السوفييت وتقسيم فلسطين: إضاءات على كارثة تاريخية وأيديولوجية وجيو - سياسية (الجزء السادس)


مسعد عربيد
2022 / 12 / 31 - 08:33     

موقف الشيوعيين في فلسطين

عبّر الشيوعيون في فلسطين عن موقفهم من قرار التقسيم وحل المسألة الفلسطينية في تلك الفترة من خلال التنظيميْن الشيوعييْن الرئيسييْن: الحزب الشيوعي الفلسطيني وعصبة التحرر الوطني في فلسطين. وقد اتفق التنظيمان في المطالبة بإنهاء الاستعمار البريطاني وجلاء قواته عن فلسطين، ولكنهما تباعدا في تصور مستقبل فلسطين وحل المسألة الفلسطينية. ففي حين رأى الحزب الشيوعي الفلسطيني أن الحل يكون بإقامة دولة واحدة ثنائية القومية، دعت عصبة التحرر الوطني في فلسطين إلى دولة مستقلة ديمقراطية موحدة لجميع سكانها.
أمّا موقف هذين التنظيميْن الشيوعييْن من قرار التقسيم، فسوف نعرضه هنا باقتضاب، ولكننا أفردنا للاستفاضة في نهاية هذه الدراسة ملحقين لإبداء بعض الملاحظات حول تشكّل الحركة الشيوعية في فلسطين ومسيرتها علّها تسهم في رسم السياق الذي تمت فيه صياغة موقف الشيوعيين العرب في فلسطين من قرار التقسيم وحل المسألة الفلسطينية: ملحق حول الحزب الشيوعي الفلسطيني، وآخر حول عصبة التحرر الوطني في فلسطين.
أ) الحزب الشيوعي في فلسطين
يرى مائير فلنر ، القائد في الحزب الشيوعي في فلسطين، أنه في فلسطين "يعيش شعبان في هذه البلاد ولهما مصالح مشتركة. مستقبلهما منوط بقيام دولة ديمقراطية غير منحازة"، مضيفاً "لا يمكن أن تقوم في البلاد دولة عربية صرف ولا يمكن أن تقوم دولة عبرية..".
وأوضح (فلنر) في 25 آذار 1946 موقف حزبه قائلاً ما مفاده: نشعر أن واجبنا يدعونا أن نكون حذرين من المكائد التي تهدف إلى تقسيم فلسطين. إن خطة التقسيم هي برنامج إمبريالي مُصمم لإيجاد شكل جديد لاستمرار الحكم البريطاني القديم حتى يزيد من التوتر بين العرب واليهود. إن مصلحة القوى الإمبريالية تكمن في إيجاد دولة للعرب ودولة لليهود، والنتيجة الحتمية لهذه المطالب ستؤدي إلى استمرارية الحكم الكولونيالي على العرب واليهود.

