قراءة في كتاب -الإسلام والعلمانية والديمقراطية الليبرالية- لمؤلفه نادر هاشمي


صلاح الدين ياسين
2023 / 1 / 1 - 16:06     

كتاب من تأليف نادر هاشمي، أستاذ مشارك لسياسة الشرق الأوسط والسياسة الإسلامية في كلية جوزيف كوربل للدراسات الدولية بجامعة دنفر، ترجمه إلى العربية أسامة غاوجي، تنصرف إشكاليته الرئيسية إلى أن الديمقراطية الليبرالية تتطلب قدرًا معينا وضروريا من العلمانية، إلا أن جل المجتمعات والنخب الإسلامية ما تزال مشدودة إلى مرجعيات دينية لاهوتية، الأمر الذي يطرح جملة من التساؤلات حول مدى قابلية الديمقراطية للاستنبات في السياق الإسلامي. فهل هذا يعني حتما بأن الديمقراطية مستحيلة التحقق في الشرط الإسلامي؟ وهل الطريق إلى التحديث يمر حتما بالقطع مع السياسات الدينية؟ ما أسباب الرفض والجفاء الذي تواجهه العلمانية في المجتمعات الإسلامية وكيف السبيل إلى تجاوزه؟
في نقد أطروحة "الاستثناء الثقافي للإسلام"
يعترض الكاتب بشدة على مقولة "الاستثناء الثقافي للإسلام"، التي يروج لها دعاة أطروحة صدام الحضارات ونظرية التحديث، ومفادها أن العائق الأساسي الحائل دون تَقَدم دول العالم الثالث في اتجاه الديمقراطية الليبرالية هو الدين، وتحديدًا الإسلام فيما يتعلق بالنطاق الموضوعي لهذا الكتاب، بالنظر إلى توفر جوانب صلبة في العقيدة الدينية معادية لقيم الديمقراطية والحداثة، مما يتعذر معه ازدراع الحداثة السياسية في التربة الإسلامية.
وفي هذا الصدد، يذكر المؤلف دعاة تلك الأطروحة المبتذلة بأن تطور الديمقراطية والتحديث في السياق الغربي قد اصطدم بجملة من العراقيل والمثبطات قبل أن تنضج شروطه، وبخاصة العقيدة المسيحية في طبعتها الكاثوليكية المتحجرة، إذ لطالما جرى النظر إليها بحسبانها دينا أصوليا معاديا للحداثة، وهو ما جسمه تحالف الكنيسة مع السلطة الاستبدادية، والذي ضيق الخناق على الأفكار الجديدة المنبثقة من عصر التنوير الأوروبي، هذا قبل أن يخضع المذهب الكاثوليكي لعملية إعادة صياغة جذرية في ستينيات القرن الماضي، الشيء الذي أفضى إلى تحول موقف الكنيسة، ومن هنا دورها الإيجابي في الموجة الثالثة من التحول الديمقراطي كما يسميها صمويل هنتغتون، والتي عرفتها مجموعة من دول شرق أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
ومن نفس المنطلق، يرى نادر هاشمي بأن ظاهرة الأصولية الدينية ليست حكرا على المجتمعات الإسلامية، إذ عرفت أوروبا في بدايات عصر الحداثة ظهور حركات دينية متزمتة (مثل البيرونية) كنتيجة لصدمة التحديث، وبالتالي يصعب القطع بأن الظاهرة الاسلاموية متأصلة في الجوهر الثقافي للمجتمعات الاسلامية، بقدر ما هي محصلة للشعور بالضياع والاغتراب والتفكك، الذي كثيرًا ما يصاحب مخاض عملية التحديث، بفعل الإحساس بالخطر على الهوية الأصلية (ضمور السلطة الأبوية والقيم التقليدية في مقابل صعود قيم الفردانية والاستقلالية... الخ). وعليه فإن الأصولية الدينية لا تعدو كونها ظاهرة عابرة ومؤقتة، إذ ما تلبث أن تزول بمجرد استعادة الشعور بالأمن والاطمئنان بعد زوال الصدمة الأولية للتحديث.
