رُوزنامةُ الاأسبوع ـ جواسيسٌ مثليُّون!


كمال الجزولي
2023 / 1 / 3 - 04:32     

الاثنين
مرَّت بنا، البارحة، الذِّكرى السَّابعة والسِّتُّون لرفع راية استقلالنا السِّياسي في الأوَّل مِن يناير 1956م. وكانت، هزيمة جيوش المهديَّة، دولتنا الوطنيَّة الموحَّدة الأولى، أمام جيش كتشنر الغازي، بتاريخ الثَّاني من سبتمبر 1898م، في سفح جبل كرري، قد دشَّنت بداية عهد الاستعمار البريطاني للسُّودان. منذ ذلك الحين، وعلى مدى ستة وخمسين عاماً، أخذت البلاد تتوغَّل، بالتَّدريج، في عالم حداثة القرن العشرين، وإن بدواعي استنزاف الاستعمار للموارد والخيرات، عن طريق بناء ميناء بورسودان، وتشييد خزَّان سنَّار، وتخطيط مشروع الجَّزيرة، وغيره من المشاريع على النِّيلين الأبيض والأزرق، بالاضافة إلى دلتا القاش، وطوكر، وجبال النوبا، والشَّماليَّة، وغيرها، فضلاً عن مدِّ خطوط السِّكَّة حديد لنقل القطن، والمحاصيل الأخرى، كالصَّمغ، والسِّمسم، والذُّرة إلى ميناء بورسودان، وإلى ذلك إنشاء الورش في مدينة عطبرة لتصنيع وصيانة القطارات، وعرباتها، وقطع غيارها، وإلى ذلك ما تسدُّ به الادارة الوافدة احتياجها من الموظَّفين المحليِّين في أسفل السُّلَّم الإداري، مِمَّا شمل التَّحديث المتروبولي التَّعليمي بكليَّة غردون، وبالتَّالي التَّحديث الثَّقافي عموماً، وضمنه تحديث الشِّعر أيضاً.
وإذن، فإن مشروع حداثة القصيدة العربيَّة بدأ ارتباطه، باكراً، بالقضايا السِّياسيَّة بوجه عام. وسرعان ما أضحت الوطنيَّة معياراً للجَّودة الفنيَّة، مِمَّا أفضى، ردحاً من الزَّمن، إلى تجاهل وعزلة أيقونات جماليَِّّة تستند إلى الشِّعريَّة الخالصة، كالتِّجاني يوسف بشير مثلاً. ومع أواخر الأربعينات ومطالع الخمسينات، شكَّلت الثَّقافة، والفكر، والشِّعر منابر إضافيَّة للكفاح ضدَّ الاستعمار، ومن أجل التَّحرُّر الوطني، وتحقيق الاستقلال السِّياسي، فأزهرت دعاوى أيدولوجيَّة، بتأثيرات عالميَّة، وإقليميَّة، ومصريَّة خصوصاً، تحت شعار «الإبداع الملتزم» لتسخير الأدب، والشِّعر بالذَّات، في خدمة القضايا العامَّة، بل واشتطَّت بعض تلك الدَّعاوى إلى حدِّ تسخير تلك القيم في خدمة قوى بعينها، أيديولوجيَّة وحزبيَّة.
كذلك ازدهرت فلسفات تقدُّميَّة، كالماركسيَّة بالذَّات، عقب نهاية الحرب الثَّانية، وعبر مسالك التَّحرُّر الوطني من الاستعمار القديم، وما انتسب إليها من مفاهيم، كمفهوم «الواقعيَّة الاشتراكيَّة»، فضلاً عن النَّماذج الملموسة للإبداع الثَّوري القادم من الاتِّحاد السُّوفييتي، وبلدان الدِّيموقراطيَّات الشَّعبيَّة والصِّين، أو ما كان يُعرف، وقتها، بالمعسكر الشَّرقي، عبر مصر وغيرها من بلدان أنظمة القوميَّة العربيَّة، مِمَّا كانت له جاذبيَّة خاصَّة، وأثرٌ حاسمٌ في اقتران الأدب، والشِّعر خصوصاًً، بالسِّياسة وقضايا الشَّأن العام، في البلدان النَّامية، أو ما كانت تُعرف ببلدان العالم الثَّالث، ومن بينها السُّودان.
