حدثان بين عامي ٢٠٢٢ و٢٠٢٣


عديد نصار
2023 / 1 / 7 - 13:30     

ها نحن طوينا عاما زاخرا بالأحداث الجسام لنستقبل عاما لن يخلو من مرارة الآلام.. أزمات وأحداث تلو أزمات وأحداث.. ولا حلول منتظرة تشفي وجع المعذبين في الأرض طالما بقي هذا النظام العالمي، النظام الذي يتغذى وتستمر سيطرته بخلق المزيد والمزيد من الأزمات. إنه من دون شك نظام لن يولّد غير الأزمات ولن يستمر إلا بها.
من بين الأحداث المهمّة التي شهدها عام 2022 ولسوف تستمر خلال العام 2023 حدثان بارزان أودّ الكلام عنهما لعلّ في ذلك فائدة وعبرة.
الحدث الأول هو الغزو الروسي لأوكرانيا والحدث الثاني هو ثورة الشعوب الإيرانية المتواصلة.
في الحدث الأول، ألفتُ الى بداية المرحلة الأولى التي بدأ فيها اجتياح جحافل الجيوش الروسية للأراضي الأوكرانية من عدة محاور. وأذكّر أن الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا في حينه قدمت عروضا للرئيس الأوكراني ببند وحيد: إخراجه سالما من أوكرانيا. حينها فُتحت الحدود البولندية والبلغارية أمام الأوكرانيين وخصوصا الأوكرانيات للخروج هربا من البلاد. أكثر من ثمانية ملايين شخص عبروا الحدود باتجاه الغرب، لكن كل من هو قادر على حمل السلاح بقي يقاوم الغزو الى جانب الرئيس والحكومة الأوكرانيين.
دعوة الدول الغربية وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية للرئيس زيلنسكي للمغادرة (سالما) في الأيام الأولى للغزو كانت تنطوي على أمر هام لم يتحدث فيه لا المحللون السياسيون ولا الاستراتيجيون ولا مراكز الدراسات والأبحاث. هذه الدعوة انطوت على اعتقاد كان راسخا لدى الدوائر الغربية مفاده أن الجيوش الروسية ستحتل كامل البلاد الأوكرانية خلال أسبوع، وأنه، بعد ذلك سوف نرى كيف نتفاوض مع الروس (نبيع ونشتري).
أشهر عديدة سبقت الغزو كانت الولايات المتحدة الأمريكية تحذّر منه وتضع المواقيت له، لكنها، ومن حولِها دول الناتو كافة، لم تقدّم لا للجيش الأوكراني ولا للدولة ولا للشعب الأوكرانيين أيَّ دعم. وبعد اسبوع على بدء الاجتياح الروسي، وبعد أن وصلت
أرتال الدبابات الى عمق الأراضي الأوكرانية وعلى مشارف العاصمة، أرسلت ألمانية مساعداتها: كناية عن خمسة آلاف خوذة للجيش الأوكراني!!
نعم كانوا ينتظرون هزيمة ساحقة للاوكران وبعد ذلك لكل حادث حديث. لكنّهم صُعقوا بالمقاومة الأوكرانية الشرسة التي وظّفت كلَّ ما هو مُتاح في مقاومة الغزو. تلاحُمٌ رائع بين الشعب والقوات المسلحة واستخدامٌ فذٌّ للإمكانيات المتاحة دَمّرا طليعة ومؤخرة الأرتال الروسية وحاصرا أوساطها.
كان الصمود الأوكراني على مختلف الجبهات صادما لدول الناتو. هنا انتقلت هذه الدول من الاستثمار في الاحتلال المُحتمل الى الاستثمار في المقاومة المُضفّرة.
لقد انتصرت المقاومة الأوكرانية على حلف الناتو قبل أن تنتصر على الغزو الروسي.
الحدث الثاني: ثورة الشعوب الإيرانية:
لم تكن انتفاضة الشعوب الإيرانية التي انطلقت في النصف الثاني من شهر أيلول/سبتمر الماضي إثر مقتل الشابة مهسا أميني تحت التعذيب لدى "شرطة الأخلاق" التي اعتقلتها في طهران بسبب عدم ارتدائها الحجاب الإلزامي "بطريقة سليمة"، لم تكن هي الانتفاضة الأولى التي خاضتها الشعوب الإيرانية في وجه نظام المرشد وجمهوريته "الإسلامية". فقد أصبح للشعوب الإيرانية خبرة واسعة في مواجهة هذا النظام كما في التعرف الى ردود الفعل الدولية ومدى استجابة حكومات النظامين الإقليمي والدولي للانتفاضات الشعبية في ايران والمنطقة، خصوصا ما أصاب الثورة السورية من خذلان خلال أكثر من عقد من الزمن شهد على مجازر النظام الأسدي وحملات الإبادة التي شنّها على الشعب السوري مدعوما من ميليشيات طائفية تابعة لنظام "الجمهورية الاسلامية" بدءا من حزب الله الى المليشيات العراقية وصولا الى مليشيات أفغانية وباكستانية يحركها المرشد بواسطة "الحرس الثوري" التابع له.
