السودان: البشير وضعف المنطق والادعاء الكاذب


محمود محمد ياسين
2022 / 12 / 30 - 21:11     

إن الدفاع السياسي الذي قدمه مؤخرا الرئيس المعزول عمر البشير في محاكمته بتهمة تدبير انقلاب 1989 وتقويض الدستور، اتسم بضعف المنطق والادعاء الكاذب، ولكن -قبل هذا- فان خطاب البشير الدفاعي عكس الازمة المستعصية التي تعيشها التيارات السياسية المعارضة وابتعادها عن النظرة الشاملة والارتهان لأحادية الرؤية (بمعناها الميتافيزيقي). فهذه التيارات أضحت تستهدي ببوصلته مشروخة تقرا الشمال جنوبا والجنوب شمالا وبالتالي لا ترشد الى الطريق الصحيح. لهذا فان أصحاب هذه النزعة يثبتون على علاقة واحدة مع تجاهل للصورة الكلية أو لا يفسرون العلاقات الأخرى برؤيتها من منظور معين (perspective) الا بتضمين تلك العلاقة الوحيدة. وهكذا ولمجرد الكيد من الحركة الاسلامية، كان أن تنكبت الصواب الدعوى الجنائية، التي رفعها في 2019 بعض المحامين (المعارضين للإنقاذ)، ضدها بتهمة تقويض النظام الدستوري.

ان نظام الإنقاذ البائد الذي حكم وسيطر على البلاد سيطرة تامة لثلاثين عاما لا جدوى من محاكمته بدعوى جنائية تتعلق بتقويض الدستور؛ فان الانشغال (preoccupation) بمسالة قانونية الانقلاب من عدمها مسالة شكلية لا تحقق أي فائدة سياسية؛ فمعارضة الانقلاب العسكري وتداعياته تتم بتعريته سياسيا ومحاكمته على الجرائم التي ارتكبها في حق الوطن والشعب.

وهكذا فان الدعوى الجنائية لمحاكمة انقلاب 1989 بتهمة تقويض الدستور تتجاهل التركيز، بعين سياسية ثاقبة، على حقيقة أن الانقلاب كفعل انتجه واقع معلومة ابعاده التاريخية وتطوراته السياسية؛ فان نظام الإنقاذ جاء لإعادة ترتيب نظام الحكم الذي ظل يرعى جوهر المكونات القديمة المسيطرة على الدولة السودانية منذ 1956. وقد برزت ضرورة هذا التغيير بعد الفشل الذريع لحكومة الصادق المهدى( 1986-1989) وخاصة في مجال الملف الاقتصادي الذي شكلت معالجة قضاياه امل كل فئات الشعب لوقف التدهور في الأحوال المعيشية السيئة التي خلفتها الإجراءات التقشفية القاسية ومجاعة 1984 التي حدثت خلال نظام جعفر نميري العسكري (1969-1985)؛ بالإضافة الى السخط الشعبي على حكومة الصادق المهدى لفشلها في الغاء قوانين سبتمبر 1983 الاسلامية وغيرها من قوانين نظام نميري المقيدة للحريات، وللمذابح التي تعرض لها المواطنين في واو في 1987 وتلك التي حدثت للنّازحين من قبيلة الدينكا في مدينة الضعين في نفس العام حيث لقى الآلاف منهم حتفهم.

على عكس ادعاء البشير الكاذب بان الانقلاب ” ثورة “ قام بها منفردا لإنقاذ البلاد، فان ”الجبهة القومية الإسلامية “ بقيادة حسن عبد الله الترابي هي من خطط ودبر للانقلاب الذي أتى بحكم الإنقاذ الظلامي. وحكم الإنقاذ ينتمي لنسَبَ ( lineage) جوهر نظام الحكم القديم ويتضح هذا من السير على نهج قوانين سبتمبر 1983 الرجعية قبل وضع دستور 1998 الذي نص على أن ”الشريعة الإسلامية وإجماع الأمة استفتاءً ودستوراً وعرفاً هي مصادر التشريع، ولا يجوز التشريع تجاوزاً لتلك الأصول“. وحتى دستور 2005، الذي صدر بعد اتفاقية نيفاشا، نص بوضوح على ان ” تكون الشـريعة الإسلامية والإجماع مصدراً للتشـريعات التي تُسن على المستوي القومي وتُطبق على ولايات شمال السودان. “

ولحقيقة تناسل حكم الإنقاذ من السياقات والكيانات الاجتماعية القديمة السائدة، فان الاسباب التي ساقها عمر البشير لتبرير الانقلاب واهية (insubstantial) لم يتجرأ لقولها، بعد كل هذه المدة من إطاحة لجنته الأمنية به في أبريل 2019، الا لقلة حيلة معارضيه الذين يتصدرون الساحة السياسية بمعاونة الجيش والمليشيات المسلحة واختاروا محاكمة الانقلاب بحجة قلب الحكم بديلا عن محاكمته سياسيا وعلى جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم قتل الخصوم السياسيين والمتظاهرين ضد حكمه وسرقة أموال الدولة.