هكذا شكَّلت العقود الثَّلاثة، من الخمسينات إلى السَّبعينات، حقبة ازدهار للأدب والفن «الحداثيِّين»، و«الملتزمين»، سياسيَّاً وآيديولوجيَّاً، وبالذَّات الشِّعر، في العالم الثَّالث، عموماً، وفي السُّودان، خصوصاً. غير أن الشِّعر السُّوداني لم يقتصر، مع ذلك، في تطوُّره، وفي ارتقائه «الحداثي»، على الاهتمام بالقضايا العامَّة، والأحداث السِّياسيَّة، فحسب، بل تناول، أيضاً، شتَّى الأغراض الأخرى، النَّفسيَّة، والعاطفيَّة، والفلسفيَّة، والاجتماعيَّة، وغيرها، في قوالب تتَّسم بالمباشرة غالباً، كما وبالغموض أحياناً. فأمَّا جذور عناية الشِّعر السُّوداني بالقضايا العامَّة، فلا تعود، فحسب، إلى الخلفيَّات والمؤثِّرات العالميَّة والإقليميَّة المشار إليها، بل تمتدُّ إلى مفهومين آخرين متداخلين: مفهوم «ثقافي عربي» هو مفهوم الشِّعر نفسه في تراث القبيلة العربيَّة، باعتباره «ديوان العرب»، حيث كان، دائماًً، بمثابة السِّجل التَّاريخي لأحداثها الكبرى؛ ومفهوم «ثقافي سودانوي» بحت، يتَّصل بمفهوم «الحداثة» في الشِّعر السُّوداني بالذَّات، والذي اتَّخذ رافعة له من الدَّعوى الفكريَّة لـ «السَّودنة»، و«التَّأصيل»، و«الاستقلاليَّة»، و«العودة إلى الجُّذور»، وما إلى ذلك من مفاهيم كان الشَّاعر النَّاقد حمزة الملك طمبل أوَّل من حمل لواءها. فمع إقراره الضِّمني بانتساب القصيدة السُّودانيَّة إلى تقاليد الشِّعر «العربي»، لغة وتركيباً، فإنه بقي، إلى ذلك، يحتفي بذاتيَّة «سودانويَّة» مخصوصة لا تحتاج لغير «الصِّدق الفنِّي» كي تنعكس على الإبداع الشِّعري، فأطلق نداءه الشَّهير: «يا شعراء السُّودان أصدقوا وكفى»! وقد أفاض في ذلك بقوله: «نريد أن يُقال عندما يقرأ شعرنا من هم خارج السُّودان أن ناحية التَّفكير في هذه القصيدة أو (روحها) تدلُّ على أنها لشاعر سوداني، هذا المنظر الطبيعي الجَّليل الذي يصفه الشَّاعر موجود في السُّودان، هذه الحالة التي يصفها الشَّاعر هي حالة السُّودان، هذا الجَّمال الذي يهيم به الشَّاعر هو جمال نساء السُّـودان، نبات هـذه الرَّوضـة (أو هـذه الغابـة) التي يصـفها الشَّــاعر ينمـو في السُّودان» (الشِّعر السُّوداني وما يجب أن يكون عليه، ط3، ألأمانة العامَّة للخرطوم عاصمة للثَّقافة العربيَّة 2005م، ص 60).
