كذا أضافت معلمة كذا، وإذا انطلقنا من القاعدة الخلدونية: دولة بربرية بدوية تتأسس بناء على خشونة البدو وتقتحم الحواضر المهذبة فإن العلاقة بين البدو والحضر علاقة جدلية في حدود معينة والإضافة هنا هي إضافة متوازنة يتم فيها تهذيب الهمجية بالمدنية: قوة الدولة الحديثة في همجيتها تتحول بالتهذيب إلى قوة مدنية حضارية أثناء الشباب (أثناء التكوين والبناء) لتنتهي إلى مرحلة الترف والشيخوخة والموت).
وعلى العموم الحضارة تهذب القوة البربرية: عادة نعتمد ضرب الرأس في قتل الأفعى لأنها هي السامة وهذه غريزة وثقافة بدوية، والتاريخ علمنا ان دولة ناشئة تريد الهيمنة، عليها أن تقضي على رأس أفعى الدولة القديمة: احتلال العاصمة وقتل كل رموز السيادة بها، مع ذلك يبقى الموروث التراثي الحضاري باقيا: المعمار، الطبخ، العادات والتقاليد، المهن الصناعية، العلوم الناشئة، الأدب والفلسفة والعلوم الأخرى: كل هذه الأمور تفرض على الدولة الحديثة ان تتمثل بها بشكل طغيان الحضارة سائد رغم حداثة الوافدين الجدد إلى السلطة السياسية: لكي تكون ملكا عليك ان تتهذب بطقوس التهذيب الحضارية ومن هنا الحضارة هي من يؤثر في شخصية الملوك وليس الملوك هم من يؤثرون في الحضارة وبعبارة أخرى: قوة تاثير الحضارة اكبر من قوة تأثير ملك معين حتى لا ننفي أثر باني معين: الحضارة المصرية في شقها الإسلامي بناها المصريون وليس العرب الوافدين، الحضارة الأندلسية بناها الأندلسيون وليس الوافدين من الامويين وهلم جرا.... ودليلي على هذا هو اختلاف العمران بين الدول الإسلامية نفسها: المعمار العثماني ليس هو كالمعمار المغربي والأندلسي وليس هو كالمعمار المشرقي.
ما علاقة كل هذا بالتراث؟
مسجد الخيرالدا بالأندلس كمعلمة حضارية، يقال أن مسجد الكتبية بمراكش اخذ الفن المعماري بالأندلس خصوصا وانهما مسجدان متشابهان في الفن المعماري، الحقيقة ان الكتبية بمراكش بنيت قبل بناء مسجد الخيرالدا وان الذي نقل المعمار عن الآخر هو مسجد الخيرالدا وعليه يقاس مسجد تيليمسان بالجزائر ( ليس بالشكل المعماري الأندلسي كما يعتقد الكثير بل مثله مثل مسجد الخيرالدا بالمعمار المراكشي المرابطي، أي ان حاضرة مراكش هي من وسمت مسجد تلمسان والخيرالدا بمعمارها من خلال هيمنة المرابطين على هذه المناطق) وهنا أضع إشكالا منهجيا في النظر إلى التاريخ: ينظر إلى البلدان في سياقها التاريخي وليس إلى ما هي عليها آنيا فالمغرب الآني والجزائر الآنية وربما تونس الآنية في عهد الدولة المرابطية لا وجود تاريخي لهم حينذاك بل إن الوجود التاريخي في ذلك العصر للدولة المرابطية في حدود شاسعة ضمت تونس الحالية والجزائر الحالية وموريتانيا الحالية والأندلس الحالية، أي ان الدولة المرابطية وبعدها الدولة الموحدية ليستا الدولة الجزائرية ولا المغربية ولا التونسية الآنية، يجب وضع البلدان القديمة في إيطارها التاريخي: تونس قبل الدخول الإسلامي كانت تسمى إفريقيا وبها سميت القارة الإفريقية، الجزائر قبل الفتح تسمى الدولة النوميدية وكانت تضم تونس نفسها والمغرب الحالي، بمعنى ان كيان الدولة المرابطية لم يكن المغرب فقط بل شمل كل هذه المناطق وبالتالي موروثها التاريخي هو موروث مشترك بين كل هذه المناطق، كان مركز الدولة هي مراكش لكن كانت كل هذه الأقاليم تخضع لها، في ظل هذه الدولة كان المعمار الهندسي والتراث ببصمة مراكش حتى لا أقول ببصمة الدولة المرابطية: بربرية المرابطين لم تدخل على مراكش معمار أو ثقافة حضارية معينة بل مراكش وسكانها في ذلك الوقت هم من فرضوا على الدولة المرابطية شكل معمارها. (سيقول قائل أن مراكش بناها المرابطون، ساقول لهم بان مراكش كانت قبلهم والحفريات تثبت هذا كما تثبت أن فاس كانت قائمة قبل الأدارسة وان مكناس كانت قائمة قبل دخول الملك العلوي الذي تنسب إلى كونه هو من بناها وان اتخاذ منطقة عاصمة لملك شخص معين لا يعني انه هو من بناها وساضع هنا مقولة جورج بورغيس وهو مؤرخ امريكي: "التاريخ مجرد حكاية تاريخية، اليوم تعاد كتابة التاريخ بناء على حكايات لم تروى"
في التراث البيئي: تثمر الآن شجرة ارغان في إسرائيل، في الجزائر، في الميكسيك وربما الولايات المتحدة بعد مرحلة تجارب تم فيها ضبط طقس منطقة سوس، لكن شجرة ارغان أو أركان في المغرب تثمر في سوس بدون خلق ظروف مختبرية لها، بمعنى أنها تعيش في طبيعة ملائمة لها بينما في باقي الدول يتم تكييف نمط عيشها مع المختبرات العلمية بشكل لا يجعلها تراث مشترك .
