شيرزاد النجار المكتفي بذاته


عبد الحسين شعبان
2022 / 12 / 23 - 22:36     

يصادف العام المقبل 2024، (60) عامًا على تعرّفي على البروفيسور شيرزاد أحمد أمين النجار في بغداد، حيث درسنا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية (جامعة بغداد) مع عدد من الأصدقاء المقرّبين بينهم طيب محمد طيب وناوشيروان مصطفى وفرهاد عوني وصلاح عبد الجبار المندلاوي وآخرين من الكرد.
ومنذ الأيام الأولى تلمّست مدى دفئ وحساسية وذكاء شيرزاد وطيبته وصدقه وإخلاصه، وكذلك حرصه على دوام الصداقة والعلاقة الوديّة التي استمرّت وتعزّزت أواصرها وتوثّقت عراها طيلة السنوات الأربعة التي قضيناها في الجامعة، وشهدت تلك الفترة الدقيقة عددًا غير قليل من الأحداث التي اختلف الفرقاء حولها، لكنّنا بغضّ النظر عن المنطلقات كنّا أقرب إلى فهم مشترك إن لم يكن موحّدًا.
ومن هذه الأحداث سقوط طائرة الرئيس عبد السلام محمد عارف في 14 نيسان / أبريل 1966، الذي يصادف الذكرى اﻟ 18 لتأسيس اتحاد الطلبة العام، حيث كنّا نحتفل بها. وكذلك توقيع اتفاقية 29 حزيران / يونيو 1966 بين الحكومة العراقية بقيادة رئيس الوزراء عبد الرحمن البزّاز ورئاسة عبد الرحمن محمد عارف والثورة الكردية ممثّلةً بقيادة الملّا مصطفى البارازاني. كما جرت في الفترة ذاتها الانتخابات الطلابية في ربيع العام 1967 والتي فاز بها الحزب الشيوعي وواجهته الطلابية "اتحاد الطلبة" بنسبة 76% من المقاعد الانتخابية و80% من الأصوات عبر رفعه شعارات مهنيّة جامعة وموحّدة.
وحدث في ذلك العام العدوان "الإسرائيلي" عل مصر وسوريا والأردن في 5 حزيران / يونيو 1967، حيث اندلعت التظاهرات العارمة مندّدة ﺑ "إسرائيل" ومطالبة بالحريات وإطلاق سراح المعتقلين والتطوّع مع المقاومة في موجة شبابية حماسية متدفقة. وشهد ذلك العام أيضّا انشطار الحزب الشيوعي إلى جناحين في 17 أيلول / سبتمبر جناح القيادة المركزية وجناح اللجنة المركزية، كما شهد مصرع تشي جيفارا 9 تشرين الأول / أكتوبر 1967.
وفي نهاية العام 1967 ومطلع العام 1968 حدث الإضراب الطلابي الكبير الذي ترافق مع الدعوة لعقد جبهة طلابية كان يُفترض أن تكون نواتها الاتحاد الوطني لطلبة العراق/ الجناح الموالي لسوريا، والحركة الاشتراكية العربية / التي أسست لاحقًا "جبهة الطلبة التقدميين" و"اتحاد طلبة كردستان" و"اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية".
وقد عشنا تلك الأحداث بتفاصيلها اليومية وتداخلاتها، فضلًا عن امتداداتها العربية والدولية، وصولًا إلى انقلاب 17 تموز / يوليو العام 1968 ووصول حزب البعث إلى السلطة مرّة ثانية، وبعد 13 يوماً حصل انقلاب من داخل الانقلاب في 30 تموز / يوليو وأُزيح جناح عبد الرزّاق النايف وهيمن البعث كليًّا على السلطة. وقد تم تجنيدنا في "كتائب الشباب" لبضعة أسابيع في معسكر الرشيد، وكنّا قد تخرّجنا من الجامعة في السنة الدراسية 1967 - 1968.