وليس من العسير أن نلاحظ اقتفاء أدباء وشعراء ونقاد آخرين أثر طمبل بهذا الاتِّجاه. ففي تعقيب يوسف مصطفى التِّني، مثلاً، بمقالته «بين الأدبين»، على مقالة محمد حمزة عبد القادر «الأدب المصري والسُّوداني وخطأ الفصل بينهما»، كتب يقول بكلِّ صراحة ووضوح: «نتاجنا الأدبي يجب أن يكون عليه طابعنا الخاص وشخصيَّتنا القوميَّة. نريد أدباءنا أن يقرأوا أدب مصر، وغير مصر، حينما يقرأون، ولكن يجب أن يكونوا سودانيِّين عندما ينتجون»(م/ الفجر، ع/ أغسطس1935م).

الثُّلاثاء
تعقيباً على روزنامة الأسبوع الماضي حول "محنة سلفاكير"، كاتبني السَّيِّد مشار كول يقول: "لقد أشرت الى ان هذا الفيديو ربما يكون حلقة من حلقات التآمر ضد القادة الافارقة المناضلين أمثال لوممبا وموغابي وجون قرنق. لكن الذي حدث ليس له علاقة البتة بنظرية المؤامرة، بل بالفساد والاستبداد والمحسوبية وحكومات الأسر والعشائر والقبائل". ثم مضى يصف أشكال هذا الفساد والاستبداد والمحسوبية، ويختم بأن سلفاكير يجب أن يسلم السلطة لشباب الجَّنوب، فهم مؤهلون لقيادة شعبهم،
بدوري أشكر السَّيِّد مشار على كلمته. لكن يؤسفني أن ألاحظ أنه ترك مضمون روزنامتي جانباً، ليخوض في أمر آخر تماماً، وهو نقد نظام الحكم الجَّنوبسوداني، بما لا يصلح كتعقيب على ما طرحته، وذلك، باختصار، لما يلي:
أوَّلاً: لقد سعت كلمتي لتلمُّس أسباب ذلك الحدث المأساوي المحدَّد، وحصرتها في احتمالين لا ثالث لهما:
(1) الاحتمال الأوَّل يندرج، كما يقول التَّاريخ، ضمن مخطَّطات ما بعد الاستعمار، للتَّخلص من الزُّعماء الأفارقة الذين تصدُّوا، في فترة من الفترات، لقيادة شعوبهم على طريق الاستقلال السِّياسي، والتَّحرُّر من القهر. وطبعاً لا يستطيع أحد أن ينفي عن سلفاكير أنه كان أحد هؤلاء، وفي السِّياق استثناءات لا يُقاس عليها، يأتي على رأسها نلسون مانديلا، فأين "نظريَّة المؤامرة" في هذا؟! المهم أن تطبيقات هذا الاحتمال الأوَّل قد تقع:
أ/ إمَّا بتصفيتهم جسديَّاً، إن اقتدرت قوى الاستعمار الحديث عليهم، وهذا ما حدث للومومبا، وجون قرنق، وبعض قادة النِّضال التَّحرُّري في الجَّنوب الأفريقي، كأنغولا وغيرها؛
ب/ أمَّا إن لم تكن التَّصفية الجَّسديَّة ممكنة، أو كانت ممكنة ولكن غير ملائمة، فبتشويه صور هؤلاء القادة images، واغتيالهم معنويَّاً في عيون شعوبهم نفسها، علماً بأن ذلك قد يتَّخذ ما لا حصر له مِن الأشكال، كالوقائع التي تُعتبر فضائحيَّة في مرآة السُّلوك الأخلاقي للمجتمعات العالمثَّالثيَّة، ومنها الواقعة موضوع الرُّوزنامة! وعموماً فإن من الأشكال الأكثر تجريباً في هذا المضمار دفع هذه الرُّموز على طريق الدِّيكتاتوريَّة، والبطش، والخوض في دماء مواطنيهم، بعد أن كانوا قادة للتَّحرُّر (!) واستغلال نقاط الضَّعف لدى هؤلاء القادة، ومن ثمَّ إغراقهم في شهوات الخمر، أو النِّساء، أو المال، مثلاً، وتحويلهم مِن مناضلين إلى بهلوانات، كما في نماذج جومو كينياتا، وموغابي، ورامافوزا؛
(2) أمَّا الاحتمال الثَّاني فيندرج، كما يقول الأطبَّاء الاختصاصيُّون، ضمن الأمراض العضويَّة التي قد تصيب أيَّ إنسان، ببساطة، لولا أن الدَّولة نفسها التي يرأسها سلفا قد أهملت علاجه! ولا بُدَّ، هنا، من الاشارة إلى أن الأخ مشار تعمَّد تجاوز هذا الاحتمال في كلمته، كأن لم يكن وارداً في الرُّوزنامة، مِمَّا يشكِّل مطعناً جدِّيَّاً في منهجه!
