السوفييت وتقسيم فلسطين: إضاءات على كارثة تاريخية وأيديولوجية وجيو - سياسية (تتمة الجزء الرابع)


مسعد عربيد
2022 / 12 / 23 - 23:53     

ثانياً: العوامل الإستراتيجية
الموقف السوفييتي على ضوء مصالحه
1) تحولات في الإستراتيجية السوفييتية
يتمتع المشرق العربي بأهمية إستراتيجية بالغة. أما فلسطين، فهي القلب من هذه المنطقة، لذا غذّت إطلالتها على البحر الأبيض المتوسط وقناة السويس مطامع القوى العظمى من أجل الاستيلاء عليها كمناطق نفوذ تلبي مصالحها. وعلى ضوء مصالحه، بادر الاتحاد السوفييتي بإرساء أسس سياسته الخارجية التي تضمنت تغيرات في الرؤية الإستراتيجية السوفييتية وتجلت بوضوح في مشرقنا العربي، حيث غَلَبَت مصالح الدولة على الأيديولوجيا، خصوصاً في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وبدايات الحرب الباردة.
2) زعزعة النفوذ البريطاني
لم يكن موقف الاتحاد السوفييتي وتأييده لقرار تقسيم فلسطين منسجماً مع المبادئ الأممية التي نادى بها (ولا حتى مع ما يُسمى ب “الشرعية الدولة" ومبادئ الأمم المتحدة)، بل كان، كما أسلفنا، مدفوعاً بمصالحه الجيو-إستراتيجية في العالم والمشرق العربي حيث ساد النفوذ البريطاني وشكّل تحدياً كبيراً للاتحاد السوفييتي الذي كان يرى ضرورة تقويض هذا النفوذ من أجل تأمين موطئ قدم له في شرق المتوسط.
وفي هذا الصدد طرح مؤرخون تفسيراً مفاده أن الاتحاد السوفييتي توجه إلى محاربة بريطانيا في مستعمراتها، "والتوهم" بأن إقامة الكيان الصهيوني سيؤول إلى إضعاف السيطرة الغربية، وخصوصاً البريطانية. وهو ما يدل على إخفاق كبير في فهم المشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين وارتباطه العضوي بالمصالح الإمبريالية في الهيمنة على الوطن العربي. وانطلاقاً من هذا العداء السوفييتي لبريطانيا، توقع بعض المحليين أن تكون السياسة السوفييتية حيال المشروع الصهيوني في فلسطين ودّية، لا من منطلق التعاطف مع الصهاينة أو الكراهية تجاه العرب، ولكن من أجل المصالح الإستراتيجية وتصفية الحسابات مع بريطانيا.
الحسابات السوفييتية وبريطانيا
ليس مستبعداً أن يكون الاتحاد السوفييتي قد رتّب حساباته وتوقعاته على ضوء توتر العلاقات مع بريطانيا والصراع بين المعسكرين، الرأسمالي والاشتراكي، وظهور بوادر الحرب الباردة بينهما، ومن هنا يذهب هذا التفسير إلى أن السوفييت توقعوا أن تكون هاتان الدولتان في فلسطين، العربية واليهودية، معاديتين للنفوذ البريطاني في المنطقة:
▪️ سيعارض الصهاينة السياسة البريطانية في فرض قيود على الهجرة اليهودية وسوف يقاوموها بتصعيد أعمال العنف والإرهاب الصهيوني. هذا من ناحية، ومن الناحية الثانية، ستكون "الدولة اليهودية" الوليدة في فلسطين أداة مفيدة لتقليص النفوذ البريطاني في ذلك الجزء من الوطن العربي. بهذا المعنى، تصور السوفييت أن هذه الدولة ستعمل ك "كيان وظيفي" يخدم مصالحهم.
▪️ من هنا أيضاً كان تصور السوفييت بأن تدفق الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفييتي وبلدان أوروبا الشرقية إلى الكيان الصهيوني سيسهم في زعزعة النفوذ البريطاني في المنطقة. وفي هذا السياق، يمكننا أن نفسر الدعم السوفييتي العسكري للقوات الصهيونية كموقف انطلق من الرؤية الإستراتجية السوفييتية الواهمة بأن دعم الكيان الصهيوني الذي سيقوم على أرض فلسطين سيسهم في طرد بريطانيا من فلسطين.
