بدائل الوضعية (2)


مالك ابوعليا
2022 / 12 / 17 - 12:13     

المؤلّف: ايغور زينوفييفيتش ناليتوف

ترجمة مالك أبوعليا

الفصل الأول: بين العلم والميتافيزيق

1- ميتافيزيقية الوضعية ومُعاداتها للميتافيزيقية
يكاد لا يوجد هناك أي اتجاه أو مدرسة في الفلسفة الغربية يُمكن أن تكون شبيهة بالوضعية من حيث عُمق واستمرارية تأثيرها على المُجتمع، وخاصةً على المُثقفين. عانت الوضعية، منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، العديد من التقلبات، وازداد الاهتمام بتعاليمها وانحسرَ بالتناوب. لقد حقّقَ مؤسسوها أعظم الانتصارات التي يُمكن للمُفكر أن يحلم بها، وغرقوا في أعمق أعماق الاذلال والسُخرية التي يُمكن أن يشهدها الفيلسوف سيء الحظ. يُمكن تفسير القبضة القوية للفلسفة الوضعية على عقول المُثقفين والمد والجزر الدوري لشعبيتها العالمية من خلال اخلاصها للعلم، بل وحتى عبادتها له.
على الرغم من المُلاحظات المُعاصرة اللاذعة حول مصير الوضعية كإتجاهٍ فلسفي، لا يُمكن للمرء أن يُشكك في صدق نواياها في الدخول في تحالفٍ قويٍ ودائمٍ مع العلم. وُلِدَت الوضعية في أجواء النشوة العالمية تجاه نجاحات العلوم الطبيعية، وقد حافَظَت حتى يومنا هذا، على ايمانها الرومانسي بقوة البحث التجريبي، وانجذابها للواقعية في الادراك، والاهتمام الحقيقي بالتحليل العلمي للتجربة اليومية واللغة. يبدو عدد كبير من مفاهيمها، في ضوء العلم والفلسفة المُعاصرتين الذين قطعا شوطاً كبيراً في فهم قوانين الادراك العلمي وتفاعل العلوم الاجتماعية والطبيعية، نقول، تبدو مفاهيمها في ضوء ذلك، ساذجة وأحياناً ليست ذات علاقة بالعلم المُعاصر. بالاضافة الى ذلك، في حين اتخذت الوضعية، مثل أي اتجاه فلسفي آخر، أشكالاً مُختلفة في أعمال أنصارها، سَعَى جون ستيوارت ميل بجدّية للتوصل الى معرفة تطبيقية دقيقة دون أن يُدرِك الضيق القاتل لمفهومه عن هذه المعرفة المُقيّدة داخل حدود النظرة البرجوازية الى العالم ونظام قِيَمها. كان برتراند راسل يأمل في إيجاد قواعد منطقية صارمة لحل المسائل الفلسفية، بما في ذلك المسائل الأخلاقية. بَذَلَ رودولف كارناب مُحاولات مُستمرة لحل التناقضات المُتزايدة الموروثة من الأشكال السابقة للوضعية.
يجب على المرء، في الوضعية، كما في العديد من المدارس الفلسفية الأُخرى، أن يُميّز دائماً، بين أفكار الكلاسيكيات وأتباعهم. يُمكن تحديد الأولى، بأنها تلك التي تُمثّل اتجاهاً تقدمياً في العلم، وتفانيهم العميق لإلهة الفلسفة، ويُمكن تحديدها كذلك بأنها، وللأسف، تلك التي تمتلك أفكاراً واهمة لا تقل عُمقاً في بعض الأحيان. على عكس مؤسسي الوضعية المُخلصين، فإن العديد من مُقلديهم المُتواضعين، يفتقرون الى الروح النقدية المُلازمة لرُوّاد العلم، وبدلاً من استغلال نجاح أسلافهم والارتقاء الى مستوىً أعلى، يسقطون في مُفاقمة أوجه القصور لدى أسلافهم، ويُفسدون أفكارهم المُثمرة.
على الرُغم من كُل أوهام مؤسسي الوضعية، لا يسعنا الا أن نُشيد بالمساعي النبيلة لمثل اولئك العُلماء البارزين في عصرهم، العُلماء بمعنى الكلمة الدقيق، مثل برتراد راسل ورودولف كارناب ولودفيغ فيتغنشتاين، الذين بذلوا قصارى جُهدهم للتقريب بين العلم والفلسفة حتى على حساب إنكارهم لذواتهم.
في الواقع، هناك شيء غير طبيعي حول فيلسوف مُحترف يسعى بدأب من أجل تدمير الفلسفة وإلغائها، وتذويبها في المعرفة العلمية "الصرف". عادةً ما يعتبر الناس هذا إما دهاءاً أو حماقة تستحق التوبيخ، ويميلون الى التغافل عن إيثار العالم وإنكاره لذاته في خدمته إلهته، والذي يسير جنباً الى جنب مع التواضع وعدم اكتراثه للشهادات العلمية والألقاب الفخرية والامتيازات المالية. إن مثل هذا الانكار للذات قد يدفع العالِم الحقيقي الموهوب ذي سعة الاطلاع المُتميزة الى الاكتفاء بدور ناسِخ مُتواضع في تدفّق لانهاية له من الأوراق العلمية التي سيظل معناها مجهولاً بالنسبة له دائماً. قد يجعله تفانيه للعلم يتولّى طواعيةً وظيفة مُنظّف اسطبلات العلم، ويصير، إن جاز التعبير، زبّالاً علمياً.
في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، عندما كانت الفلسفة الكلاسيكية بتعهدها لتفسير الطبيعة والتغلغل في جوهر الكون، وعندما بدا أن إقامة سيطرة أبدية على الطبيعة وآليتها قد اقتربت من التحقق، ظهَرَ تحدّي الوضعية الشابة للجميع بإطلاقها الوعد للتخلص من الدجل في العلم كأنه زوبعة هواء نقيّ استحقت كُل الاحترام والتقدير. كانت الوضعية بالفعل شجرةً زُرٍعَت لصالح العلم وهدُفَت الى تعزيز عظمته ومجده، بغض النظر عما كانت مرارة الثمرة التي أعطتها تلك الشجرة، في النهاية.