وتتبدى سخافة المنطق في دفاع البشير حول ما ذكره من ان ظروف الحرب في السودان هي ما دفعه للقيام الانقلاب؛ فكل ما ذكره هو ان شح الذخيرة الحربية لم تساعد الجيش في الحرب بجنوب البلاد. وفى حقيقة الأمر ان انقلاب 1989 قد تجاوز مذكرة القوات المسلحة لرئيس الوزراء(الصادق المهدى) في فبراير 1989 التي استحثته على ضرورة ان تقوم الحكومة بالتوسع في احتياجات الجيش من العتاد الحربي وأعطته إنذارا (ultimatum) لتحقيق مطلبها في زمن محدد. ولكن على أي حال، فان الخطل يكمن في نظرة العسكريين التي تساير القوى الحاكمة آنذاك في نهجها المتمثل في حسم الحرب بجنوب البلاد عسكريا وعدم السعي للبحث عن الحلول السياسية؛ وخيار الحل العسكري جعل البشير في مرافعته يصف المقاتلين من أبناء الجنوب، الذين أشعلوا الحرب ضد الدولة، ب ”الخوارج “ للتقليل منهم ومن قضيتهم التي حملتهم على الحرب؛ فأبناء الجنوب، غض النظر عن اعتمادهم على سياسة الهوية المفلسة (identity politics )، حملوا السلاح للتحرر من ظلم الدولة لهم بغمطها حقوقهم. وتبلغ الحرب ذروتها بتحويل حكم الإنقاذ لها في جنوب السودان الى حرب جهادية (أغلبية سكان الجنوب من الوثنيين أو المسيحيين).

كما ان الحرب في ذلك العهد انتشرت في انحاء مختلفة من البلاد واستعان فيها حكم الإنقاذ بمليشيات من مدنيين تابعين للحركة الإسلامية تسمى قوات ”الدفاع الشعبي“ وهي تطوير لمليشيات ”المراحيل” التي أسسها الصادق المهدى في ثمانينيات القرن الماضي. ولما تطاولت مدة الحرب لجأ البشير لتأسيس مليشيات (الجنجويد) تابعة للقوات المسلحة وزج بها في الحرب. وكما هو متوقع، قامت قوات الجنجويد بانتهاكات عسكرية وجرائم مشينة تمنع المسؤولية الدولية الجيش من القيام بها. ولكي تعتمد عصابات الجنجويد على مواردها الذاتية، أطلقت الحكومة يدها للتنقيب، بشكل غير قانوني، عن الذهب والمعادن الأخرى الامر الذي مكنها من تكوين ثروات مالية ضخمة.

وأخيرا، لم يكن في استطاعة البشير ان يتكلم عن أية إيجابيات تذكر فيما يخص المسالة الاقتصادية والسياسة المالية. وليس مهمتنا هنا الكتابة عن التفاصيل المتعلقة بالسياسات الاقتصادية والمالية لحكم الإنقاذ وارتباطاتها بمصالح خارجية (في مجال الاستثمار بشقيه الإنتاجي والتجاري) تشكلت خلال خلافاتها مع صندوق النقد الدولي، لكن اختتم المقال بالإشارة الى قول البشير في دفاعه عن عائدات البترول للفترة ( 1999- 2011 ) التي لم تدرج في ميزانية الدولة السنوية ولا يعرف أحد الى الآن اين ذهبت وفى أي حسابات وضعت؛ ذكر البشير ان عائدات البترول (يقدرها بعض الخبراء ب 140 مليار دولار) صرفت لتمويل انشاء الطرق والكباري؛ هكذا كانت افادة البشير الحمقاء حول قصة ”اختفاء“ عائدات البترول وما على الناس الا تصديقه، فالأرقام (المراجعة) غير مهمة!!