دراسة نقديةعن ديوان(رَصَاصَةٌ تتلوَّى في خطٍّ مُستقيمٍ) الأنا والآخر في شعر لبنى حمادة,بقلم د(مجمد جبريل حموده)أستاذ الأدب والنقد بجامعة الأزهر.مصر.


عبدالرؤوف بطيخ
2022 / 12 / 20 - 12:18     

تعد المؤثرات الخارجية التي يتعرض لها الأديب هي الوقود التي تشعل فتيل تجربته الشعرية فيقع تحت تأثير تلك المشاهد والأحداث التي يتأثر بها، حتى إذا ما اختمرت هذه المشاعر وتلك الأحاسيس وتفاعلت؛ لينتج لنا الشاعر أو الأديب مولودًا أدبيًا مكونًا من الكلمات والعبارات؛ تعبيرًا عن صدق هذه المشاعر والأحاسيس.
و"لبني حمادة" شاعرة مصرية استطاعت أن توظف كثيرًا من الأحداث الخاصة لتنطلق بها في عالمها الشعري وتنتج لنا كثيرًا من النصوص الرائعة بصياغة أدبية محكمة، وصورًا محلقة في فضاء شعري لا ينضب، مستغلة كل طاقاته الإبداعية في نحت هذه الصور من عالمها المرئ الخاص؛ تعبيرًا عن النفس البشرية وما تتعرض لها من محن وأحداث في علاقاتها مع الآخر.
و(الأنا) هنا تأتي في هذه النصوص تعبيرٌ صادق عن المرأة في صور متعددة وأشكال متبابينة، في حين أن (الآخر) يمثل الرجل في منظور هذه (الأنا) وشتان ما بين الأنا الذي تمثله المرأة، وبين الآخر الذي يمثله الرجل، فالمرأة هنا تحاول أن ترسم لنفسها صورة كاملة الأوصاف، فهي العاقلة الرزينة التي تستطيع قراءة هذا الآخر الذي يتسم بالرعونة والطيش وعدم العقل، ومن ثم تستطيع ((الأنا)) المرأة قراءة أفكاره وكشف خططه وألعابه، فتقول له:( )
ما أنت سِوى قمرٍ ورَصاصة،
خِيَّتُك الضحلةُ تبدأُ بحِدَّةٍ كعُنفُوَانِ الخَمْرِ..
وتنتهِي بِمَسَدٍ يستعقبُ جَزَاءاتِكَ،
أنتَ رُعُونةٌ عابرةٌ في دَرْبِ غَزَالةٍ..
آثرَتِ الزحفَ مرَّةً وَاحِدَةً
وتَغافلَتْ قُدرتَها على الطيرانِ،
خطأٌ شائِعٌ قابِلٌ للعُدُولِ،
وذِلَّةٌ لن يؤرِّخَها عَادلٌ..
جَذبَه ثباتُ جبلٍ عزفَ أسفَ الصُّخورِ،
وَلم يَنحرْهُ انهزامُ "سِيزيف"
لا حولَ لكَ في اختراقِ حُصُوني،
ولا قُوَّتُك تُفتِّتُ طلَاسِميء.

وعلى الرغم من تلك الصفات السلبية التي اتصف بها الآخر على لسان هذه الأنا إلا أنها تعلم يقينًا أن هذه الآخر لا يستطيع أن يستغني عنه ولا أن يعيش بدونها، وهي تشير من طرف خفي إلى هذا الاحتياج الفطري الذي أُدع بين الطرفين مهما تباين تكوينهما الخلقي والمعرفي؛ فالنار لمن ابتعدت عنه، والجنة لمن اقترب منها، والسلام لمن عاش في كنفها، والحرب والهلاك لمن عادها، فهي الأم، والأصل، والبحر، واليقين، والنجاة، والحقيقة، ومن ثم تتوجه إليه قائلة:( )
لَا سلامَ دُونِي،
لا سلامَ بَعدِي
لَا فِرْدَوْسَ لِمَنْ طالتْهُ حَربِي.
سِرُّكَ الأكبرُ..
جذرٌ لنْ تَسْتَطِيعَ خَلْخَلتَهُ،
لغتُك الأمُّ الَّتي لَنْ تتعلَّمَ قراءتَها قطْ،
ظلٌّ يسلبُك خُطَاكَ..
كلَّما اقتربْتَ احترقْتَ،
كلَّما شَرَدْتَ حملتْكَ أمواجِي إلى قاعِكَ المُظلِمِ،
وألقَتْ بِكَ إلى حافَّةِ دائرتِك المُفرغةِ
أنا يقينٌ يَعرفُ الجحيمُ طبيعتَه الشَّائِكَةَ،
حقيقٌة شوَّهتِ الأصابعُ مقلتَيْها،
وقدَّمَتْ رُوحَها قربانًا لِآلهةِ الغَضَبِ،