أدّى التطور السريع للعلوم التجريبية في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر وانجذاب العُلماء الطبيعي الى مناهج البحث الامبريقية، الى بروز الوهم القائل بأن جميع مسائل العلوم الطبيعية والاجتماعية يُمكن حلها حصرياً بالوسائل التجريبية، وأن التقنيات المُستخدمة في العلوم الطبيعية يُمكن تطبيقها على نطاقٍ واسعٍ في البحث الاجتماعي. أصبحت النزعة العملية والأداتية التين تُميزان أُسلوب الحياة الذي يتطور في الدول الرأسمالية في أوروبا الغربية-بريطانيا وفرنسا وألمانيا، والولايات المُتحدة لاحقاً- تدريجياً، معياراً ونموذجاً للتفكير العلمي. بالاشارة الى ميزة الوضعية هذه في النصف الأول من القرن التاسع عشر، يقول هربرت سبنسر أحد مؤسسيها، أن الرغبة في تحصيل "علم عمَلي" يُمكنه أن يخدم احتياجات الحياة كانت قويةً لدرجة أنه بدا سخيفاً أن يهتم أحدهم بأي بحثٍ علمي لا يُمكن تحويله الى نشاطٍ علميٍ بشكلٍ مُباشر. وبطبيعة الحال، كان الحماس بشأن مناهج البحث العلمي الجديدة، تسير الى جانب الشكوك المُتزايدة تجاه المعارف التي لا تتماشى مع التجربة اليومية، والمعارف التي لا يُمكن الحصول عليها في إطار المُقاربة الامبريقية، أو تلك التي ليس لها أي تطبيق عملي مُباشر.
ومع ذلك، فإن ايديولوجية الوضعية ساهمت الى حدٍ ما في تطوير العلوم الطبيعية، ولا سيما البحوث التجريبية، وساعدت العلم على تحرير نفسه من قيود النظرة الدينية الى العالم ومُختلف الأفكار التأملية والمفاهيم والنظريات الصوفية. لقد كانت الوضعية، التي جسّدَت هذا الاتجاه، بمثابة مُطهّر purgative جيّد. في الوقت الذي كانت الوضعية لا تزال في مهدها في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ظهَرَت مُطالبات بإقصاء الفلاسفة المثاليين من العلم، وتم إخضاع المثالية والدين لإنتقادات حادة باعتبارهما نِتاج المرحلة الأسطورية في تطور الروح البشرية. وفقاً للوضعية، كانت الميتافيزيقيا تشترك كثيراً مع اللاهوت، وتختلف عنه بالشكل فقط. كلاهما يُمثلان نظامين مُختلفين من النظرة الى العالم، وكانتا، على هذا النحو، خارج حدود المعرفة العلمية. أكّدَ اوغست كونت، أحد مؤسسي الوضعية، كثيراً، على الأُلفة والتقارب بين المنهجين اللاهوتي والميتافيزيقي، بل وحتى على تطابقهما، في بعض الجوانب المُهمة. برأيه، تتميّز المفاهيم الميتافيزيقية بأنها تعتبر الظواهر مُستقلة عن حاملاتها، وفي اعتبار أن خصائص المواد تحوز وُجوداً مُستقلاً، ومن ثم تحوّلت هذه التجريدات الى أروح. لقد كانت هذه الطريقة في دراسة طبيعة الأشياء، بالنسبة له، مُميّزة لطفولة العقل البشري. هذه الطريقة في الدراسة، وفقاً لكونت، أوحت للناس بفكرة الآلهة، التي تحوّلت لاحقاً الى أروح.
يرفض كونت الميتافيزيقيا، وهي بالنسبة له، كل ما يخرج عن حدود العلم (الدين، التصوف، المثالية، المادية، الدياليكتيك، الخ)، ويُعلن عن نموذج المعرفة الايجابية، وبالتالي عن فلسفة جديدة. ومع ذلك، الميتافيزيقيا، وفقاً لكونت، لا تتطابق تماماً مع التفكير الديني.، وهي كذلك، مُبشّر لانتقال البشرية الى التفكير العلمي. إن الفكر الميتافيزيقي، إن جاز التعبير، هو وسيط بين التفكير اللاهوتي والعلم ويؤدي في الوقت نفسه وظيفةً حاسمةً فيما يتعلق بالعلم. يصير الفكر، بفعل الميتافيزيقيا التي تعبق بالخيال على حساب المُلاحظة المُلاحظة، ذو أُفقٍ أوسع ويتم إعداده للعمل العلمي الحق. تتمثل مُساهمة أُخرى للميتافيزيقيا في ظهور العلم الايجابي، وفقاً لكونت، في أنها أدّت الوظيفة الحيوية التي تؤديها النظرية، حتّى تمكّن العقل من تشكيل النظرية على أساس المُلاحظات.
تتطابق الفلسفة في شكلها التقليدي مع الميتافيزيقيا. ويُمكن تبرير وجودها بقدر ما لم يكن العلم قادراً على حل بعض المسائل العامة. ومن ثُمّ، الفسلفة مُقدّرٌ لها فقط أن تُمهّد الطريق للعلم، وسوف تتوقف عن الوجود فور أن يستلم العلم زِمامَ الأُمور، وهي تُساهم، خلال عمرها القصير هذا، في ظهور العلم فقط. تقتصر القيمة المعرفية للفلسفة حسب كونت، على الصياغة الأولية للمسائل، وتتمثل مُهمتها الاجتماعية في جذب إهتمام الجماهير العريضة الى هذه المسائل، ولكن حلها سيكون من مهمات العلوم الايجابية والمُتخصصين فيه فقط.
على الرغم من التطور الطويل الأمد للفلسفة الوضعية، الا أن هذا الفهم للعلم وعلاقة العلم بالميتافيزيقيا كان مُشتركاً بين جميع أنصار الوضعية. كانت مُشكلة ترسيم الحدود بين العلم والميتافيزيقيا، ذات طابع ضمني فقط في بعض الفترات، وكانت، في فتراتٍ أُخرى مطروحةً بحِدّة ودون هوادة، وكانت واحدةً من القضايا الرئيسية في برنامج الوضعية في جميع مراحلها، وحتى القوة الدافعة الرئيسية لتطورها.
في العشرينيات، واصلت الوضعية المنطقية، بدءاً من دراسات مدرسة فيينا، نضالها ضد "الميتافيزيقيا" من مواقع تجريبية، على الرغم من أنها كانت أقل راديكاليةً من مواقف اوغست كونت وجون ميل وإرنست ماخ وريتشارد افيناريوس. وفقاً لمبدأ التحقق الذي حدده موريس شليك لأول مرة(6) وعممه أيضاً لودفيغ فيتغنشتاين(7)، يجب التأكّد من صحة كُل بيان علمي من خلال مُقارنته مُباشرةً ببيانات الحواس.