▪️ ستستمر بريطانيا في فرض نفوذها على الدول العربية، وخاصة مصر وشرق الأردن والعراق، من أجل السيطرة على الأنظمة العربية وإبقائها تحت قبضتها.
▪️ لم يغفل السوفييت أن الدعم السوفييتي لقرار تقسيم فلسطين وإنشاء كيان صهيوني على أرض فلسطين، سيلحق الضرر بالعلاقات مع الأحزاب الشيوعية العربية التابعة في سياساتها وقراراتها لإمرة السوفييت، إلاّ أن هذا، على الأقل من المنظور السوفييتي، سيكون ثمناً ضئيلاً مقابل الإسهام في إضعاف النفوذ البريطاني وانسحابها من المشرق العربي.
3) أسرا ر القنبلة النووية
رأى بعض المحللين أن السوفييت اعتقدوا في تلك الآونة أن بعض أسرار القنبلة النووية كانت في حوزة بعض العلماء اليهود، وبالتالي فإن دعم المشروع الصهيوني والاعتراف بالكيان الصهيوني قد يسهّل الوصول إلى هذه الأسرار، على أساس المقايضة بين ذلك والاعتراف بدولة "إسرائيل".
4) وهم "إسرائيل الاشتراكية"
كان السوفييت يدركون أن مقومات الدولة الصهيونية المنوي اقامتها في فلسطين وبقاءها يعتمدان إلى درجة كبيرة على استمرار تدفق الهجرة اليهودية إليها، وخصوصاً من مناطق الكثافة السكانية اليهودية في روسيا وبولندا وغيرهما من بلدان أوروبا الشرقية. على هذا الأساس، بدا للسوفييت أنه بالإمكان (1) استثمار هؤلاء اليهود واستقطابهم كقوة ضغط للتأثير على سياسات الدولة اليهودية الحديثة، و(2) وربما استخدامهم أيضاً من أجل تهريب عناصر شيوعية موالية للاتحاد السوفييتي إلى الكيان الصهيوني. وقد لعبت الأحزاب الصهيونية ذات الخطاب والشعارات الاشتراكية، دوراً هاماً في تعزيز التوهم السوفييتي ب "إسرائيل اشتراكية" تكون "نواة للاشتراكية في المنطقة".
هناك أيضاً رأي يسود بين بعض المحللين مفاده أن مستشاري القيادة السوفييتية نصحوها بأن إقامة دولة يهودية في فلسطين ستُدخل عنصراً من الاضطراب و عدم التوازن في المنطقة، ما سيؤدي إلى "تثوير" الأوضاع الاجتماعية والسياسية، بمعنى أن التناقضات إن احتدمت فسوف تفضي إلى "الاستقطاب الطبقي" وإدخال البلاد في صراع طبقي تتحالف فيه الرجعية الغربية مع الرجعية اليهودية ضد اعدائهم الطبقيين المتمثل في تحالف أعضاء الطبقة العاملة من العرب واليهود.
أطروحة "اشتراكية الكيبوتس": هل صدقها السوفييت؟
في يوليو 1947، وفق لما كتبه مارتين كريمر ، أكد السكرتير الثاني للسفارة السوفيتية في واشنطن إبستين أن السوفييت يعرفون جيداً "أن التجارب الاجتماعية [الصهيونية] في الجماعية لا علاقة لها بالتفسير الماركسي للجماعة". ولكن إبستين أضاف أن اليشوف بدا وكأنه "مجتمع سلمي وديمقراطي وتقدمي ... الذي يمكنه أن يمنع المؤامرات المعادية للسوفييت، التي تفقس بسهولة بين الدوائر الرجعية الحاكمة للدول العربية في الوقت الحاضر “. وهذا يؤكد أن القادة الصهاينة كانوا يدركون أن الدعم السوفييتي لتقسيم فلسطين وانشاء دولة يهودية على أرضها - بصرف النظر عن الأيديولوجيا أو عدم قناعتهم بالتفسير الماركسي لظاهرتي الكيبوتس واليشوف - يتماشى مع المصالح السوفيتية.