الشاب الإربيلي
كان الشاب شيرزاد النجار القادم من إربيل مثالًا في التزامه المعايير الأخلاقية وفي احترام أساتذته والاستفادة القصوى من علمهم، إضافة إلى الاستفادة من وجوده في بغداد للاطلاع على الحياة الاجتماعية والثقافية والفنية، ومن كل ما له علاقة بتطوير قدراته ورفد معلوماته وتعميق خبراته؛ وكان شديد الهدوء في الكلية عزيز النفس، كريمًا، ينتقي أصدقاءه بدقة شديدة لدرجة الحذر أحيانًا، وهو ما استمرّ عليه حتى يومنا هذا، لأن الصداقة بالنسبة إليه قيمة عليا لا يمنحها إلّا لمن يستحقها.
كان شيرزاد من الطلبة المتفوقين الذين استثمروا وقتهم إيجابيًا، وعاد بعد تخرّجه إلى إربيل وعمل على تطوير إمكاناته فدرس اللغة الإنكليزية، إضافة إلى معرفته باللغة العربية كتابة ومحادثة، واللغتين التركية والفارسية، ثم تعمّق في دراسة اللغة الألمانية خلال وجوده في فيينا لنحو 14 عامًا، نال فيها شهادة الماجستير والدكتوراه من أرقى الجامعات النمساوية، في مجال العلاقات الدولية والدبلوماسية، وأصبح له باعًا طويلًا في علم السياسة والقانون الدستوري والقانون الدولي، وألّف في هذه الحقول كتبًا عديدة، لعلّ أهمها كتابه الذي صدر باللغة الكردية والذي يتم طبعه باللغة العربية حاليًا: "كيف نفكّر سياسيًا؟" وهو لعمري من أهم كتب السياسة في العراق وربما في المنطقة لجدّة أطروحاته من جهة ولربطه النظرية بالواقع والممارسة والتطبيق من جهة أخرى، ناهيك عن فلسفة التفكير واتخاذ القرار.
وفي الفترة ذاتها التي درس فيها في فيينا كنت قد أنهيت دراستي في براغ وعدت إلى العراق في العام 1977، وانقطعت بيننا السبل بسبب الأوضاع العامة، ولم تعد الأمور إلى مجاريها إلّا بعد العام 1991، حيث التقيته مجدّدًا في كردستان التي داومت على زيارتها، وقال أنه سمع بالتحاقي بالبشمركة - الأنصار في الثمانينيات، وكان اللقاء صميميًا كما هي العادة.
وكان شيرزاد قد عمل مستشارًا لنائب رئيس الوزراء الأستاذ محمد محمود عبد الرحمن (سامي) الذي استشهد في العام 2004 إثر تفجير مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني من جانب تنظيم القاعدة الإرهابي. وخلال عمله أثبت جدارة عالية ليس في جانبه التدريسي وإشرافه على عشرات الأطروحات لطلبة الماجستير والدكتوراه وحسب، بل خلال تدقيقه لمعادلة الشهادات وخبرته في التعليم العالي وبأحوال الجامعات في الخارج، ولذلك تم اختياره مستشارًا لرئيس وزراء إقليم كردستان نجيرفان البارزاني، وفيما بعد مستشارًا لرئيس الإقليم عند تولّيه المنصب ذاته.
وفي الأعوام الدراسية 1999 و 2000 و 2001 كنت قد التحقت بجامعة صلاح الدين في إربيل لتدريس طلبة الدراسات العليا (كلية القانون) دعمًا لتجربة كردستان وإنجاحًا لتَنقية الأجواء الكردية بعد احتراب لا مبرّر له دام من العام 1994 إلى العام 1998، وكان د. شيرزاد ملازمًا لي خلال فترة وجودي، حيث كنت أحضر من لندن لبضعة أسابيع أعطى فيها محاضرات فصل دراسي كامل (سمستر) وأعود مرّة أخرى في الفصل الثاني لذات الهدف... وهو ما عاودته بعد ذلك أيضًا بعد تسوية أمر فصلي من جامعة بغداد العام 1980 وإعادتي إلى التعليم العالي، ثم أُحلت إلى التقاعد في العام 2010 لبلوغي السن القانوني وبطلب مني.

