مجابهة الوجود الاستعماري الاستيطاني الصهيوني


غازي الصوراني
2023 / 1 / 6 - 16:51     


في هذا الجانب أشير إلى المحاولات الدؤوبة للعدو الصهيوني التي تتبنى منطق تهجير وتفتيت أو إبادة الوجود الديمغرافي لشعبنا الفلسطيني، بكل أبعاده الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وذلك انطلاقا من أن الوجود الصهيوني في بلادنا هو في جوهره وحقيقته تجسيد لمفهوم ومنظور الاستعمار الاستيطاني الذي يتبنى منطق الإحلال والإبادة، ما يعني أن دولة العدو الصهيوني تتماهى تماماً مع ممارسات الاستعمار الاستيطاني الأمريكي والأسترالي في إبادتهم للسكان الأصليين وإن اختلفت بعض الأساليب، خاصة فيما يتعلق بإقرار الولايات المتحدة وأستراليا -منتصف القرن العشرين- التزامهم بالديمقراطية وتطبيق مفهوم المواطنة للجميع دون تمييز، مقابل دولة العدو الصهيوني التي رفضت منذ تأسيسها – إلى يومنا هذا- تطبيق مفهوم المواطنة على جميع مواطنيها، وحرصت على مواصلة عنصريتها وتطبيق الديمقراطية فقط بصورة كاملة لليهود فقط.
وهنا لا بد لي من إعادة توثيق التعريف الموضوعي لنموذج الاستعمار الاستيطاني الذي يستند إلى مصادره الأرض تحت شعار "الأرض أولاً والأرض أخيراً" دون اي تفكير بالمغادرة أو الرحيل، فالمستعمر الصهيوني المستوطن يعلن بوقاحة عنصرية أنه جاء ليبقى، رغم إدراكه أن الصراع بيننا وبينه صراعٌ وجودي .
وفي هذا السياق، أشير إلى أننا لا نحتاج إلى كثير من العناء، كي نلاحظ النغمة العنصرية الاستعلائية الكولونيالية التي يتسم بها كثير من كتابات الصهيونيين الأوائل، خاصة كتاب هيرتسل "البلاد القديمة الجديدة " المملوء بالتعابير التي تشير إلى "بدائية السكان الأصليين وهمجيتهم في مقابل تفوق الأوروبيين وحضارتهم".
أمّا في " كتابه "دولة لليهود" (1894)، فإنه يتبنّى بوضوح نبرة وخطاب أوروبا القرن التاسع عشر الكولونيالية، والتي تُقَسِّم العالم إلى أمم متحضرة وإلى أمم بربرية، ويضع هرتسل المشروع الصهيوني بوضوح كجزء من المشروع الأوروبي الحضاري الكولونيالي، ويكتب: "بالنسبة إلى أوروبا، سنمثل جزءاً من السد أمام آسيا، سنخدم في الخط الأمامي لندافع عن الحضارة ضد البربرية، وسنبقى كدولة مستقلة متحالفين مع أوروبا التي ستضمن في المقابل وجودنا".
هنا لابد من التأكيد على أن تقصي جذور الصهيونية في أوروبا نفسها، تكشف لنا بوضوح، وجود صهيونية غير يهودية متأصلة في التراث الأوروبي الرأسمالي، وهي سابقة للصهيونية اليهودية من ناحية نشوئها، حيث نلاحظ أن ثمة صهيونية أوروبية أخذت معالمها تتضح بعد نشوء المسألة الشرقية وصعود نجم حاكم مصر محمد علي واحتلال جيشه بقيادة إبنه ابراهيم لسوريا 1820 – 1840 ، الأمر الذي شكل تهديداً لقدرة أوروبا الاستعمارية على التوغل في الإمبراطورية العثمانية.