ثانياً: ترك الأخ مشار تَّعقيبه، وانبرى يدبِّج خطاباً معارضاً، لحمته وسداه نقد دولة الفساد، والاستبداد، والمحسوبيَّة، لكنه، وإن كان نقداً مفهوماً، بطبيعة الحال، إلا أنه ليس مناسباً في التَّعقيب على روزنامتنا عن "محنة سلفاكير"!

الأربعاء
شاهد النَّاس المخلوع، وسمعوه، صوتاً وصورة، يقول أمام المحكمة إنه وحده، بمفرده، ودون بقيَّة المتَّهمين، عسكريِّين ومدنيِّين، مَن قام بانقلاب الثَّلاثين من يونيو 1989م! وإذن، فليس صحيحاً ما ظلَّوا يسمعونه من المرحوم التُّرابي، فضلاً عمَّا ظلَّت تتناقل أجهزة الإعلام، أيضاً، عن المخلوع شخصيَّاً، صوتاً وصورة، من أنه نفَّذ الانقلاب بناءً على تعليمات الجَّبهة الاسلاميَّة القوميَّة!
مِن جهة أخرى أحال معلِّقون إفادة المخلوع إلى قيم "الرَّجالة" التي قالوا إنه يتمتَّع بها! فإذا استخدمنا مربَّع أرسطو في المنطق، فإلى ماذا، تراهم، سيحيلون إفادات المتَّهمين الآخرين، إن جاءت "متطابقة" مع إفادة المخلوع!

الخميس
سيظل اسم جون ويليام كريستوفر فاسيلي محفوراً في ذاكرة الاستخبارات البريطانيَّة والسُّوفييتيَّة إلى الأبد، حيث كان، قبل ستِّين عاما، حسبما أوردت بي بي سي، أحد أخطر محاور حرب الجَّواسيس بين الدَّولتين، حيث حدث، أثناء عمل فاسيلي في فرع الاستخبارات العسكريَّة بملحقيَّة البحريَّة الملكيَّة بسفارة بريطانيا في موسكو، أن بلغ، بالمصادفة، إلى علم جهازالاستخبارات السُّوفييتي "كي جي بي"، أن لديه ميولاً جنسيَّة مثليَّة، فاستغلَّ الجِّهاز تلك المعلومة في ابتزازه، وتجنيده للعمل كجاسوس ضدَّ بلاده!
كان ذلك أوان "الحرب الباردة"، وهو مصطلح قُصدت به، أساساً، المواجهة السِّياسيَّة، والايدلوجيَّة بين القوَّتين العظميين، أمريكا والاتِّحاد السُّوفييتي، ووراء كلٍّ منهما حلفاؤها، وذلك خلال العقد 1945م ـــ 1954م، فور انتهاء الحرب العالميَّة الثانيَّة، بعد أن تأكد لجميع الاطراف أن البشريَّة لن تسمح، مرَّة أخرى، بتكرار بشاعات تلك الحرب التي حصدت ملايين الأرواح في مختلف أنحاء المعمورة.