وهي، أي الشعوب الإيرانية، كانت قد تعرفت على كل ذلك خلال انتفاضتيها في العامين 2009 (الانتفاضة الخضراء) و2017 ( شرارتها ارتفاع اسعار المحروقات) والتي راح ضحيتهما الآلاف دون أن تلقى هاتان الانتفاضتان أيَّ صدى أو دعم خارجي خصوصا من تلك الدول التي تدعي مناوأتها لنظام الجمهورية الاسلامية.
هذه الخبرة وهذا الوعي للظروف المحلية والدولية وهذا الفهم للعوامل التي تحكم العلاقات الدولية في هذه المرحلة من سيطرة نفس القوى في النظامين الاقليمي والدولي ظهرت تجلياتها أولا في عدم الرهان على أيّ دور خارجي داعم للثورة من جهة وفي تصليب وحدة الشعوب الإيرانية في ثورتها وفي الصمود الرائع بوجه الأشكال المختلفة لقمع الاحتجاجات التي يلجأ اليها النظام بأدواته القمعية الأمنية والعسكرية والقضائية والدينية.
كما أنّ هذه الخبرة وهذا الوعي تجليا في عمل المعارضة الإيرانية في الخارج والتي توحّدت على ضرورة اقتلاع نظام الجمهورية الاسلامية المستبد والدموي، فكانت المظاهرات الضخمة التي عمّت العواصم والمدن الأوروبية دعما للثورة الايرانية ومساهمة في اطلاع الرأي العام الأوروبي على جرائم هذا النظام وعلى صمود وتوسّع وتضافر الشعوب الإيرانية في ثورتها لاقتلاعه، وليس كما يطالعنا بعض مسؤولي الدول الغربية: منح المرأة الإيرانية بعضَ حقوقها!
التظاهرات الحاشدة في العواصم الأوروبية (على غرار مظاهرة برلين) والتي يجب ألّا تتوقف، تمثل ضغطا على المسؤولين الغربيين باتجاه نزع الاعتراف بالنظام الذي يحتل البلاد الإيرانية والذي بالتالي لا شرعية شعبية له ويُفترض أن تنتزع عنه الشرعية الدولية. وكان طردُه من المنظمة العالمية لحقوق المرأة أولَ الغيث، لكنّ هذا غيرُ كاف. المسألة تحتاج لمزيد من الضغوط الشعبية على مراكز القرار الدولية.
إن أبرز ما ميّز ثورة الشعوب الإيرانية عن الانتفاضات والثورات العربية التي سبقتها كان في:
- تصدّر المرأة الإيرانية لهذه الثورة، رموزا وشعارات: إسقاط الحجاب الإلزامي كرمز، وإعلاء شأن المرأة كشعار: "زن زندكي آزادي" ( المرأة، الحياة، الحرية) وهو الوسم الذي حاز على أكبر مساندة شعبية على مستوى العالم.
- اسقاط الرموز المقدسة للنظام، الحجاب الإلزامي، عمائم الملالي، الحوزات الدينية..
- اسقاط الرموز التسلطية للنظام وتحطيم الهالة المقدسة لهذؤلاء الرموز: إحراق صور الخميني وسليماني والخامنئي في مختلف المحافظات والمدن الإيرانية.
- تقويض صورة النظام من خلال التأكيد على وحدة هدف الشعوب الإيرانية وتماسكها لتحقيقه وهو إسقاط نظام المرشد وإسقاط جمهوريته الاسلامية
المزعومة. وليس فقط المطالبة بعض الحقوق (حقوق المرأة) أو تعديل سلوك النظام كما ذهبت اليه الحكومات الغربية التي لم ترَ حتى الآن ضرورة للتخلي عن النظام والاستثمار فيه والتحول بالتالي للاستثمار في ثورة الشعوب الإيرانية. تلك الحكومات والأنظمة التي لا تزال تراهن على قدرة نظام المرشد في سحق الانتفاضة وثورة الشعوب الإيرانية تماما كما حصل في سوريا. وبالتالي فإن رهانها لا يزال قائما على نظام يخرج من هذه الأزمة ضعيفا مهزوزا يمكن ابتزازه بسهولة.
الخلاصة:
يمكن استنادا الى ما تقدم، في الحالتين الأوكرانية والإيرانية أن نخلص الى:
أن الشعوب يتيمة في مواجهة الاحتلال والاستبداد، وأنه لا ظهير خارجيا لها يدعمها، وأن قوى النظام العالمي لا تعبأ سوى بالاستثمار في أزمات البلدان والشعوب، وأنه لا حول ولا قوة للشعوب في انتفاضاتها وثوراتها إلا بتماسكها واتحادها حول أهداف محددة وواضحة لا تتوقف عن الثورة الا بعد تحققها، وأن التضامن بين شعوب العالم في نضالها من أجل الحرية والديمقراطية والتقدم كفيل بالضغط على الحكومات والقوى المسيطرة لتعديل مواقفها هنا أو هناك لمصلحة الشعوب الثائرة والمقاومة.