ثالثاً: عوامل سوفييتية داخلية
أ) النفوذ الصهيوني في الاتحاد السوفييتي
يذهب كثيرون إلى أن التأثير اليهودي/الصهيوني في الاتحاد السوفييتي كان نافذاً، (ولا يزال كذلك اليوم في روسيا الاتحادية)، ليخلصوا أن قادة الحركة الصهيونية لعبوا دوراً كبيراً في التأثير على صياغة الموقف السوفييتي وإقناع القادة السوفييت بأن إنشاء الكيان الصهيوني هو خطوة هامة في خدمة المصالح السوفييتية، وأنه لا يتعارض لا نظرياً ولا عملياً مع الأيديولوجيا والسياسة السوفييتية. ويؤكد أصحاب هذا الرأي أن التأثير الصهيوني تجلى في العديد من مستويات الدولة السوفييتية والأطر الحزبية العليا. ويفضي هذا الرأي، إلى استنتاج يقول إن كون العديد من القادة الصهاينة من أصول روسية وبولندية، كان من بين العوامل التي شجعت السوفييت على اتخاذ موقفهم من قرار تقسيم فلسطين ودعم الكيان الصهيوني لاحقاً، ومراهنة السوفييت على أن هؤلاء القادة مرشحون مستقبلاً لتبني سياسات مؤيدة للاتحاد السوفييتي.
ب) الهجرة اليهودية إلى فلسطين
يذهب بعض المؤرخين إلى أن السوفييت كانوا يعتقدون أن قيام دولة يهودية في فلسطين قد يسهم في حل بعض المشاكل السوفييتية الداخلية المتعلقة بالمسألة اليهودية في بلدهم وبعض الدول الأوروبية، والتي ازدادت حدةً وتفاقماً حين أخذ اليهود الذين شرّدتهم النازية، يعودون بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، إلى أماكن إقامتهم الأصلية في الاتحاد السوفييتي وبولندا ودول أوروبية شرقية أخرى.
رابعاً: فلسطين والعرب في الموقف السوفييتي
العرب بعد الحرب العالية الثانية
حلّت القوى الاستعمارية الأوروبية (بريطانيا وفرنسا خاصةً) محل الاحتلال العثماني لبلدان المشرق العربي عقب الحرب العالمية الأولى، وخضعت فلسطين للاحتلال البريطاني (يسمونه انتداباً ونسميه احتلالاً) لعقود ثلاثة امتدت من عام 1918 إلى أن تمّ انسحاب قواته في 14 أيّار 1948. وبعد الحرب العالمية الثانية تلت فترة بالغة الأثر على مستقبل المشرق العربي وكافة البلاد العربية حيث عاشت المنطقة في خضم تطورات سياسية وإستراتيجية كبيرة، شكّلت تحديات جسمية للدبلوماسيين والساسة العرب. فقد كان هؤلاء الساسة ضعيفي المشاركة والتأثير في التطورات الدولية، وكانوا يفتقرون إلى فهم الواقع الدولي وصياغة إستراتيجية للتعاطي معه، ناهيك عن ارتباط الأنظمة العربية وعمالتها للقوى الاستعمارية الغربية. ويذكر بعض المؤرخين والمحليين أن القادة العرب في تلك الآونة لم يكونوا راغبين في إقامة علاقة مع الوفود السوفييتية والاشتراكية أو التنسيق معها، بل كانوا ينفرون من مندوبي هذه الدول ويتجنبون اللقاء بهم.
على خلاف ذلك، كان قادة الحركة الصهيونية أكثر فهماً وإلماماً بالأوضاع الدولية في تلك المرحلة، وعلى علاقات تواصل مع الدول وخصوصاً القوى العظمى، صانعة القرار. إذ لا يُخفى أن المشروع الصهيوني، كان منذ نشأته كفكرة وتنظيم وبرنامج، مرتبطاً بسياسات ومصالح القوى الإمبريالية، وأن الحركة الصهيونية وضعت إمكاناتها ونفوذها المالي والسياسي في خدمة هذه القوى. ومن هنا جاء المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين ليلبي هذه المصالح وليكون رأس الحربة الإمبريالية الغربية للهيمنة على الوطن العربي.