لذا نشأت الحاجة لدى الدول الاستعمارية الأوروبية، وخصوصاً فرنسا وبريطانيا، إلى إيجاد موطئ قدم ثابت في فلسطين باعتبارها رأس حربة في المنطقة، والتقت هذه الحاجة الاستعمارية مع إمكان توظيف أسطورة إحياء دولة يهودية في فلسطين، عبر نابليون أولاً بداية القرن التاسع عشر وبلفور ثانياً.
وبهذا المعنى يمكن القول أن "الكولونيالية الاستعمارية البريطانية والفرنسية، كانت صهيونية قبل نشوء الحركة الصهيونية". وهناك كثير من الأدبيات التي تقرأ نشوء الحركة الصهيونية في الأساس كاستمرار للمشروع الاستعماري من وجهة نظر المصالح الاقتصادية التي يخدمها المشروع، وتظهر فيه الصهيونية أيضاً أداة في أيدي القوى الاستعمارية الكبرى" .
وبالتالي، فان هذا الاستعمار الاستيطاني لا ينتهي في الزمان أو المكان، فهو استعمار لا رجعة عنه، لا يمكنه ولا يريد التراجع ولا تغيير طبيعته التوسعية، ويحرص بقوة الاستبداد والإرهاب والقوانين العنصرية على عدم استخدام أهل البلاد الأصليين لهويتهم في معاملاتهم الرسمية، كما هو الحال مع أبناء شعبنا في الارض المحتلة 1948 واستخدام صفة "العرب" بدلاً من الفلسطينيين، وتفكيك هويتهم إلى هويات درزية وبدوية وطائفية، في محاولة يائسة لا مستقبل لها، تسعى إلى "تثبيت" ما يسمى بهوية "الشعب اليهودي"، التي تفتقر بصورة مطلقة لكافة العوامل أو العناصر التاريخية والمجتمعية المكونة لأي أمة من الأمم أو لأي شعب من الشعوب، حيث أننا -في الجبهة الشعبية- على قناعة تامة بأن "هوية دولة إسرائيل" المرتبطة بمفهوم "الشعب" أو "الأمة اليهودية" ستظل هوية مزيفة، مضطربة غير قادرة على إثبات وجودها بصورة علمية أو موضوعية أو تاريخية كجزء من نسيج المنطقة العربية، وبالتالي لا يمكن تكريس هذه الهوية إلا بدواعي القوة الإكراهية الغاشمة المستندة إلى دعم القوى الإمبريالية والعربية الرجعية، فإسرائيل ستظل "كياناً غريباً مرفوضاً في المنطقة العربية من ناحية، وستظل الحركة الصهيونية عاجزة عن الحديث عن "أمة" يهودية بالمعنى الموضوعي أو العلمي، كما هو الحال بالنسبة لاستحالة الحديث عن "أمة إسلامية أو أمة مسيحية أو بوذية" من ناحية ثانية، ما يعني أن هذه "الدولة" لا تعدو كونها مجتمعاً عسكرياً استعمارياً اغتصابياً استيطانياً ، يضم أجناساً متباينة روسية وبولندية وأوكرانية وأوروبية وآسيوية وعربية وأفريقية، كل منها له ثقافته وتراثه المختلف عن الآخر، وجدوا في الفرصة التي أتاحتها الرأسمالية العالمية لهم بالذهاب إلى فلسطين واستيطانها بذريعة توراتية تحت عنوان "العودة إلى أرض الميعاد" مخرجاً لهم من أزماتهم أو مدخلاً لتحقيق مصالحهم، إذ أنه بدون تشجيع ودعم رأس المال الأوروبي عموماً والبريطاني خصوصاً لما كان من الممكن أن تتقدم الحركة الصهيونية خطوة واحدة إلى الأمام، ما يؤكد على أن التقدم الاقتصادي والعسكري الذي أحرزته دولة العدو الإسرائيلي لم يكن ممكناً دون الدعم المتواصل حتى اللحظة من القوى الإمبريالية والبرجوازية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وعملاؤها في الأنظمة العربية منذ ما قبل نكبة 1948 إلى يومنا هذا.