في مرحلةٍ لاحقة، وَصَفَ الفريد آير هذا المبدأ على النحو التالي: "إن المعيار الذين نستخدمه لإختبار صدق عبارات الحقيقة الظاهرة هو معيار التحقق. ونقول لأي شخصٍ مُعطى، أن الجُملة مُهمة حقائقياً، فقط اذا كان يعرف كيفية التحقق من الافتراض الذي تُعبّر عنه الجُملة، أي إن كان يعرف ما هي المُلاحظات التي ستقوده، في ظِل ظروفٍ مُعينة، لأن يقبل صحة أو خطأ الافتراض. من ناحيةٍ أُخرى، إن كانت صحة أو خطأ الافتراض المعني، لهما طابع يتوافق مع أي افتراض يتعلق بطبيعة تجربته المُستقبلية، فإن الافتراض، بقدر ما يتعلق الأمر به، إن لم يكن غائياً، فسيكون زائفاً. الجُملة التي عبّرت عن هذا الافتراض قد تكون ذات أهمية عاطفية بالنسبة له، لكنها ليست مُهمة حقائقياً، والأمر هو نفسه فيما يتعلق بالمسائل. نحن نُحقق في كُل حالة ما هي المُلاحظات التي ستقودنا الى الاجابة على المسألة بطريقةٍ أو بأُخرى، وإن لم نجد أي مُلاحظات، فسنستنتج حينها أن الجُملة قيد البحث لا تُمثّل مسألةً أصيلة وحقيقية مهما كان مظهرها النحوي يُعطينا انطباعاً أنها كذلك(8).
وبالتالي، تم تحميل التحقق التجريبي وظيفة تجاوزت إمكانياته، أي تقييم قيمة الحقيقة لكل العبارات بدون استثناءات. العُنصر الجديد هنا، بالمقارنة مع أشكال الوضعية السابقة، (والذي تم استجلابه من كانط)، هو تقسيم جميع العبارات الى نوعين: التحليلية(أ) والتركيبية. اعتُبِرَت العبارات التحليلية غائيةً أو مُتطابقة، على غرار تلك المُستخدمة في الرياضيات والمنطق الرياضي في كثيرٍ من الأحيان. أما العبارات التركيبية فهي أحكام تُميّز العلوم التجريبية والحقائقية ويُدَّعى أنها العبارات الوحيدة التي تحمل معلومات جديدة.
فيما يتعلق بهذين النوعين من العبارات باعتبارها هي التي تحمل أهميةً علمية، فإن الوضعية المنطقية لا تُنكر علمية وقيمة جميع العبارات الأُخرى وحسب، ولكنها تعتبرها ببساطة، بلا معنى أيضاً. إن لم تخضع العبارة الى التحقق المُباشر، يجب حينها، على الأقل، أن تكون قابلة لأن تُختَصَر لعبارة نظرية غير تحليلية، عن طريق الوسائل المنطقية، أي أن يتم تحويلها الى عبارة أولية أو بروتوكولية بحيث يُمكن تأكيدها عن طريق المُلاحظة المُباشرة. العبارات التي ليست بالتحليلية أو التركيبية لا معنى لها، ويجب إقصاءها من لُغة العلم بوصفها ميتافيزيقية.
كان ضيق معيار التحقق سبباً في جعل الوضعيين يقومون بإجراء تعديلات مُتكررة عليه. على سبيل المثال تعديل آير المُخفف لهذا المعيار يعترف بِكُلٍ من التحقق الكُلّي والجزئي للعبارات، أي التأكيد الجُزئي لصدق العبارة من خلال البيانات التجريبية. ومع ذلك، كانت هناك حاجة الى نظرية تتوافق مع هذا المعيار يُمكنها، من جهة، أن تُعرّف فكرة التحقق بشكلٍ أكثر دقة، وأن تتوافق مع البرنامج العام للوضعية (إنشاء لغة منطقية للعلم) وتقاليد التجريبية، من جهةٍ أُخرى.
كانت المُحاولة الأكثر بروزاً لتطوير مثل هذه النظرية هي المنطق الاستقرائي لكارناب الذي وضعها في كتبه (الأُسس المنطقية للاحتمال) Logical Foundations of Probability(9)، و(إستمرارية المناهج المنطقية) Continuum of Inductive Methods(10)، وبعد ذلك، في شكلٍ موسّع في (النظام الأساسي للمنطق الاستقرائي) A Basic System of Inductive Logic(11). الخواص التي تُميّز كلا تعديلي نظامه هي أولاً، وقبل كل شيء، بما أن التعميم إما أن يُعبّر عن حقيقة أو كذب، فإنه لا يخضع لإعتبارات الدرجة الاحتمالية، أي أن إحتمالية التعميمات الشاملة تساوي صفر، وثانياً، أنه يُمكن أن يوجد لُغة مراقبات مُحايدة (بيانات تجريبية).
كما نرى، تخضع مسألة الاستقراء التقليدية، عند كارناب، لتحولٍ كبير. ان المُهمة الأساسية لاستنتاج استقرائي هي تشكيل تكهّن احتمالي لحدثٍ مُعيّن بدلاً تأكيدٍ شامل. الاستقراء بالنسبة لكارناب هو أي استنتاج غير استنباطي، وهو في المقام الأول، عبارة مابعد لُغوية، تحوز، على أساس بيانات تجريبية، على درجةً مُحددةً من التأييد. وبالتالي، يوسّع كارناب حجم المفهوم التقليدي للاستقراء من ناحية، ويُلغي، من ناحيةٍ أُخرى، مسألة تأييد الفرضيات الشاملة والقوانين من مُحتواه.
القوانين الشاملة، وفقاً لكارناب، لا معنى لها من وجهة نظر مبدأ التحقق ولا يُمكن تأكيدها في المنطق الاستقرائي. برأيه، العبارات الشاملة هي عديمة الفائدة: لا يوجد أحد سوف يؤيد عالمية هذه النظرية أو تلك في أي جزءٍ من الكون. الجميع، من العالم وحتى العامل كُلٌ منهم يرغب في أن يؤكد الاختبار التالي فرضيته. لقد دَفَعَ التطور المنطقي لآراء كارناب لاحقاً الى الاعتراف بأن تغيير التركيز من التحقق، نحو اتخاذ القرار، في تحليل المسائل المنطق الاستقرائي سوف يوفر منهجية أكثر جذرية لإقصاء القوانين الشاملة باعتبارها آخر بقايا الميتافيزيقيا في العلم. مثل هذا التغيير سوف يُحرر العلم بالفعل من القوانين الشاملة ويستبدلها بفرضيات مُحددة. أخيراً، يتجنب كارناب تماماً، في مقدمة الطبعة الثانية من (الأُسس المنطقية للاحتمالية) 1962، ذكر "درجة الصدق" فيما يتعلق بتقييم الاحتمال الاستقرائي ويُفضل الحديث عن أهمية المنطق الاستقرائي لنظرية الحلول فقط (وليس نظرية الصدقية). يبدو هذا وكأنه نهاية الأمل الأخير لبناء منهجية للعلم على أساس منطقي صرف.