العلاقات مع الدول العربية
من الناحيتين، البراغماتية والإستراتيجية، كان الاتحاد السوفييتي، كما ذكرنا سابقاً، يسعى إلى منفذ إلى مياه البحر المتوسط وموطئ قدم في المشرق العربي. إلاّ أن السوفييت، كما يرى كثيرون، لم يتمكنوا من إقامة جسورٍ أو علاقات وثيقة مع الحكومات العربية ولم يجدوا جدوى من الاستثمار السياسي فيها، بل انحصرت علاقاتهم بالأحزاب الشيوعية العربية والتي كانت في معظم هذه البلدان محظورة ومقموعة. ويُذكر، على سبيل المثال، أن موقف حكومات الدول العربية لم يتعدَ الاستماع إلى خطاب غروميكو دون أن يُقْدم أي مسؤول عربي على دراسته أو مناقشته على أي مستوى، بل كان الاهتمام العربي مركزاً على تحركات بريطانيا والولايات المتحدة وسياستهما حيال المسألة الفلسطينية.
فلسطين والعرب في عيون السوفييت:
"اليهود متقدمون" و"العرب متخلفون"
شكّلت نظرة السوفييت إلى الفلسطينيين والعرب (شعوباً ودولاً ومجتمعاتٍ) واحداً من ركائز الموقف السوفييتي في تأييده لقرار التقسيم وإقامة دولة يهودية في فلسطين.
▪️ كان السوفييت ينظرون إلى المجتمعات العربية، على أنها عشائرية وقبلية ومتخلفة تسيطر عليها كيانات مجزّأة ومتصارعة وخاضعة للنفوذ الغربي وخاصة البريطاني والفرنسي.
▪️ في المقابل، رأى السوفييت أن المهاجرين الصهاينة "أكثر تحضراً وتقبلاً للقيم للاشتراكية"، متوهمين بأنه سيكون بمقدور بعض الاحزاب الصهيونية - التي تدّعي أنها اشتراكية وأنها تناضل من أجل بناء دولة/مجتمع اشتراكي - تأسيس "نواة اشتراكية" تكون مدخلاً للنفوذ السوفييتي في المنطقة. وقد عبّر عن ذلك بوضوح إيفان مايسكى، السفير السوفييتي في لندن آنذاك، في سياق تفسير اتصالاته مع السلطة التنفيذية الصهيونية في عام 1941، حيث كتب أنه في عشرينيات القرن العشرين: " ...كان لا يمكن لنا سوى أن ننظر إلى الصهيونية على أنها وكالة للإمبريالية. لكن الوضع تغير الآن. [...] إذا كانت روسيا السوفياتية تريد أن تهتم بمستقبل الشرق الأوسط، فمن الواضح أن اليهود المتقدمين والتقدميين في فلسطين يحملون وعوداً أكثر بالنسبة لنا من العرب المتخلفين الموجودين تحت سيطرة الزمر الإقطاعية". وقد تكون هذه الجملة الأخيرة "لكن الواقع تغير الآن ..."، هي بيت القصيد في تفسير انقلاب الموقف السوفييتي من عشرينيات إلى أربعينيات القرن العشرين: الانتقال من الأيديولوجيا الماركسية - اللينينية ودعم النضال الأممي إلى سياسة الحفاظ على المصالح الإستراتيجية لدولة عظمى.
▪️ وفي حين رأى السوفييت في الأمة العربية "أمةً في طور التكوين"، نجد أنهم اعتبروا المهاجرين اليهود القادمين من شتّى بقاع الأرض "شعباً" ذا حقٍ في بناء وطنه القومي.
السوفييت والرفض العربي لقرار التقسيم
استناداً إلى إيمانهم ب"الحق التاريخي للشعب اليهودي" في فلسطين، رأى السوفييت أن موقف الدول العربية الرافض لقرار تقسيم فلسطين "غير عادل"، وهو ما عبّر عنه غروميكو في خطابه الثاني على المنصة الأمم المتحدة بتاريخ 26 تشرين الثاني 1947، حين وصف موقف الدول العربية بأنه "غبن تاريخي"، مضيفاً أنه "لا يجوز أن نقبل هذه المقاربة [العربية] لأن الشعب اليهودي كان مرتبطًا بفلسطين على مدار فترة تاريخية طويلة… إنّ حلّ مشكلة فلسطين على أساس إقامة دولتين مستقلتين سيكون ذا أهمية تاريخية كبرى، وهو يلائم المطالب القانونية للشعب اليهوديّ الذي لا يزال مئات الآلاف من أبنائه دون مأوى ودون مصدر رزق…”". ،