ابراهيميتان ومفهومان خلقيان الاصغروالاعظم؟/ 4


عبدالامير الركابي
2022 / 12 / 19 - 16:59     

حين تعالت صرخات ابناء تشرين 2019 "نريد وطنا"، كان كل شيء، وبما في ذلك اللغة والدلالة، قد انقلب، ولم يعد هو المتعارف عليه، فالوطن كان بعيدا، ليس هو ذلك الذي يسير بين جنباته، وعلى ارضه، المتظاهرون الصداحون اللاارضويون، ابناء ارض مابين النهرين الغائبة، تلك التي لم تعد موجودة، بينما الهتاف اللاارضوي يذهب بعيدا الى الاكوان غير المرئية، فالذين يملاون الشوارع والساحات، وسوف يسبحون بدمهم بعد قليل، او يغيبون عن الانظار، لم يختاروا شعارا مطلبيا، ذلك لان ماوراء حسهم المتعالي هديرا، الغائر في الافاق، لم يكن صوت "متظاهرين"، بقدر ماهو نداء تجسيد اكواني غائب صار موشكا على الانبلاج، حيث مايعرف بالعراق اليوم" لاوطن"، ولم يكن في يوم من الحاضر وطنا من طينة من سكنوه وعاشوا على ارضه، والمسافة بين "زاخو" وصولا الى "الكويت"، ماكانت يوما خاضنة العراقيين، بقدر ما هي العراق الركام المفبرك، البدل عن غائب.
وليعطني احد، عراقيا كان او غير عراقي، يوما من التاريخ، كان العراق فيه هو مايراد له واريد اليوم، حدودا جغرافية، مقتصرة على ذاتها، حضورا تشكليا، من اكد وسرجون، الى بابل وبغداد، والحضور الابراهيمي المخترق لغالبية الكيانات المجتمعية على مستوى الكوكب، بصفتها كيانية متعدية للوطنية، كونية الديناميات. حيث الكيانيه النافية للكيانوية، علاقتها بها اما اصطراعية ازدواجية حين تكون ذاتيه، او اكراهية برانيه مفبركة، اسقاطية احادية، وذلك وجه من وجوه الحضور، يلازمه ويفصل بين محطاته، وجه مقابل، هو الانقطاع، فالعراق ليس ديمومة ساكنه دالة على التكرارية الاجترارية، بل كونية حضور صعودي الى اعلى القمم على مستوى المعمورة، ينتهي لانقطاع وغياب، يعقبه انقلاب انبعاثي يدفع بالعالم، مراحل ومفازات، وصولا لاخرها الراهنه، لحظة الانتقالية الانقلابية الثالثة، من الارضوية الى الاكوانية العليا.
من 1258 حتى 2019 عاش اهل مابين النهرين دراما التصيرية التاريخيه الابدية، خارج ذواتهم، فقد حكم عليهم بعد صعودهم الثاني العباسي القرمطي الانتظاري، وقبلها صعود الدرورة الاولى السومرية البابلية الابراهيميه، العيش تحت طائلة الارضوية الاحادية البرانيه، بعد اكثر من خمسة قرون تالقت فيها بغداد عاصمة المعمورة، بعد بابل ولكش، مركز الاقتصاد الريعي التجاري العالمي، الذي سيهيئ اسباب الانتقال الاوربي الى الالة والثورة البرجوازية، فكان مامرصورة اخرى من الانقطاعية غير تلك التي عاشها المكان بين سقوط بابل والفتح التحريري الجزيري الابراهيمي العائد الى ارضه، فاليوم لم تختف بغداد عاصمة الدورة الثانيه كما كان حال بابل، ولان عاصمة الدورة الثانيه بنيت اصلا في الجزء الاعلى من ارض الرافدين، في "عراق الجزيرة" الذي هو القسم الارضوي من كيانيه الازدواج، فلقد امكن للعاصمة المنهارة مع الدورة التي تمثلها، ووجدت في سياقها الصعودي، ان تبقى بمثابة رمز انهياري انقطاعي مقلوب، تتناوب عليه السلالات والامم، واشباه الامبراطوريات، باعتباره عراقا زائفا، هو واقعا في حال غياب وتوقف للديناميات التاريخيه البنيوية الكونية، مؤقت بحسب اشتراطات واحكام قانون الدورات والانقطاعات، الذي به تتكامل مواصفات هذا الحيز من العالم، دون سواه من الكيانات.