لا يُمكن لفشل حل هذه المسألة الا أن يُخبرنا عن آفاق برنامج التجريبية بما هي مؤثّر حاسم على أهم مقدمتين مُترابطتين للفلسفة الوضعية. وهنا يطرأ سؤال: هل مبادئ منطق كارناب الاستقرائي التي يُزعَم أنها مُفيدة في حل المهمة الرئيسية للتجريبية المنطقية، تتوافق مع مبادئ التجريبية نفسها؟
لقد أشرنا آنفاً الى أن منطق كارناب الاستقرائي كان يُركّز على تقييم درجة صدقية الفرضية. لقد انطلق من الافتراض القائل بأن العبارات التي تم تأكيد صدقها بالبيانات التجريبية هي نتاج للتحليل اللغوي. أكّدَ كارناب، على هذا النحو، على أن منطقه الاستقرائي يستبعد أي مبادئ تركيبية مُسبقة، وليست فقط مُخلصة للتجريبية وحسب، بل وتُصحح عيوبها وتُعزز مواقعها في بعض النواحي.
استند مبدأ الاستقراء، كما وضعه كارناب، على افتراض أن البيانات التجريبية تشهد على درجة عالية جداً من إحتمالية وحدة Uniformity العالم. نظراً لإن الاحتمالية في صياغة هذا المبدأ هي منطقية بطبيعتها، فإن العبارة على هذا النحو صحيحة من الناحية التحليلية. إن صحتها بالضرورة ليست مشروطة بصحة مبدأ الاستقراء، يكفي أن نعرف أن هذا المبدأ مُحتمل. إن التناقض المُتأصل في هذا الطرح يكمن في أن مبدأ الاستقراء نفسه قد عُزِيَ له دور أساس المنطق، وبالتالي، لا يُمكن استنتاج صحته التحليلية من نفس المنطق، ولكن كان عليه أن يتأسس في إطار نظام منطقي أكثر عموميةً.
تمحورت جميع المُحاولات التي بُذِلَت قبل كارناب لتطوير منطق الاستنتاج الاستقرائي على مبدأ وحدة وثبات وانتظام الطبيعة الذي يكمن جذره في مبدأ الاستقراء. ولكن هذا المبدأ الأخير هو انطولوجي أكثر منه منطقي، ولا يُمكن تحصيله من خلال التعميم الاستقرائي. وفقاً لكانط، كان يجب تصنيفه، لسببٍ وجيه، كتعميم تركيبي مُسبق. كما نرى، لم يستطع كارناب تجنّب هذه المُعضلة المشؤومة أيضاً، وكان عليه أن يختار بين تعميم تركيبي مُسبَق وعبارة انطولوجية (بروح المادية). كان يُمكن لكاتب قصص بوليسية ماهر أن يُلخّص هذا الموقف بالكلمات التالية: "لقد التقى مع شبح الميتافيزيقيا مرةً أُخرى".
لم يكن من قبيل الصدفة أن كارناب، الذي سعى لاحقاً لتقديم تبرير عقلاني للاستقراء، قد أشار الى أن مُسلّمات المنطق الاستقرائي لا يمكن أن تستند الا على عبارات مُسبقة وجادَلَ بأن المنطق الاستقرائي على هذا النحو، يُمكن انشاؤه بطريقة شكلية. ومع ذلك، لا يُمكن تبرير الاحتمال الاستقرائي الا في سياق النظرية أو الحلول حيث يرتبط مفهوم الاحتمال بالمنفعة والفعل العقلاني(12). لقد قاد البحث عن أساس غير استقرائي للمنطق الاستقرائي كشكل من أشكال الادراك العلمي كارناب في النهاية الى أن يفهم الاحتمالية كدرجة معقولة من الايمان. نتيجةً لذلك، تبيّن أن نظرية الاستقراء مبنية على رمال الافتراضات الحدسية والذاتية. لقد قادته كُل مُحاولة منه لتبرير الاستقراء على أساس التجريبية الى ما وراء حدودها، نحو أحضان الميتافيزيقيا.
من الجدير بالذكر، أن الوضعية المنطقية تسعى الى تعزيز الامبريقية في نضالها ضد الميتافيزيقيا من خلال التحليل المنطقي لبُنية المعرفة. على الرغم من كل التناقضات الداخلية لتعديل كارناب للوضعية المنطقية، فقد تبيّنَ أنه (أي تعديل كارناب) الأكثر نجاحاً على الاطلاق، حيث كشف عن إحدى الاتجاهات الرئيسية في تطور الوضعية واتضح من خلاله سمة فهمه للفلسفة. غالباً ما يُسمي أنصار ومُعارضي نظرية كارناب بـ"التجريبية المنطقية". لم يكن البحث عن طُرُق جديدة في النضال ضد الميتافيزيقيا عرضياً بأيِّ حالٍ من الأحوال. لقد سَبَقَ وأن كَشَفَ تطور العلوم النظرية في القرن التاسع عشر عن ضيق البرنامج التجريبي الذي يهدف الى إعادة تنظيم العلم والنظر فيه الذي طرحته الوضعية المُبكرة. أضبَحَ من الواضح حتى في تلك الفترة أن برنامج النضال ضد الميتافيزيقيا كان يتعارض مع العلم ويُعيق تطور البحث النظري. قدّمَت نظرية التركيب الذري للمادة، وميكانيكيا الكم ونظرية النسبية، دليلاً كافياً على أن التجريبية كبرنامج فلسفي ومنهجي، عديمة الجدوى وحتى ضارة بالتقدم العلمي.
كان التطور السريع للدراسات الرياضية-المنطقية في تلك الفترة يبدو وكأنه طريقة واعدة للخروج من الوضع الصعب، أي التعامل مع النظرية كمجموعة من الحقائق المُترابطة منطقياً. لقد ابتدأ برتراند راسل هذا الخط المُضاد للميتافيزيقيا ثم طوّره فيتغنشتاين في كتابه (مصنف منطقي فلسفي) Tractatus Logico Philosophicus الى نظرية مُتقنة يتبعها لاحقيه.