هل تعد القطيعة مع السياسات الدينية شرطا ضروريا لإنجاز التطور السياسي؟
بما أن نظرية التحديث تزعم بأن الدين هو العائق الأساسي الذي يعترض تبني مجتمعات العالم الثالث لمبادئ الديمقراطية والحداثة، فإنها تقر بأن العلمنة الجذرية وفرض قطيعة صارمة مع الدين هو السبيل الوحيد لانتقال تلك المجتمعات إلى الديمقراطية الليبرالية، بيد أن المؤلف لا يبدو متحمسا لذلك الطرح باعتبار أن الدين يعد محددا رئيسيا للهوية في المجتمعات الإسلامية، بحيث ينبه إلى أن غالبية مفكري عصر التنوير الأوروبي لم يؤسسوا أفكارهم ونظرياتهم الحداثية على أنقاض المسيحية وبالقطيعة الجذرية معها، بقدر ما شرعوا في سيرورة إعادة تأويل النصوص الدينية اللاهوتية لإثبات عدم تعارضها مع قيم الحداثة ومبادئ التسامح والتعددية والإخاء التي نادوا بها. وعليه فقد انبثقت الديمقراطية الليبرالية من صلب السياسات الدينية نفسها وليس بمعزل عنها، من طريق الشروع في عملية إصلاح ديني عميقة.
ويسوق نادر هاشمي مثلا على ذلك بالمفكر الإنجليزي جون لوك، بوصفه أحد أهم أعلام عصر التنوير الفكري، فقد كان هذا الأخير يدرك بأن غالبية فئات وشرائح المجتمع محافظة دينيا، ولهذا فقد اتخذ من إعادة تأويل النصوص الدينية للمسيحية منطلقا لصياغة نظرياته الفكرية، صدورا من منهج تفسيري عقلاني ومنفتح على روح العصر، بحيث سعى إلى إثبات بأن قيم التسامح وحرية الضمير والتعددية المذهبية لا تتنافى مع جوهر المسيحية الحقة، كما اعتبر بأن نظرية الحق الإلهي المقدس للملوك كأساس لشرعنة السلطة السياسية ليس لها أي أساس في النصوص الدينية.
العلمانية وسؤال تبيئتها في المجتمعات الاسلامية
إن العلمانية ولئن كانت تحيل من الناحية النظرية إلى الفصل وإقامة التمييز بين السياسة والدين، بحيث تأخذ الدولة العلمانية مسافة واحدة من جميع الأديان القائمة ولا تضع قوانينها على أساس ديني، فإنه ثمة صيغ تطبيقية متباينة للعلمانية كما يشير إلى ذلك المؤلف، وهنا وجب التمييز بين النموذج الأنكلوأمريكي من العلمانية المعتدلة المتسامحة مع الدين، والنموذج الفرنسي من العلمانية الجذرية (اللائكية)، والذي يرفض أي حضور للتعبيرات الدينية في الحيز العام (حظر ارتداء الرموز الدينية في مؤسسات الدولة كالمدارس، عدم استحضار الدين كمرجعية في النقاش العام حول قضايا وتشريعات معينة مثل الإجهاض وزواج المثليين...).
إن حقيقة وجود نماذج متباينة من العلمانية يفيد ضمنا بأن المجتمعات الإسلامية بوسعها أن تبدع نموذجها الخاص الذي يراعي خصوصياتها المحلية، وهنا يحيل الكاتب إلى منظور عالم السياسة الأمريكي الراحل ألفرد ستيبان (1936-2017) كمرجعية يمكن الانطلاق منها بصدد النقاش حول العلمانية في المجتمعات الاسلامية، والذي يقوم على مفهوم "التسامح المزدوج"، بمعنى أنه يجب أن تتمتع الحكومة المنتخبة ديمقراطيا بالحق في اتخاذ قراراتها بمعزل عن تدخل الجماعات الدينية، كما يتعين أن يُحفظ للأخيرة حريتها في ممارسة شعائرها الخاصة واتخاذ مواقف سياسية عامة، دون اللجوء إلى العنف، وفي إطار الضوابط الدستورية والقانونية.
وفيما يخص السمعة السيئة التي اكتسبتها العلمانية في جل بلدان العالم الإسلامي، يعزو الكاتب ذلك إلى أنها اقترنت بتجربة التحديث القسري التي دشنها الاستعمار واستأنفتها النظم الاستبدادية في دولة ما بعد الاستقلال، فخلافًا لسياق نشوء العلمانية في الدول الأوروبية، حيث نبعت من أسفل المجتمع إلى الأعلى، وكانت وليدة تطور ذاتي بعد عملية إصلاح ديني وفكري من الداخل، فإن العلمانية في المجتمعات الاسلامية مرت بتطور معاكس، إذ كانت سابقة للإصلاح الديني الضروري، ولم تنجم عن صيرورة تطور محلية بمقدار ما كانت مفروضة من الخارج. وهكذا لا مناص – في نظر الكاتب - من الشروع في عملية إصلاح ديني نابعة من أوساط الفكر الإسلامي ذاته في أفق تَحقق القبول الشعبي للعلمانية.