ومنذ ان دخل هولاكو بغداد مفتتحا تاريخا من التناوبية البرانية، حتى القرن السادس عشر، ظل العراق غائبا في حال اعادة تشكل عبر الاصطراع الذاتي الانهياري، الى ان عادت ارض سومر الحديثة فانبتت نواة الانبعاثية الثالثة الراهنه، ومع "اتحاد قبائل المنتفك" تبدلت الصورة، من البرانيه المطلقة، الى الاصطراع البراني/ الذاتي المنبعث، ومع تكرار خاصية اللاارضوية الممتنعه على التشكل الكياني، الا ان ماينتمي لسومر التاريخيه موضعا قد صار منذ ذلك التاريخ مستقلا فعليا بلااعلان، حدوده غير المنظورة تكرس بالانتفاضات المسلحه التي لاتتوقف، معاكسة كالعادة مفاهيم الارضوية والكياناتية "الاماراتوية" التغلبية، وهو مااستمر الى القرن الثامن عشر، حين استدعت الضرورة الاصطراعية الذاتيه، وقوة الامتناع اللاارضوي دون الكيانيه، على عكس ميل القيادة المستعارة ممثلة /بال شبيب/ (المستقدمين من خارج المكان لاستحالة تزعم احدى القبائل الجنوبية لغيرها بحكم الكينونة المساواتية)، وقد تضخم ميلها بحكم طبيعتها التغلبية المخالفة للمكان، لكسر القاعدة البنيوية، بالاخص كما ظهر ابان الثورة الثلاثية في 1787 ، والمطالبة بولاية بغداد من قبل ثويني العبدالله شيخ مشايخ المنتفك، وقائد الثورة(1)، فكان ذلك بمثابة اعلان انتهاء فترة من تاريخ التشكل الانبعاثي الحديث الراهن، لصالح فترة هي الثانيه "الانتظارية النجفية"، وقت ان اخذت القبائل الجنوبية بالانتقال للتشيع، بينما اندغمت دولة اللادولة النجفية بخاصيات البحر العشائري المساواتي اللاارضوي، مبتكرة نظام الاجتهاد والتقليد والحوزة كشكل نظام لادولة مدينيه، تحكم رمزيا بالتناغم مع اشتراطات المكان من دون احتكار للسلاح.
اختلفت الى حد بعيد للغاية، اشتراطات الانبعاث الثالث، عن غيرها السابقة عليها، بكون الاولى والثانيه قد وجدتا كتحقق كياني كوني مكتمل غير مشروط حتما بالنطقية وادراك الذاتيه، في حين انعكست الحالة اليوم لتصير النطقية ووعي الذات لازمة وشرطا وجوديا، بظل غلبة البرانيه، وتتابعها نوعا ومستويات اصطراعية، لتنتهي بصيغتها الاعلى الافنائية الموافقة للانقلاب الالي، ماقبل انتهاء صلاحية النمط الكياني الارضوي عالميا، وتغلب التوهمية العليا الاستثنائية، مع استغلال الغرب الوسائل والاعقال الارضوي لممكنات الانقلابيه الالية اللاارضوية، وماتوفره من اسباب غلبة ارضوية.