وينكسر أفق توقع المتلقي بعد الاطلاع على بعض النصوص الأولى التي بدت فيها (الأنا) بنبرة متعالية، وحديث فوقي، بعد أن شنت هجومًا عنيفًا تجاه (الآخر)، وكالت له سيلاً من السهام الموجهة نحوه فيكتشف أنها مجنية عليها لا جانية، ومظلومة لا ظالمة، ومقتولة لا قاتلة، وأن هذا الهجوم الشرس ما هو إلا بوح منها بعد أن تركها الآخر أشلاء ممزقة، وقصصًا مؤلمة لا تنتهي، وأحلامًا هدمها بأفعاله، ومن ثم لا تتورع في أن تقلته متى سنحت لها فرصة، وأن تنتقم متى أتيح لها ذلك، تقول له:( )
تبحثُ عن حقيقتِكَ فِيَّ؛
فلا تجدُ إلَّا انعكاسَ قصصِ اليتامى،
الأحلامَ المُكفَّنةَ..
والصَّمتَ الكبيرَ،
صَدى استغاثةِ ظَهرِي،
أطرافِي المقطوعةَ أمس،
وذِراعي المبتورةَ غدًا
أَهمُّ كيْ أُوارِيَك مِنِّي فِي صَدرِي،
وأدفِنَك ألفَ مرَّةٍ في قصيدةٍ.. دُونَ رِثَاءٍ،
فَقطْ قليلٌ من الدُّمُوعِ الطَّازَجَةِ..
كاعتِذَارٍ لِهِرَّتِكَ الجَائِعَةِ؛
فلا تُتْركُ خاويًا عاريًا..

ولعل من أكثر الأشياء التي آلمت هذه المرأة وقضت مضاجعها هو فشل الآخر في احتوائها نفسيًا، وعاطفيًا، وثقافيًا، واجتماعيًا فلم ينجح في درب من هذه الدروب، بل صب عليها جام غضبه وحاول أن ينتقص من شأنها، وأن يحط من قدرها، ويشوه صورتها، وأن يفرض عليها أسوارًا من العزلة حولها حتى ضاقت به ذرعًا، ومن ثم كان على النقيض من كل صفاتها، فإذا كانت شغوفة بالحياة، متطلعة لكل جديد، تملتئ بالطاقة والحيوية، فهو كسول، قابع، أشبه بالأموات، لا يرى الجوانب الإيجابية في الشيء، بل يبحث عن النقائص والعيوب، تقول له:( )
مُنذ ثورتِنا الخَامِلَةِ..
تلكَ التي رفضَ الكَوْنُ أن تكونَ امتِدَادًا له،
ورقصتِنا الفقيرةِ على ظهرِ القمرِ ـ
عَجَزتْ ندوبُ النايِ عن احتواءِ جُنونِ "السالسا"،
قبلتِكَ المسمومةِ،
وخَطواتِي،
اعترافُك..
بأنَّ العَزفَ على الأوتارِ الحادَّةِ
ـ كخَصلاتِي المُموَّجةِ،
أهدَابِي النَّافِرَةِ.. ـ
يُزعِجُكَ ويصدعُ كيانَكَ،
وأنَّ أكثرَ ما يستهويكَ..
التَّلصُّصُ على انتفاضاتِي فِي المرايَا،
واصطيادُ الرِّيحِ..
حينَ تُداعبُ جسدَ عصفورِي اليتيمِ،
خِطابُك السَّاخِرُ يومَ رَحَلَتْ قِطَّتِي؛
لِتؤكِّدَ أنَّ آهَاتِي كموائِهَا..
لا يُثِيرَانِ فضولَكَ،
ولا يحرِّكانِ رَواكدَكَ
مُنذُ هَذا الوَقتِ..
أُحاولُ أنْ أُخبرَكَ..
كم أُبغِضُ مَن لَا رُوحَ تُعيدُهُ،
لَا أَعاليَ تَجذبُهُ،
مَن لا حاجةَ لَه في الدَّوَرانِ،
ولا شغفَ يأخذُهُ إلى الغَرَقِ،
تراهُ يلوِّحُ تِيهًا إلى فراغٍ بَعيدٍ!
أكرهُ انعكاسَكَ عَلَى جُدرانِي،
وفي عَينِ مِيلَادِي،
وَأسفَلَ وِسَادَتِي،
وذاكَ الإطارَ الذي يربِطُ قلبَ أمي..
بشريطٍ أسودَ في طرفِ أبي،
ويُجرجرُ روحِي إليْهِمَا زَحْفًا،
كلَّ خوفٍ ووداعٍ
أكرَهُكَ،