في البداية نشط فاسيلي في ذلك العمل من داخل السَّفارة، بين عامي 1954م و1956م. ثمَّ واصل نشاطه، بعد عودته إلى لندن، حتَّى اكتشفته الاستخبارات البريطانيَّة، عام 1962م، بعد أن اخضعته لمراقبة دقيقة، عندما لفت نظرها سكنه الفاخر، وملبسه الغالي، وعموماً أسلوب حياته الذي لا يتناسب ومرتَّبه المحدود! فجَّر ذلك الاكتشاف فضيحة مدوِّية هزَّت، وقتها، حكومة المحافظين برئاسة هارولد ماكميلان هزَّاً عنيفاً! فأُلقي القبض على فاسيلي، وقُدِّم إلى محكمة أدانته، وحكمت عليه بالسِّجن 18 عاماً.
مِن وثائق التَّحقيق والمحاكمة اتَّضح أن تجنيد الدِّبلوماسي الشَّاب، آنذاك، فاسيلي تمَّ من داخل السَّفارة البريطانيَّة بموسكو، حيث أوقعه أحد الموظفين المحليِّين في مصيدة جنسيَّة! ويقول فاسيلي إنه كان يستبعد أن تستطيع السُّلطات السُّوفييتيَّة زراعة أولئك الموظفين في السَّفارة، كونهم يُعيَّنون للعمل فيها بعد موافقة مكتب الشُّؤون السُّوفييتيَّة في لندن، وعليه، وطالما كان ذلك كذلك، فإنهم لابد أن يكونوا قد خضعوا، بالفعل، للتَّدقيق من جانب السَّفير!
وقتها كانت المثليَّة الجِّنسيَّة مُجرَّمة في بريطانيا والاتِّحاد السوفيتي، وهي لا تزال مجرَّمة، حتى اليوم، في روسيا، وريثة الاتِّحاد السُّوفييتي. غير أنها أبيحت، في بريطانيا، خاصة بعد صدور قانون المساواة عام 2010م.
الشَّاهد، حسب اعترافات فاسيلي، أن الكي جي بي نصب له تلك المصيدة الجِّنسيَّة، حيث دعاه ذلك الموظَّف المحلي إلى سهرة رُتِّبت في غرفة سريَّة بمطعم قريب من مسرح البولشوي. فأفرط فاسيلي في الشُّرب، ثمَّ حين استيقظ صباحاً وجد نفسه عارياً في سرير، ومعه رجال آخرون، وما حدث بينهم قد جرى تصويره!
لم يجرؤ فاسيلي على إبلاغ أحد، في السفارة أو خارجها، بما حدث في تلك الليلة! مع ذلك، قُبضت عليه السُّلطات السُّوفييتيَّة ، بعد أيَّام، وخضع لتحقيق أُبلغ، خلاله، بأن ما اقترف، في تلك الليلة، يُعتبر، في القانون الجَّنائي السُّوفييتي، جريمة عقابها السِّجن، كما هدَّدوه بتسليم الصُّور لسفارته!
من هنا خضع لهم، وبدأ نشاطه التَّجسُّسي على سفارة بلاده لمصلحتهم. كما استغلُّوا علاقاته العمليَّة والجِّنسيَّة المثليَّة في الوسط الدِّبلوماسي خارج السَّفارة، والتي شملت دبلوماسيِّين بسفارات أمريكا، ومصر، وإثيوبيا، والهند، وباكستان، وأفغانستان، وفنلندا، وسويسرا، وبلجيكا. وعبَّر فاسيلي عن اعتقاده بأن السُّوفييت "أوقعوا بأولئك" واستغلوهم لمصلحتهم!
بعد عودته من موسكو، عام 1956م، عمل فاسيلي سكرتيراً لنائب مدير الاستخبارات في البحريَّة الملكيَّة البريطانيَّة. وزادت الوظيفة الجَّديدة من أهميَّة فاسيلي للسُّوفييت. فلم يوقفوا أنشطته، بل خصَّصوا أحد رجالهم بلندن ليكون ضابط اتِّصال بينه وموسكو، حيث كان يزوِّدهم بأسرار وزارة البحريَّة البريطانيَّة، كما أطلعهم على وثائق الخطط الأمنيَّة لحلف بغداد، وعلى تقارير تخصُّ وزير الحربيَّة، والاستخبارات البحريَّة، وكان يؤدِّي تلك المهام بكفاءة عالية، خاصَّة وأن الوظيفة الجَّديدة مكَّنته من الوصول إلى كمٍّ من المعلومات السِّريَّة، بما في ذلك المتعلِّقة بالذَّرَّة!