لم يتجنّب راسل بعد، العديد من المسائل الفلسفية التقليدية التي كان يأمل في حلها من خلال قواعد المنطق الرياضي الصارمة. أدى فشله في هذا الطريق الى اتخاذ فيتغنشتاين موقفاً أكثر تشدداً، ليس فقط يفصل العلم عن الميتافيزيقيا، بل ويتخلص من هذه الأخيرة بإعتبارها تصوفاً لا معنى له. كان ينظر الى الجدل حول بعض المسائل الفلسفية المُتعلقة بالنظرة الى العالم، والتي دامت قروناً، إما كنتاج لانتهاك قواعد المنطق الأولية، أو على أنه تشوّش لغوي. يكتب الفريد آير، أحد أتباع هذه الأفكار المُعاصرين، والذي حافَظَ على ولائه للوضعية المنطقية الأرثذوكسية الى حدٍ ما: "يبدو تعريف العبارة الميتافيزيقية، وفقاً لذلك، على أنها عبارة تُعبّر عن افتراض حقيقي، ولكنها في الواقع، لا تُعبّر عن غائية ولا عن فرضية تجريبية. وبما أن الغائية والفرضيات التجريبية تُشكّل فئة كاملة من الافتراضات المُهمة، فنحن مُحقين في الاستنتاج بأن جميع التأكيدات الميتافيزيقية لا معنى لها"(13). حسب آير، فإن الأمثلة النموذجية للتأكيدات الميتافيزيقية هي تلك التي تبحث في مسأئل واقع التجربة، ووحدة العالم، وطبيعة "الواقع الحقيقي" الذي يقف مُقابل الخبرة الحسية، الخ.
كان لودفيغ فون ميزيس Richard von Mises الذي اعتبر موقفه الخاص فيما يتعلق بالفلسفة التقليدية من بين أكثر المواقف تصالحيةً مع الوضعيين الجُدد، من أنصار الرأي القائل بأن الميتافيزيقيا هي عالم الافتراضات ما قبل العلمية ولم تخلو من المُستقبلية التي طرحت دائماً مسائل تمتد الى خارج حدود المعرفة العلمية. حتى المسائل الجديدة التي تتجاوز ما هو مألوف، لا بد أن تكون غير علمية، أي ميتافيزيقية في بداية انطلاق أي مجال بحث علمي جديد لم تكن معروفةً فيه بعد، اللغة العلمية المُناسبة والقواعد اللغوية والأشكال المنطقية. ولكي تُصبح المفاهيم الجديدة علميةً حقاً، يجب أن تتجذر في مجالاتها وأن تندمج مع الأنظمة الرسمية المُعتمدة سابقاً وتُطوّر القُدرة الكاملة على التواصل مع المجالات العلمية الأُخرى.
من الواضع أن هذه المُقابلة بين المعرفة العلمية والمعرفة غير العلمية أو الميتافيزيقية مُتجذرة في طريقة فهم ماهية المعرفة العلمية. هذه الماهية، أو المثال Ideal، وفقاً للوضعية، يُمثله العلم التجريبي بمبدأ التحقق التجريبي من القضايا. يجب على أي فرضية تريد أن تصير علمية، أن تمر عبر فلتر الادراكات الحسية، وهو القادر وحده على أن يزودنا بمعرفة موضوعية ومُتحقق منها حقاً.
تنبع الميتافيزيقيا، بوصفها مجموعة مُحددة من المسائل الفلسفية التقليدية، وفقاً للوضعية، من الاعتراف بواقع فريد يستعصي على الإدراك العلمي ولا يُمكن استيعابه الا بمساعدة مَلَكات العقل الميتافيزيقية التأملية. يقول الفريد آير: "ان المفهوم الذي يضع الميتافيزيقيا في مصاف العلوم الطبيعية هو مفهوم طموح جداً"(14). يؤمن جميع الوضعيين، أياً كانت المدرسة التي ينتمون اليها، أن الفلسفة التقليدية تفترض وجود واقعٍ مُتعالٍ يختلف عن العالم الحسي ومُستقل عنه.
ان الادعاء بمعرفة شيء يقف فوق التجربة المُمكنة يفترض مُسبقاً وجود مصدر غير تجريبي للمعرفة. الطريقة الوحيدة التي يحصل فيها الفلاسفة الميتافيزيقيون على حقائقهم فقط عن طريق التفكير التأملي المُسبَق. على سبيل المثال، اعتبرَ راسل، أن إحدى سمات التقليد الفلسفي الكلاسيكي الرئيسية تتمثل في الاقتناع بأن التفكير المُسبق وحده قادر على التغلغل في أسرار الكون. لا شيء سوى المنهجية المُسبقة قادرة على القول بأن الواقع مُختلف عما يبدو عليه للمُلاحظة المُباشرة. يكتب ميزيس، مُشدداً على أن المبادئ المُسبقة هي جوهر الفلسفة التقليدية: "ما أن يتحدث المرء عن ما هو خارج التجربة وقدرته على الكشف عن الجوهر، فإنه يعترف بوجود مصادر معرفة خارج حدود التجربة. على الرغم من اختلافاتها العديدة، مثل نظرية هوسرل في حدس الجوهر Wesensschau، ومذهب أفلاطون في الأفكار، والمعرفة من خلال الاستبصار لسبينوزا، وقَبلية كانط، والميتافيزيقيا العابرة للتجربة لشوبينهاور...كلها أشياء من نفس النوع"(15). هذا الموقف، على الرغم من التعديلات الوضعية المُختلفة التي جرت عليه، لم يتغير حتى يومنا هذا. يؤكّد آير، أنه لا يوجد شيء لا يُمكن التعبير عنه بلغة المُلاحظة، وكل شيء يتجاوز هذا الحد هو من طبيعة صوفية. يضع آير، الى جانب الكيانات الصوفية، أي شيء لا يُمكن أن تُدركه الحواس.