إن هذه التجربة التي مرت بها تلك المرأة تركت فيها أثارًا واضحة، وندوبًا ظاهرة لذي عينين حتى دفعت بها إلى شيء من التمرد على هذه الأطر التي فرضت عليها، وتلك العادات والتقاليد التي زجت بها في هذه العلاقة المرة التي عايشتها قهرًا وألما، ومن ثم حاولت أن تطلعنا على شيء من هذه العادات وتلك التقاليد ثم محاولة فرض حلول لها عن طريق التمرد عليها، أو وكسرها ،أو تغييرها، وهي إشكالية لا تخص هذه المرأة وحدها، بل تخص جنسها كله، وقد لجأت إلى الأسلوب الإستفهامى حتى تشارك المتلقي في طرح هذه الإشكالية أو الهروب من المسألة، فتقول:( )
يومَ ميلادِ الشمسِ..
بَصمتْ أمي على جبينِي؛
لتُذكِّرَنِي بالجحيمِ،
عَلّقتْ في أُذني تعويذةً..
وهي تثقبُها بسيف ثلمٍ،
أخبرتْنِي..
أنَّ الشهوةَ أُنثى،
اللذَّةَ أُنثى،
والإناثَ آهاتٌ،
أنَّ الأرضَ تُعيدُ تدويرَ الموتَى؛ لتنجبَ أمواتًا،
وَشمتْ علَى نهرِي ضريبةَ المرورِ،
ورحلتْ
مضيتُ أبحثُ فِي الجدرانِ عنْ عينِ ظِلِّي،
أُحنِي القرابينَ،
أُتمتِمُ كَلِمَاتِ أُمِّي..
حتَّى نهمَ العالمُ بقايَا تمرُّدِي،
قَلبَنِي جاثيةً، يتقلّبُ فيَّ الذَّنبُ؛
ماذا لوْ أُديرُ ظَهرِي دُونَ أن أُلقيَ السَّلامَ،
أُطلقُ للعالمِ لعناتِ خوفِي،
أقفزُ عبثًا فوقَ الرؤوسِ المعلَّقةِ،
أرفعُ لعينِ السَّماءِ ثَوبِي،
أتعرَّى تحتَ الضوءِ الأحمرِ..
غارقةً في أبصارِهم الشاخِصَةِ أمامي،
يقتصُّونَ مِن أَنفاسِي..
بِأَذرُعٍ مبتورةٍ.. يزحفونَ نَحوِي،
أتعامدُ على منتصفِ الكونِ..

ولعل من أهم ما يلفت نظر المتلقي في الجانب الأسلوبي والفني هي تلك المقدرة الفنية العالية على خلق الصور ونحتها من عالم الأديبة الخاص، حيث يجد القارئ بحرًا متلاطم الأمواج من الإستعارات والتشبيهات والمجازات والكنايات، فما أن يخرج من صورة حتى يلج في أختها في تداخل عنيف، وهو ما يمكن أن نقول أن الأديبة وقد وقعت تحت غواية الخيال والتركيب الفني الجمالي، ويكفينا أن نطلع القارئ على أنموذجًا واحدًا ندلل به على ما نقول من قصيدتها: "لا نوبل لمن يهديني السلام" تقول:( )
أراكَ تلوحُ بلهفةٍ ممتدَّةٍ من سذاجةِ طفولتِكَ
إلى نهديْ فكرةٍ؛
ظننتَ مصيرَها مصيرِي..
نِمتَ على بابِها؛
لتستأمنَها على شهقاتِ لوعتِك،
تلومُها على زفراتِ تمرُّدِكَ،
تطوِي فيها مواسمَكَ،
وتبنِي تحتَ ظِلِّها البائسِ صوباتِك؛
لِتتصيَّدَني.