حاليا تنتسب الدولة المرابطية إلى دولة موريتانيا، تنتسب الدولة الموحدية إلى الجزائر بغض النظر عن الوجهات النظرية التي تؤسس لمغربية هاتين الدولتين وانا أشرت سابقا استئناسا بابن خلدون: دول بربرية تهاجم دول حضارية مهذبة بمجرد ما تسيطر عليها وتستانس بتهذيبها تصبح مستانسة هي الاخرى وتنشر بقبضتها الهمجية حضارتها في مستعمراتها بمعنى ان تأثير الحضارة على الملوك أقوى وهنا يطيل الشرح في فهم جدلية التأثير وحتى في الحضارة الفرعونية بمختلف عائلاتها: الفرعون الاول بنى هرما، جاء الذي بعده منافسا له وبنى هرما احسن من الاول وهذا يؤكد تأثير حضارة الاول على الهمجي الثاني..
في الحملة الهجومية بين عياشة المخزن وذباب كابرانات الجزائر: القفطان لباس موحدي كان ذكوري يلبسه أمراء الموحدين قبل أن يكون خاص بالنساء وينتمي إلى الدولة الموحدية التي تمركزت بالمغرب وتاثر محيط الإمبراطورية الموحدية باللباس: القفطان لبس أيضا بالأندلس وهو تراث إنساني مشترك اصله مراكش: اقصد انه من إبداع العامل بمراكش أثناء حكم الموحدين.
الأسد: كان يعيش بكل شمال إفريقيا، اصله شمال إفريقيا، تسميته بالبربري راجع إلى كون سكان شمال إفريقيا هم امازيغ (بربر بالنسبة للشعوب المستعمرة)، ليس له أصل خاص على الإطلاق: تسمية أسود الاطلس للمنتخب المغربي كانت عفوية من معلق رياضي في سنة 1978 ، يمكن لتونس أن تسمي منتخبها اسود تونس وللجزائر أن تسمي منتخبها أسود الجزائر وليبيا أيضا وموريتانيا: الاسد بالنسبة لشمال إفريقيا تراث مشترك: الكتب التاريخية تزخر بوجود الأسد في كل هذه البلدان.
بقيت مشكلة منفلتة عن الاستيعاب: لماذا كل الشعوب المغاربية تنسب التراث المشترك لاصل خاص بها؟
ببساطة لأنها تشعر بظلم تاريخي، ينسب شيء إلى دولة فيما هي تشعر أن ذلك الشيء مشترك وعوض أن تفجر موضوعة اننا شعب واحد تفجر موضوعة اننا شعوب تنتمي إلى أنظمة هي في واقع الحال مبدأ تشتت وتقسيم.
بشكل غير واعي ومستوعب: حين يقول شخص من الجزائر أن توبقال (أكبر جبل بالمغرب)، حين يقول أن الزلليج سرقه المغاربة على الرغم من ان الزليج صناعة فاسية محضة، حين يطرح بشكل عام مشكل التراث، يريد ان يقول بأن المغرب هو أصلا جزائري، في تصريحات سابقة لإعلامي برلماني جزائري وصف تونس بأنها ولاية جزائرية: إنه طموح مشروع أن تكون الجزائر هي كل شمال إفريقيا، لكن هو طموح غير مشروع أن تكون المنطقة تحت نظام كابرانات وهذه هي الإشكالية في اننا لا نتقاسم نفس وجهة النظر.