هنا بالضبط، أؤكد بكل ثقة، على أن نجاح الاستعمار الاستيطاني في أمريكا وأستراليا في إبادة أهل البلاد الأصليين، يستحيل تكراره في فلسطين، مهما تبدى من استفحال ضخامة قوة العدو الصهيوني بكل أبعادها (العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية)، ذلك إن شعبنا الفلسطيني امتلك هويته الوطنية ووجوده القومي المتميز في إطاره العربي السوري آنذاك، إلى جانب أن فلسطين ليست معزولة عن محيطها العربي القومي – مهما تبدى من مظاهر الهزيمة والتطبيع والانحطاط الرسمي الراهن -، في مقابل أن دولة الكيان الصهيوني معزولة موضوعيا عن محيطها، إلى جانب كونها قاعدة استعمارية/إمبريالية في بلادنا لا مستقبل لها إلا ضمن استمرار حالة الانحطاط العربي الرسمي والانقسام الفلسطيني الراهنة.
وفي كل الأحوال، فإن الصراع مع العدو الصهيوني الإمبريالي، صراع مفتوح لن تختزله لحظات انكفاء عابرة، تتجسد راهنا في خضوع واستسلام أنظمة الكمبرادور العربية للإمبريالية الأمريكية وحليفها الصهيوني من ناحية ، إلى جانب أوضاع الضعف والتفكك التي سادت على الصعيد الفلسطيني، سواء على صعيد ممثلنا الشرعي والوحيد م.ت.ف، أو استمرار الانقسام الكارثي الذي أدى إلى تفكيك الهوية وتفكيك المجتمع وتفكيك الوطنية الفلسطينية وتفكيك النظام السياسي، وكل هذه المظاهر أدت إلى ذلك التراجع الفلسطيني من خلال تراجع القوى الوطنية الفلسطينية بمختلف رؤاها وبرامجها، الأمر الذي يعني أن استنهاض قوى حركة التحرر العربية التقدمية وخروجها من أزماتها، شرط رئيسي صوب استعادة دورها في النضال السياسي والكفاحي والديمقراطي، من أجل توفير كل أسس الصمود والمقاومة في فلسطين، ومن أجل مواصلة النضال ضد أنظمة الاستبداد والتبعية والتخلف وتصفية التحالف البورجوازي الكومبرادوري – البيروقراطي، لتحقيق انتقال مقاليد القيادة إلى "الطبقات" والشرائح الاجتماعية الكادحة الأكثر جذرية، القادرة وحدها على توفير عناصر ومقومات القوة الاقتصادية والعسكرية القادرة على هزيمة الكيان الصهيوني وإزالته من بلادنا.
وهذا يعني بوضوح، أن المهمة العاجلة أمام الحركات الوطنية عموما وحركات اليسار الماركسي خصوصا، في فلسطين وكافة بلدان الوطن العربي، أن تعيد النظر في الرؤية الإستراتيجية التحررية الديمقراطية، الوطنية والقومية ببعديها السياسي والمجتمعي، انطلاقاً من إعادة احياء وتجدد الوعي بطبيعة الدولة الصهيونية، ودورها ووظيفتها كمشروع إمبريالي لا يستهدف فلسطين فحسب، بل يستهدف –بنفس الدرجة- ضمان السيطرة الإمبريالية على مقدرات الوطن العربي واحتجاز تطوره، وتكريس تبعية وتخلف وإفقار بلدانه وشعوبه، وبالتالي فإن الصراع مع المشروع الصهيوني هو صراع مع النظام الرأسمالي الإمبريالي من أجل تغيير وتجاوز النظام العربي الكومبرادوري الراهن كمهمة إستراتيجية على طريق النضال من أجل تحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية وتواصله ضد الوجود الأمريكي، وضد الدولة الصهيونية وإزالتها وإقامة فلسطين الديمقراطية لكل سكانها.