أمَّا عن كيفيَّة سقوطه، في ما روت "بي بي سي"، فقد افتضح أمره عام 1962م، بسبب المظاهر الباذخة لمسكنه، وملبسه، وما إلى ذلك. مِمَّا مكَّن المخابرات البريطانيَّة من الإيقاع به، والقبض عليه، وتقديمه للمحاكمة.
قضى فاسيلي 10 سنوات من مدَّة سجنه، ظل جهاز "إم آي 5" على اتِّصال به خلالها، حيث هيَّأت له إدارة السُّجون لقاءات مع أفراد من الجِّهاز، داخل السِّجن في البداية، ثمَّ سمحوا له بمرافقتهم لزيارة أماكن لقاءاته بمُشغِّله السُّوفييتي في لندن. وتكشف تقاريرهم عن أنه كان ما يزال معجباً، رغم كلِّ ما حدث، بطريقة السُّوفييت في تشغيله، حيث لاحظ أنهم ما كانوا يتردَّدون في مطالبته بوقف أيِّ نشاط عندما يعبِّر لهم عن أدنى هاجس، كما لم يكونوا يقتربون من شقَّته!
وورد في التَّقارير، أيضاً، أن الأمريكان لم يكونوا بعيدين عن قضيَّته. فخلال سنوات السِّجن طلب منه الـ "إف بي آي"، عن طريق المخابرات البريطانيَّة، معرفة العناصر الدِّبلوماسيَّة الأمريكيَّة التي كانت على صلة به في موسكو، فأبلغهم، في بعض استجاباته، أنه كانت له صلات جنسيَّة مع أحد المبرمجين التَّابعين للبحريَّة الأمريكيَّة، ومع شخص آخر عمل سابقا في القنصليةَّ الأمريكيَّة في هامبورج بألمانيا، ومع ثالث كان يعمل في السَّفارة الأمريكيَّة بموسكو، ثم انتقل للعمل رئيساً لوحدة الاتِّصالات بوزارة الخارجيَّة الأمريكيَّة!
ومن إفادات فاسيلي في تلك المقابلات، حسب التَّقارير، أن تيد هيث، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، وكان، وقتها، نائباً لوزير الخارجيَّة، ومنسِّقاً بين الحكومة والبرلمان، ذاع اسمه في دوائر المثليِّين جنسيَّاً! كما كشف فاسيلي عن بعض المسؤولين المثليِّين البريطانيِّين، سواء كان له اتصال بهم، أو سمع عنهم من آخرين، مثل الوكيل الدَّائم لوزارة الدَّاخليَّة الذي قال إنه "كان معروفاً في دوائر المثليِّين جنسيَّاً"! كما ألمح، في تقرير سرِّي آخر، إلى أن "إدوارد هيث، رئيس الحكومة بين 1970 و1974م، واحد من أولئك"!
وتكشف الوثائق، عموماً، أنه، بسبب فضيحة فاسيلي، سادت حالة من جنون وهوس الشَّك في المثليِّين، باعتبارهم خطراً أمنيَّاً، كونهم عرضة للابتزاز"! لذا اتَّسع نطاق تحريات "إم آي 5" لتشمل كلَّ مَن كان يُشكُّ في أنه مثلي، ويعمل في مؤسَّسة حكوميَّة!
في أكتوبر 1972م نال فاسيلي إفراجاً مشروطاً، وغيَّر اسمه لأسباب أمنيَّة، وعمل بالإسم الجَّديد موظفاً في جمعيَّة خيريَّة، ثمَّ في شركة محاماة لسنوات طويلة.