فالفكرة العامة التي جاءت في هذه السطور التسعة هي تصوير هذه المرأة بفريسة يحاول أن يقتنصها هذه الرجل، وقد حاولت الشاعرة أن تعبر عن المعني في أكثر من صورة، فقد صورت الفكرة بشيء مادي، ثم بامرأة مكتملة الأمومة والأنوثة (نهدي فكرة)ثم ببيت له باب (نمت على بابها) ثم بجدار له ظل (تبني تحت ظلها)وهي صورة مركبة تصور لنا مراحل تكوين هذه الفكرة في عقل الرجل التي بزرت فيه منذ أن كان صغيرًا حتى نمت وترعرعت في ذهنه وظن أن المرأة سهلة الاقتناص. كما إن الشاعرة لها صورة في غاية البراعة والإيحاء، بل ربما تكون مغزى للقصيدة وكاشفة عن لبها وأهم شيء فيها مثل قولها :"عجزت ندوب الناي عن احتواء جنون السالسا" التي تشير إلى عجز هذه الرجل عن احتواء هذه المرأة كما عجز الناي أن يحتوي جنون رقصة السالسا.
وفي جانب اختيار العنوان نجد أن الأديبة له نمط خاص في اختيار عناوينها، فلم يأت العنوان ملخصًا لمتن القصيدة أو مشيرًا لأهم المعاني، بل جاء نصًا موازيًا يحمل فكرًا منفصلاً عن النص الأساس مثل نص: "لا نوبل من يهديني السلام" حيث تشن القصيدة هجوما عنيفا تجاه الآخر الذي يظن أن المرأة لقمة سائغة يستطيع أن يأكلها فتصفه بالرعونة والخطأ وقلة العقل، في حين تصف نفسها بالصمود، والقوة، والذكاء والعقل، لكننا نجد أن العنوان يعطينا دلالة زائدة، وهو الرفض التام لهذا الآخر مهما اتسم بصفات جميلة فلن يحصل على نوبل؛ لأن العلاقة بينهما علاقة قائمة على التكامل والاحترام المتبادل والعطاء الذي يناسب طبيعة كل واحد منهما.

كما قد يكون العنوان مفتوحا على دلالة تغطي رؤى متعددة في النص، مثل قصيدة :"رغبة من زجاج" فأي رغبة تقصد هذه المرأة؟ هل هي رغبة الاحتواء التي لم تجدها عند الآخر؟ أم أنها رغبة الانتقام منه؟ أم هي رغبة التخلص من تلك الأسوار التي وضعها الآخر حولها. أم أنها رغبة رجوع مرة ثانية للآخر؟ رغبات متعددة والنص ينفتح عليها جميعًا.
إن هذه الديوان مليء بكثير من الأساليب الفنية كاستهلام النصوص بأنواعها المختلفة: الدينية، والتاريخية، والأسطورية، فضلا عن استخدام بعض التقنيات الروائية، علاوة على لغته الرائعة التي تنم عن مقدرة لغوية فائقة، وتمرس واضح، واختيار متعمد لدي هذه الأديبة.

• بيلوجرافيا:
-الاسم : دمحمد جبريل أبو الفتوح حمودة
-دكتور بقسم الأدب والنقد في جامعة الأزهر الشريف كلية اللغة العربية بإيتاي البارود .
-عين معيدا في كلية اللغة العربيّة بإيتاي البارود ثم حصل على الماجستير في رسالته ( الترسل عند الشيخ حسن العطار).
-حصل على الدكتوراه برسالته (السيميائية في روايات محمد جبريل).
-شارك في كثير من مناقشة الأعمال الأدبية في ميادين مختلفة.
-سيصدر له مجموعة من البحوث العلمية تحت الطباعة والنشر .
-عرضت الدراسة فى الندوة الاسبوعية من كل خميس "نادى الأدب" قصرثقافة كفر الدوار-بتاريخ(15 ديسمبر-كانون اول2022).