الإجماع "استثناءٌ"
لمست خلال وجودي في كردستان مدى الاحترام الفائق الذي يتمتّع به شيرزاد النجار، فكلّما ورد ذكره جاء ذلك لصيقًا بالنزاهة والاستقامة الشخصية والمهنية، تلك التي تتردّد على كلّ لسان وعلى كلّ من يعرفه، ولعلّ ذلك يُمثّل إجماعًا هو أقرب إلى الاستثناء في مجتمعات لا يمكن أن تجمع على شيء. فميزة شيرزاد الاساسية قول الحقيقة وعدم التساهل مع أي كان إزاء المعايير المهنية والأخلاقية وضوابط السلوك التدريسي بالنسبة للطلبة والأساتذة، علمًا بأنه عمل في أرفع المواقع فظلّ كما كان دائمًا متواضعًا وأمينًا. ولا أستطيع اليوم وأنا أقلّب في ذاكرتي بعد نحو 6 عقود من الزمن إلّا أن أرى ذلك الشاب المتطلّع إلى المعرفة يحدوه الأمل وهو يزداد تواضعًا بقدر علو كعبه وارتفاع منزلته وسمو علمه. وإذا كنت أفتش في نقاط قوّة ذلك الشاب المهذّب الودود الهادئ المقتصد في الكلام والعميق في المعرفة والفهم والتقدير وبُعد النظر، الواثق دون ادعاء والمخلص دون تبجّح، والعالِم دون استعراض والمتصالح مع نفسه أولًا تمهيدًا لتصالحه مع الآخرين، فلا بدّ لي من الاعتراف بدور العائلة والتربية البيتية التي هي اللبنة الأولى التي ارتقى بها سلّم الحياة، وهو ما عرفته من خلال معرفتي بأفراد أسرته جميعًا.

الرؤيوي
د. شيرزاد شخصية فكرية رؤيوية، هو يرى ما لا يراه الآخرون أحيانًا، وحين يصلون إلى ما وصل إليه بعد عناء، يكون هو قد غادر موقعه إلى محطّة أخرى داعيًا أصدقاءه إلى الالتحاق به، متجاوزًا كل عنعنات "الأنا"، لأنه يعرف حق المعرفة قدر نفسه مثلما يعرف حق المعرفة ما يريد أن يعطيه للمجتمع بشكل عام والمجتمع الأكاديمي بشكل خاص.
أستطيع القول أن ابتسامته تسبقه دائمًا وهي مفتاح علاقته حتى مع من يخاصمونه بسبب مبدئيته وتمسّكه بالمعايير المهنية بصرامة ودقّة، وحتى هؤلاء فإنهم يضطرون إلى احترامه، لأن معاييره يطبقها على نفسه بشدّة أكبر، فلم يضعف أمام المال أو المغريات الأخرى، بل كان لديه حصانة منيعة وإرادة حديدية إزاء ذلك، كما لم يحاول التشاطر أو الخداع أو اللعب، بل كان واضحًا ومستقيمًا وصادقًا وقنوعًا لأنه مكتفٍ بذاته؛
إن رحلته هي رحلة شاقة لكنها رحلة العقل، فصديق كل امرئ عقله وصديق شيرزاد الأول هو عقله. وحسب محي الدين ابن عربي:
من أحبّ الحق وغار عليه
فهو مع حبّه لا مع الحق
العارف لا يغار على الحق
بل يعشّقه إلى عباده
ويحبّبه إليهم

ذلك هو د. شيرزاد. إنه يصدح بالحق ويدعو إليه بوسائل ناعمة وأسلوب سلس وصدقية عالية. ويذهب إلى الحقيقة بكل روحه حسب أفلاطون، وهو لا يخشى في الحق لومة لائم، وحين يضع تقديرًا أو تصورًا ولا يتطابق مع الواقع أو يكون الزمن قد تجاوزه لا يتوقف عند ذلك ليدافع عنه، بل يلجأ إلى السخرية وبصوته الهادئ الوديع، يقول لك: إنها أوهامنا.. كم كنا مغفلين أو استُغفِلنا "إي والله" أو اجتهدنا فأخطأنا، وتلك لعمري إحدى سجاياه الإيجابية التي لا يمكن إحصاءها.