وفقاً للوضعية، تنبع الطبيعة غير العلمية للميتافيزيقيا من وظيفة رؤيتها للعالم، أو بشكلٍ أكثر دقة، من توجهها الاجتماعي وادعائها أنها تكشف عن جوهر العالم، وكذلك من حقيقة أن افتراضاتها تسنتد الى قناعات. تُعتَبَر الميتافيزيقيا، كونها تستند على هذه الأرضية، بمثابة إسقاط خاطئ للخواص والعواطف الانسانية الذاتية على المعرفة والعالم بشكلٍ عام. يتم رفض إمكانية وجود نظرة علمية للعالم تماماً، لأن النظريات العلمية، وفقاً للوضعية، لا يُمكنها تقديم اجابات على المسائل المُتعلقة بالنظرة الى العالم.
يؤكّد الوضعيون، أن الميتافيزيقيا تُلبي حاجة الانسان السيكولوجية لفهم مكانته في العالم وفهم هذا العالم ككل، وتجلبها للحياة تلك المسائل المصيرية حول معنى الحياة الانسانية، والمسؤولية الأخلاقية والقِيَم الانسانية. ومع ذلك، العلم غير قادر على مُعالجة هذه المسائل لأنه لا يُمكن الاجابة عليها من خلال البحث الرياضي التجريبي الذي تعتبره الوضعية الشكل الوحيد للمعرفة العلمية. هذه المسائل، وفقاً للوضعيين، ستبقى دائماً مواضيعاً لأساليب الفهم غير العلمية. يحق للإنسان استخدام أي وسيلة للتعبير عن نظراته للعالم، بما فيها الميتافيزيقيا، وهي الأقل كفاءةً، ولكن في هذه الحالة لا يجب عليه أن يدّعي ما هي ليست عليه أصلاً، بما في ذلك الادعاء بأنها علمية ونابعة من نظام المعرفة. لا يعتبر كارناب الميتافيزيقيا كمعرفة حقيقية، بل هي شِعر لا يطرح الا الوهم بالمعرفة.
تعتبر الوضعية أن النظرة الى العالم التي تُميّز الفلسفة هي السبب في عدم توافقها (أي الفلسفة) مع العلم. توصّل الوضعيون، بعد تأكيدهم المُحق للارتباط الذي لا ينفصم بين النظرة الى العالم من ناحية، والايديولوجيا والسياسة من ناحيةٍ أُخرى، الى استنتاج مفاده، أنه لا يُمكن للمسائل، تلك المُتعلقة بالطبيعة والمُجتمع والادراك التي تُعالجها الفلسفة، أن تُحَلّ على أساس علمي، لسبب بسيط، وهو أن هذه المسائل تُعالج في السياق الواسع للنظرة الى العالم، وأن حلها، يعتمد، في التحليل النهائي، على وجهات نظر الفيلسوف وموقفه الايديولوجي. يقول ميزيس: "تؤدّي الرغبة في التوصّل الى إجابات مفيدة عملياً (تنبؤات) حول أصعب أسئلة الحياة وأكثرها عموميةً، الى بناء منظومة من الافتراضات الميتافيزيقية"(16).
لقد كانت تطلعات الوضعية في تخليص الفلسفة من قيود الدوغما الدينية والمثالية، طموحةً ونبيلة. بدا أن القرن العشرين مُقدّرٌ له أن يُصبح عصر انتصار الفلسفة الوضعية. بالفعل، لقد إفتُتِحَ القرن العشرين بالكشوفات العلمية الأساسية، وتميزت عقوده النهائية بثورة عميقة في نظام المعرفة العلمية والتكنولوجية وتغيّر في العلاقات الاجتماعية، والتي تم، في جزءٍ من العالم على الأقل، بإعادة بناءها على مبادئ عقلانية وعلمية حقاً. ولكن ويا للمُفارقة، فقد شَهِدَ هذا القرن نفسه إنحدار وسقوط الفلسفة التي جعلت العلم صنماً لها.
ومهما يكن الأمر درامياً، فمن غير المُرَجّح أن يُثير الوضع مشاعرنا ما لم نتصور الدراما الانسانية خلف التقلبات الايديولوجية. في الحقيقة، لا ينفصل الحظ التعيس في عالم الأفكار، عن مصائر البشر، وعادةً ما ينطوي على دراما مجموعة كاملة من الشخصيات البارزة، الذين آمنوا بأحقية المبادئ التي طرحوها وفعلوا كل شيء مُمكن للدفاع عنها وتطويرها. وبالكاد يُمكن للمرء أن يلوم أياً منهم شخصياً على تجوالاتهم الطويلة والعقيمة المؤسفة في متاهات المنهجية. لو كانت أخطائهم مُجرّد أخطاء شخصية، لكانت البشرية قد وجدت، منذ زمنٍ بعيد، طُرقاً لتجنبها.
ولكن، تمثّلَت المُفارقة الأكثر مرارةً في تلك الوضعية، التي كان خدمة العلم عقيدتها المُفضلة، في الفشل في إيجاد لغة مُشتركة مع سيدها على مدار فترة زمنية طويلة. لقد كانت الوضعية في فترة من فتراتها موضةً بحق. لقد ارتفعَ رصيدها مع كشوفات التركيب المُعقّد للذرة والمجال المغناطيسي في العشرينيات من القرن العشرين. وفي ذات الفترة نهضت الآمال بالتطوير الناجح لميكانيكيا الكم ونظرية النسبية. موجة أُخرى من الحظ السعيد قد هبّت مع الدراسات المُكثّفة في مسائل علم اللغة وعلم النفس في الثلاثينيات والأربعينيات. أخيراً، ارتبطت الموجة الأخيرة بالتطور السريع للسيبيرنتيك وعلم الوراثة وفسيولوجيا الأعصاب وعلم النفس الفسيولوجي.
تم تقديم آيات الاحترام لفلسفة العلم من قِبَل هنري بوانكاريه Henri Poincaré والبيرت اينشتاين وبرتراند راسل ونيلز بور Niels Bohr وفيرنر هايزنبيرغ Werner Heisenberg وجاكس مونود Jacques Monod. ولكن، من المعروف أيضاً أن أوج التعاطف المُتبادل، تزامنَ دائماً مع فترات الانهيار السريع للنظريات الأساسية القديمة وليس مع فترات البناء النظري في تاريخ العلم. حالما تنتهي أزمة العلم ويتم ردم الفجوات، ستكشف فلسفة العلم في نسختها المنطقية التجريبية عن عدم قُدرتها على طرح برنامج ايجابي للتقدم العلمي أو التكنولوجي أو الاجتماعي. كانت كُل قفزة جديدة في الفكر النظري، علامةً أكيدةً على الاقتراب من انهيار الفلسفة الوضعية.