والمتغير المشار اليه ليس بالعرضي او العادي، ذلك لان من خاصيات التحقق الكياني المتعدي للكيانيه هنا، انه يتشكل عادة ضمن اشتراطات ملائمه، لاحضور فيها للعوائق الكيانوية الاحادية الارضوية وصلادتها التكوينيه، ويلعب دورا لهذه الجهه السبق التشكلي التاريخي، والتمهيد ب"الفتح" بقوة الاحترابية الاستثنائية الجزيرية، دورا حاسما فسرجون الاكدي انطلق من موضع سابق على بقية المجتمعات تبلورا، والعباسيون ارتكزوا الى الفتح الجزيري الذاهب الى الصين والى غرب اوربا، وهو مالم يكن للبنيه والتشكلية الرافدينيه ان تحققه بذاتها، بينما هي واقعة تحت اشتراطات الانقطاع، والحاجة الى عامل يزيح وطاة الحضور الفارسي الرازح على الاليات العراقية منذ سقوط بابل، وعلى العكس مما كان عليه الحال في الدورتين الصعوديتين الاولى والثانيه، امتازت شروط الانبعاثية الحالية، المعاكسة لما هو شرط ضروري، ولازمه لتامين اشتراطات التحقق الكياني الواقعي، لتنقل الاليات وعملها الراهن الى الادراكية العلّية المؤجلة المتاخرة بناء على ممكنات الاعقال، ودرجة تصير الطاقة الاعقالية، باعتبارها منتهى التحققية الغائبة المنتظرة، بحيث نصبح امام عملية تشكل تاريخي لكيانية كونية فوق كيانوية، امبراطورية كونية لانطقية كما وجدت خلال دورتين، يتخللهما انقطاعان وصولا للدورة الثالثة الراهنه، دورة الاكتمال النطقي، حيث النطق بعكس المفهوم الارضوي، نوع مجتمعية وخلقية اخرى تظل مضمرة على طول دورتين.
بالمقابل تغيرت اليوم المقتضيات الكونية، وماهو راهن ومطلوب تصيريا تاريخيا، وما يدخل باب اللزوم التحولي، وقد انتقلت المجتمعات من الارضوية وملازمها الانتاج اليدوي، الى اللارضوية والانتاجية مافوق الارضوية، بينما صار الانتقال باالادراكيه العقلية البشرية، لهذه الجهة ضرورة لاغنى عنها، قد تقارب مستوى الانقاذية بمقابل احتمالية الافناء والانقراض الذي تكون الاحادية باعلى تجلياتها وارفعها، في الموضع الطبقي الاوربي، الاعلى ديناميات من بينها، قد اخذت المجتمعية اليها، مستفيده من لحظة انقلاب نوعي، بادرت هي لاستغلالها بتفسيرها خلافا لحقيقتها، وبتوهمية توافق اغراضها كينونة وممكنات، ما ينم عن محدوديتها الاعقالية المستمرة، والباقية على ماهي عليه في الجوهر، منذ ابتداء تبلور الظاهرة المجتمعية.
هكذا وعلى هذا المنوال، تتظافر اليوم الاشتراطات المعاكسه للتبلور الكياني، ليتحول الفعل غير الناطق الازدواجي اللاارضوي، تحت طائلة وعي الذات او الفناء، الى عملية، الكيانوية معها غير قابلة للاستمرار، فالنطقية المتاخرة وكشف النقاب عن المضمر الغائب من العملية المجتمعية، يتلاقيان بالاحرى مع تحلل الكيانيه الاحادية الارضوية التاريخيه، المادية الجسدوية، وبلوغها لحظة استهلاك موجبات الاستمرارية، قبل الانتقال الشامل المجتمعي الى مابعد مجتمعية ارضوية جسدية حاجاتيه، لصالح الانتقالية النوعية العقلية، اي المرحلة الخلقية الاخرى الثانيه، مابعد الارضوية الجسدية الحاجاتية، مع تحرر العقل من الجسد، وانفصاله عنه، بمايعنى بدء الطور الخلقي الثاني مابعد الارضوي .
ـ يتبع ـ
حلقة رقم 4 مكرر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) احتل الثوار وقتها البصرة ومن هناك ارسلت للباب العالي مضبطة موقعه من وجهاء البصرة واهلها مع الثوار، تطالب بتولية ثويني العبدالله ولاية بغداد باعتباره " الاسد الذي يحميها من العجم و يؤمن الطرق" ويقول مؤرخون ان هذا النزوع ظهر ابتداء مع جد ثويني العبدالله، ابان تحرير "المنتفك" للبصرة من يد الصفويين.