قناعات وإقناع
وخلال علاقتي الطويلة به والتي شهدت لقاءات ومؤتمرات وجامعات ومجلّات ودراسات وكتب ومدن ودول وأصدقاء كثر، لمست كم أن شخصيته مؤثرة لدى شخصيات عربية كبرى، ولعلّ رأسماله الأول في علاقاته هو حميميته وكرم أخلاقه وعلمه، فهو معروف بدفء علاقته وصدق توجهه وحرصه على التواصل وإدامة العلاقة.
وفي العام (2017) نظمت له ندوة في بيروت يتحدث فيها عن القضية الكردية، خصوصًا بعد تجربة الاستفتاء الكردي وضبابية الرؤية عربيًا، وكم كان مقنعًا ومؤثرًا، وما زاد من أهمية تلك الفعالية حضور شخصيات لبنانية وعربية بارزة دهشت بحجم المعلومات التي يمتلكها وعرضه النزيه لواقع العلاقة العربية - الكردية، وهو من المتابعين للحوار العربي - الكردي الذي كان أول تجربة له في لندن العام 1992 كما هو معروف، والتي كان لي شرف تنظيمها، ثم انعقدت دورة ثانية في القاهرة بلجنة تحضيرية كان على رأسها الصديق المحتفى به أيضًا عدنان المفتي والراحل عمر بوتاني. والجدير بالذكر أنه شغل منصب نائب رئيس جمعية الصداقة الكردية - العربية التي ترأسها صديقنا المشترك صلاح بدر الدين، وضمّت كوكبة من الشخصيات الوازنة.
وإذا كان شيرزاد يتمتّع بموقع مهم باعتباره كرديًا أكاديميًا وعالمًا ومفكّرًا نزيهًا، فإن العديد من الشخصيات العربية تتسابق لسماع رأيه والإصغاء إلى وجهات نظره ليس على المستوى العراقي فحسب، بل على مستوى الشخصيات الفكرية والثقافية والإعلامية والسياسية الرسمية وغير الرسمية من مصر ولبنان والأردن وتونس والمغرب وسوريا وغيرها، وكم من مرّة حضر في محفل جامعة الدول العربية وتحدث عن قناعاته وفي الوقت نفسه بما هو مقنع.
إنه بحق جسر تواصل كردي - عربي، حيث يحظى بمكانة خاصة لدى جهات عربية عديدة، فهو عضو في هيئات وروابط ومؤسسات أكاديمية وثقافية على امتداد الوطن العربي إضافة إلى علاقته مع مؤسسات أكاديمية دولية عديدة، بل لديه علاقات مع مثقفين من إيران وتركيا الذين شاركوا معنا في حوارات "مثقفي الأمم الأربعة: كرد، ترك، فرس، عرب". إنه شخصية أكاديمية كردية متميّزة تحظى بمكانة كبيرة ومحترمة من جانب جميع الأكاديميين.
وإذا كان "لا يُفتى ومالك في المدينة" كما يقال لأن "أهل مكّة أدرى بشعابها"، وهو ما عرفته عنه من الناس البسطاء ممن نلتقيهم، فمجرد السير معه في أحد شوارع إربيل وعموم كردستان أو مراجعة أي دائرة من دوائر الدولة في الإقليم، فإنك ستصادف العشرات، بل والمئات من الأشخاص الذين يقبلون عليه ويحيّونه ويشعرون بالعرفان والجميل لفضله، وهم في غالبيتهم طلابًا تخرجوا على يديه أو أبنائهم أو أحد أفراد عائلتهم، ليس هذا فحسب، بل لإنسانيته الفيّاضة بما فيها تبسّطه وحبه لعمل الخير ومساعدة المحتاجين، وهو أمر يمنحه سعادة غامرة، خصوصًا بحب الناس واحترامهم، وهي حلم لا يتحقّق لأي كان.
*****
إن تكريم البروفسور شيرزاد النجار أستاذ الأساتذة هو اعتراف بواقع، وهو يستحق تكريمًا مع زملائه الذين أشرت إليهم على مستوى الإقليم ككل وأوسمة ليست للمجاملة، بل أوسمة للنزاهة والاستقامة والإخلاص والتفاني، وهكذا تكون الخدمة العامة. وكما يقول محمد عبد الجبار النفري: "إني أحدثك لترى فإن رأيت فلا حديث".
كلمة في تكريم البروفيسور شيرزاد النجار من جانب اللجنة العليا المُشرِفة على احتفالية اليوم العالمي لمكافحة الفساد في إقليم كردستان قدمها د. شعبان في 9 كانون الأول / ديسمبر 2022 - إربيل.

نشرت في جريدة الزمان (العراقية) في 24 كانون الأول / ديسمبر 2022.