أخيراً توفي فاسيلي، عام 1996م، عن 72 عاماً، إثر أزمة قلبيَّة، وهو يستقلُّ مواصلة عامَّة بلندن!

الجُّمعة
نعى وزير الماليَّة الانقلابي جبريل ابراهيم سلفه في النِّظام البائد المرحوم عبد الرَّحيم حمدي، نعياً يجدر أن يُوضع تحته ألفُ خطِّ تشديد، حيث كان جبريل قد صرَّح، قُبيل أيَّام مِن هذا النَّعي، بأن انضمامهم إلى الاتِّفاق النِّهائي، رهين بانضمام "الجَّميع" إليه "دون إقصاء لأحد"! هذا التَّصريح يجدر، أيضاً، أن يُرفق بالنَّعي، وأن يوضع ألفُ خطِّ تشديد فيه، تحت كلمة "الجَّميع" وعبارة "دون إقصاء لأحد"!

السَّبت
الأسبوع الماضي، وفي المؤتمر الصَّحفي لمجلس الحرِّيَّة والتغييرالمركزي، وردت، في كلمة خالد عمر، مغالطة كبيرة، فحواها أن "الاتِّفاق الاطاري" لم يرجئ القضايا الرَّئيسة، وهي: تفكيك النِّظام البائد ـــ الاصلاح الأمني والعسكري ـــــ العدالة والعدالة الانتقاليَّة ــــ مراجعة سلام جوبا، إذ أن هذه القضايا، على حدِّ تعبيره، مضُمَّنة في "الاتِّفاق الاطاري"، ثمَّ ما لبث أن عاد وأمَّن على أن "التَّفاصيل" هي التي أرجئت!
حسناً، أفلا يعني هذا أن " الاتِّفاق الاطاري" قد اقتصر على "فهرست" بـ "عناوين" القضايا، بينما أرجئ "مَتْنُها"، ريثما يُضمَّن في "اتِّفاق نهائي" قادم؟!

الأحد
مِن أغرب الاجراءات التي نظرتها وقضت فيها المحاكم الهولنديَّة، مؤخَّراً، دعوى الهولندي إميل راتيلبند، والتي أسَّسها على مطالباته بالسَّماح له بأن يُصغِّر سنه عقدين مِن الزَّمان، وتحرير شهادة ميلاد جديدة له بذلك، مقارناً طلبه بمن يطلب تغيير جنسه!
راتيلبند البالغ من العمر 69 عامًا، والأب لستة أبناء، برَّر طلبه بحذف السَّنوات العشرين من عمره، بأنه يريد أن يبدو أكثر جاذبيَّة للجنس الآخر (!) كما أن العمر الأصغر يعزز من فرصه في العمل!
على أن قاضي محكمة خيلدرلند، في آرنم بشرق هولندا، قضى على أحلام الرجل الذي شارف على السَّبعين، برفض طلبه، قائلاً إن الأمر لا يتعلق بمجرَّد السِّن بل بالهويَّة العمريَّة التي تعني "حقوقًاً وواجبات"، وترتبط بأمور كثيرة كحق الاقتراع، أو الزَّواج، أو قيادة السَّيارات، وما إلى ذلك، وهي أمور سوف تفقد معناها لو سُمح للنَّاس بتغيير سنهم! بالإضافة لذلك فإن حذف عشرين سنة من عمر الإنسان يعني أن هذه السَّنوات التي عاشها المرء سوف تختفي من السِّجلات، مِمَّا يثير التَّساؤل المشروع حول أيِّ معطيات اكتسبها الإنسان خلال تلك المدة المخفية، بما في ذلك حتَّى الزَّوجة والأطفال!
مهما يكن مِن شئ فإن راتيلبند ومحاميه مُصرَّان على استئناف الحكم، حسب ما أدليا به لقناة "سي ان ان" الأمريكيَّة!

***