ان أنصار وأتباع الوضعية الذين كانوا بالأمس، سوف يبتعدون على الفور عن "أصدقاء العلم"، وستحل الشكوك المُستمرة والعميقة محل الفهم المُتبادل قصير الأمد. تُذكرنا هذه الأمواج من المد والجزر بالحُمّى المُتقطعة في العلوم الغربية، وبالكاد يُمكن للمرء أن يلوم أي فردٍ بعينه عليها. من الواضح أن المرض يجب أن يُعزى الى مصدر آخر غير صفات كل مُفكرٍ مُنفردٍ على حدا، سواءاً كان عظيماً أو عادياً، مُنافقاً أم متواضعاً، أناني أو إيثاري. لقد ثَبتَ أنه مُعدي لاينشتاين الايثاري وهايزنبيرغ الكاره للبشر وبور العظيم وبول فولكمان Paul Volkmann العادي(17). السبب الحقيقي للمرض لا يكمن في مزايا أو عيوب الأفراد، وسواءاً كانوا عُظماء أم مُثيرين للاهتمام على الأقل، بل في ظروف المُجتمع المُعاصر.
إن دور الظروف الموضوعية في نشأة وتطور الوضعية، هو موضوعٌ مُنفصل يقع خارج إطار هذا العمل. سأقتصر هُنا على مُناقشة القوانين والميول العامة للإدراك العلمي، والتي يُمكنها أن تُزودنا بمعرفة عن الخلفية الابستمولوجية لتطور الدراما الايديولوجية. ومهما يكن الأمر مُفارقاً، فإن هذه الدراما موجودة في جنين الميزة الأساسية للوضعية، والتي تُحدد موقفها من العلم. إن تمجيد العلم والاستخفاف بالفلسفة هو بالضبط ما قاد الوضعية الى الشكية وحتى الانكار الصريح لقيمة الادراك العلمي التي تُميّز مؤلفات الوضعية. كيف التقى النقيضين هُنا؟ للإجابة على هذا السؤال، دعونا نعود مرةً أُخرى الى منصة فلسفة العلم الوضعية.
في حين رَفَضَت الوضعية الفلسفة التقليدية باعتبارها غير علمية وميتافيزيقية واستخدم العديد من الصفات السيئة الأُخرى للتقليل من دورها، لم تُنكر الوضعية أبداً الحاجة الى الفلسفة بشكلٍ عام. على العكس من ذلك، فقد أكّدَ دُعاة الوضعية على أهمية فلسفة علمية جديدة والتي أطلقوا عليها "فلسفة العلم" وأعطوها العديد من الألقاب الأُخرى الرنانة. ما الذي كانه المعنى الحقيقي لجدالهم بصدد الفلسفة؟
ألغى كونت الفلسفة كنظرية حول أعم قوانين الوجود عموميةً وأساسيةً وأراد أن يُحِلَّ محلها منظومة عالمية للمعرفة العلمية. وفقاً لكونت، لا يُمكن اكتساب المعارف العلمية الا عن طريق العلوم الخاصة من خلال التجربة والمُلاحظة والوصف والتعميم باستخدام الوسائل الرياضية. لا يُمكن أن يوجد هناك فهم فلسفي مُحدد للطبيعة يختلف عن ذلك الذي تقوم به العلوم الطبيعية. هناك أساس للتأكيد بأن وجهات نظر مُمثلي الشكل الأول للوضعية حول فهم موضوع الفلسفة الوضعية، بغض النظر عن الفوارق الخاصة بينهم، مُتطابقة في الأساس: الفلسفة الجديدة لا يجمعها أي جامع مع الميتافيزيقيا القديمة، ولا تختلف أساساً عن غيرها من العلوم "الايجابية": كُلّاً من العلوم الايجابية والفلسفة العلمية مُحايدة تماماً بالمعنى الميتافيزيقي، أي ليست مادية ولا مثالية. الموضوع الرئيسي للبحث الفلسفي هو العلم ومفاهيمه ومنهجيته. كما أن مناهج البحث "الفلسفي" نفسها يجب اشتقاقها من العلم مُباشرةً. باختصار، العلم هو فلسفته الخاصة. هذه الأفكار، التي تطورت وفُصِّلَت أثناء تطور الوضعية، هي التي تكمن وراء فهمها لموضوع الفلسفة.
لقد كان تطور العلوم الخاصة واشتداد قوة قاعدته التجريبية بسرعة في القرن الثامن عشر، حافزاً للوضعيين للتأكيد أن على البحث العلمي أن يكون بديلاً للادراك الفلسفي للعالم، لذلك، تم تفسير تطور البيولوجيا والسيكولوجيا في أواخر القرن التاسع عشر على أنه استبعاد للميتافزيقيا من دراسة الانشطة المعرفية للانسان. عبّرَ ماخ وأتباعه عن هذه الفكرة بوضوح، مثل فلاديمير فيكتوروفيتش ليسيفيتش Vladimir Viktorovich Lesevich، أحد أوائل الوضعيين الروس: "ما الذي سيتبقى للفلسفة بعد أن تُصبح نظرية المعرفة أيضاً، علماً مُنفصلاً ومُستقلاً؟"، ويُتابع: "عندما تطوّرت السيكولوجيا بفضل نجاحاتها الى مستوىً علميٍ حقيقي، لم يبقَ أي جزء من العلم القديم الذي كان مُتضمناً في الفلسفة بحيث يُمكن أن نقول أنه يمتلك خاصة المعرفة الشاملة والعالمية، فقد حلَّ عددٌ من العلوم المُستقلة والمنفصلة مكانها (أي مكان الفلسفة)، واختفت هذه الأخيرة بالمعنى القديم للكلمة"(18).
فسّرَ الشكل الثاني اللاحق من الوضعية مُنجزات البيولوجيا والسيكولوجيا في دراسة الانسان ونشاطه النفسي والمعرفي، على أنه ظُهُور نظرية معرفة علمية تُعارض الابستمولوجيا القديمة الميتافيزيقية وغير العلمية. جَعَلَت الماخية، مثل الوضعية الكلاسيكية، مفاهيم ومناهج العلم موضوعاً للفلسفة، وبالتالي، يجب أن تكون ذات طبيعة ما بعد علمية. وفقاً لماخ، يختلف الفيلسوف عن عالِم الطبيعة في أنه يجب على الأول أن يتعامل مع نطاق أوسع من الحقائق. يؤكد ماخ بشكلٍ مُحق الى مُقاربة واسعة للمسائل الفلسفية، ويؤكد، بالاتفاق التام مع المبادئ الوضعية، أن هذه المُقاربة لا تتحقق من خلال تعميم عملية الادراك في المقولات الفلسفية وتفسيرها على أساس نظرة مُحددة الى العالم، بل بمُساعدة بعض العلوم المُتخصصة الجديدة التي من شأنها أن تدرس المعرفة باستخدام وسائل البحث العلمية. يُمكن استعارة هذه الوسائل، وفقاً لماخ، من البيولوجيا والسيكولوجيا، حيث هذه المباحث تحديداً هي التي درست الانسان كذات للإدراك واستطاعت تزويد أساس موثوق لفهم نشاطه الادراكي.