في تموز 1947، زارت فلسطين اللجنة الدولية لتقصي الحقائق (يونسكوب UNISCOP)، وأوصت بتقسيم البلاد إلى دولتين: عربية ويهودية. ورد الحزب الشيوعي في فلسطين على توصيات هذه اللجنة ببيان بتاريخ 1 سبتمبر 1947 (أي قبل أقل من ثلاثة أشهر من صدور قرار التقسيم) حدد فيه موقف الحزب من هذه التوصيات في بيان نشرته صحيفة الحزب الشيوعي الفلسطيني "كول هعام"، جاء فيه: "مع نشر توصيات اللجنة الدولية بشأن مستقبل البلاد يجب القول بشكل واضح: إن توصيات الأكثرية في اللجنة الدولية ليست منطقية وغير قابلة للتطبيق. صحيح أنها أوصت بتقسيم "جيد"، لكنه "جيد" إلى درجة لم يكن بن غوريون يحلم بها. فحتى الوكالة اليهودية نفسها لم تطالب بأن تكون يافا وبئر السبع في إطار الدولة اليهودية". وأضافت الصحيفة: "إن اقتراح الأكثرية في اللجنة الدولية لا يحقق الاستقلال القومي لا لليهود ولا للعرب، وإنما يضع الأسس للسيطرة الأجنبية على كلا الشعبين."
موقف عصبة التحرر الوطني في فلسطين
تضمن البرنامج السياسي لعصبة التحرر الوطني في فلسطين مطلبيْن أساسييْن: (1) إنهاء الانتداب البريطاني و(2) إقامة دولة مستقلة ديمقراطية موحدة لجميع سكّانها، واستمرت العصبة تعمل بهذا البرنامج حتى صدور قرار التقسيم عام 1947 الذي أحدث انشقاقاً فيها.
الموقف من قرار التقسيم
أ) رفض القرار
ردّت جريدة "الاتحاد" الصادرة عن عصبة التحرر الوطني في 19 أكتوبر 1947، على تصريح غروميكو ممثل الاتحاد السوفييتي في الامم المتحدة: "منذ تصريح غروميكو تبين أن موقف الاتحاد السوفيتي من مستقبل البلاد يقوم على إحدى إمكانيتين: إما الحل من خلال التفاهم اليهودي العربي على أساس إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية مستقلة، وإما التقسيم، ولا يوجد طريق ثالث.. إن الإتحاد السوفيتي أعلن موقفه هذا مع العلم بأن الخيار الأول غير وارد في ظل المؤامرات الامبريالية والصهيونية، وهو ما يعني قبول التقسيم، برغم أن التقسيم هو الحل الأسوأ".
وأضافت الصحيفة: "نحن لا نقبل موقف الاتحاد السوفييتي هذا بشأن القضية الفلسطينية. ونحن على قناعة بأن التقسيم هو حل غير عادل يحاولون فرضه على سكان البلاد من دون الاكتراث بمواقفهم. إن هذا الحل لا يحقق طموح السكان ولا يضمن الأمن والسلام في إنحاء البلاد، وليس من شأنه وقف المؤامرات الامبريالية". وواصلت القول إن: "صداقتنا مع الاتحاد السوفييتي.. لا تعني أننا نأتمر بسياسته الخارجية. فنحن الذين نقرر سياستنا على أساس وضع قضيتنا وأهداف شعبنا التحررية العادلة". وانتهت "الإتحاد" إلى القول: "علينا ان نعمل على توحيد صفوف الحركة الوطنية من أجل النضال ضد التقسيم ومن أجل إلغاء الانتداب البريطاني وجلاء العساكر الأجنبية وتحقيق استقلال البلاد".
ب) تراجع العصبة وقبولها بقرار التقسيم: عادت العصبة في شباط 1948 وقبلت بقرار تقسيم فلسطين، بعد أن رأت أنه أصبح نافذاً وناجز عالمياً، وكان تبريرها لتغير موقفها أن خيارات الشعب الفلسطيني قد تغيرت:
- فقبل إقرار قرار التقسم كانت الخيارات بين (1) القبول بقرار التقسيم، من جهة، أو (2) إقامة دولة ديمقراطية علمانية (وهو ما دعت له العصبة)، أو دولة ثنائية القومية (وهو ما دعا له الحزب الشيوعي الفلسطيني).
- أما بعد صدور قرار التقسيم فقد أصبحت الخيارات بين (1) تقسيم فلسطين إلى دولتين، أو (2) نكبة شعب فلسطين. أي أن السؤال بات: هل يمكن انقاذ حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني؟
أسفر الدعم السوفييتي لقرار تقسيم فلسطين عن انقسام في عصبة التحرر الوطني إلى قسمين:
- الأول، بقيادة فؤاد نصار وإميل حبيبي يؤيد مشروع التقسيم ويتماشى مع السياسية السوفييتية؛
- والثاني، بقيادة موسى الدجاني وإميل توما يعارض التقسيم ويؤيد الموقف الوطني العربي.
ولابد من التنبيه هنا أن إميل توما ومعه آخرون ممن عارضوا قرار التقسيم في ذلك الحين، عادوا لاحقاً ليؤيدوه، وأعلن إميل توما "تأييده لقرار التقسيم في معرض حديثه حول الحقوق المشروعة الشعب العربي الفلسطيني".
في حين أكدّ الدكتور خليل البديري " ... وقوفه ضد المزاعم الصهيونية منذ تلك الفترة وحتى اليوم شباط 1975، وأن ما رفضته قيادة النضال الوطني الفلسطيني وعصية التحرر الوطني في عام 1947 أي (مشروع التقسيم) ندعو لقبوله اليوم كخطوة على طريق حل المسألة الفلسطينية".
خلاصة القول، إنه كان من تداعيات قبول العصبة بقرار التقسيم وما تلاه من تطورات على الساحة الفلسطينية، إحداث انشقاق في العصبة واعتزال بعض قادتها العمل السياسي، وانضمام بعضهم إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي (1948). أما تنظيم العصبة في الضفة الغربية فقد وضع برنامجا سياسياً جديداً، وغير اسمه إلى الحزب الشيوعي الأردني (1951) وضمّ بين صفوفه بعض الحلقات الماركسية في شرقي الأردن.