يُمكن إيجاد الاستعراضات الوضعية الأكثر وضوحاً حول العلاقة بين العلم والفلسفة في أعمال شليك وكارناب وفيتغنشتاين وأعضاء آخرين في مدرسة فيينا، المُرتبطة عادةً بظهور الوضعية المنطقية. اتفق مُمثلو الاتجاه الجديد تماماً مع أسلافهم في أن الفلسفة العلمية هي نِتاج جوهري لتطور العلم، وأن على الفلسفة أن تتخلى عن المسائل الميتافيزيقية إن كانت تود أن ترتقي الى مرتبة علمية، وأن عليها أن تجلبَ موضوع بحثها ومنهجيته من العلم نفسه. السبب الوحيد وراء عدم قُدرة الفلسفة على أن تُصبح علمية لزمنٍ طويل، وفقاً لعلماء الوضعية الجديدة، يتمثل في عدم نضوج العلم نفسه والذي لم يستطع، حتى ذلك الوقت، أن يوفر الوسائل الضرورية للفلسفة لأداء وظائفها ما بعد العلمية. كان ظهور الفلسفة "العلمية" في المرحلة الحالية من تطور العلم هو نتيجة لتطور المنطق الرياضي الذي شحَذَ الوسائل التقنية لتحليل العلم. ليست النماذج المنهجية الأولية التي تم تطويرها في إطار الوضعية في الواقع، سوى تطبيق المنطق الرياضي المُستعار من (أصول الرياضيات) لبرترند راسل ووايتهيد على التطوير المنطقي لبعض النُظُم الافتراضية لـ"المعرفة العلمية النموذجية Ideal".
كانت الوضعية المنطقية تحقيقاً شاملاً للميل التحليلي في فهم الفلسفة "العلمية". ولكن، على عكس ميل وماخ، الذين بدءا هذا الميل، لم تعتبر الوضعية المنطقية الفلسفة كنظرية تتعامل مع مبادئ تصنيف العلوم ومنظموة القوانين المُشتركة في كل العلوم والادراك على هذا النحو (مُفسراً من حيث أنه منطق استقرائي أو سيكولوجيا الادراك)، بل كأداة لتحليل العلم. هذه المُقاربة، اختزلت الفلسفة الى نظام علمي من الاجراءات ونوع من النشاط التحليلي. أصبحت أُطروحة فيتغنشتاين القائلة بأن "الفلسفة ليست نظرية بل نشاط"(19)، رايةً لإتجاهٍ مؤثرٍ في الفلسفة التحليلية. يكتب شليك: "تتميز نقطة التحول المُعاصرة الكُبرى بحقيقة أننا لا نرى أن الفلسفة هي منظومة من المعارف، بل نظاماً من الاجراءات"(20). يرى الوضعيون الجُدد أن المُحاولات التي قام بها الوضعيون الأوائل لبناء نظرية الفلسفة "العلمية" بمثابة صفعة للميتافيزيقيا القديمة.
طالبت الوضعية، في ضوء تزايد المسائل المنهجية المنطقية الدقيقة في البحث العلمي، بأن تكون المنهجية مُستقلةً تماماً عن الفلسفة وأن يتم تطوير منهجية جديدة "خالصة"، خالية من أي افتراضات مُسبقة من شأنها إستبعاد نظرية الابستمولوجيا الفلسفية جنباً الى جنب مع عناصر النظرة الفلسفية الى العالم الأُخرى من العلم الحقيقي. وفقاً للوضعيين المناطقة، يتحول "التفكير بالمعرفة العلمية"، الذي كان حتى الآن مجالاً يخص الفلسفة، الى مجالٍ خاص من البحث العلمي الملموس. ما يُميز الوضعية المنطقية في هذا الصدد، عن الأشكال الأُخرى للفلسفة الوضعية يتمثل في أنها تُحوّل التحليل المنطقي المنهجي للمعرفة الى أمر مُطلَق، بدلاً من جعل العلم التجريبي والسيكولوجيا والبيولوجيا بشكلٍ خاص، أشياءاً مُطلَقة. تعتبر الوضعية المنطقية استخدام الوسائل المنهجية الدقيقة في البحث في بُنية المعرفة العلمية بأنه منهجية "علمية" لصياغة وحل المسائل الفلسفية. إن التشديد على المنطق هو حجر زاوية آخر في مرحلة تحقيق الهدف الرئيسي للفلسفة الوضعية، أي نبذ المسائل الفلسفية التقليدية وإحلال مناهج التحليل المنطقية واللغوية الشكلية محل المُقاربة الفلسفية للعلم.
تجدر الاشارة الى أن الوضعية التي تُندد بما يُسمى بالميتافيزيقيا الخارجة عن العلم، تقوم في الواقع، بتنفيذ برنامج قائم على مبادئ "خارجة عن العلم" بالكامل. من الخطأ اعتبار تأكيدات الوضعيين بأن فلسفتهم خالية من الميتافيزيقيا، بأنها بديهية، كما هو الحال بالنسبة لأي تأكيدات فلسفية أُخرى. تخجل الوضعية من إخضاع المُقدمات الكامنة وراء نظام حُججها بأكمله للتحليل.
يعترف الوضعيون أنفسهم بالمُحتوى الميتافيزيقي لفلسفة العلم السابقة لهم. لقد صار تقليداً مُتبعاً لدى الفلاسفة الوضعيين اتهام أسلافهم بالميتافيزقية، وعدم الاتساق في الصراع ضد الميتافيزيقيا، والتنازلات المُختلفة للميتافيزيقيا، والانحرافات عن مبدأ "الحياد" في الفلسفة. لقد أنّبَ سبنسر كونت على تنازلاته للميتافيزيقيا، ووجه الماخيون اتهاماتٍ مُماثلة ضد كليهما. فيما يتعلق بالوضعيين الجُدد، فإنهم يطرحون دعوات الانفصال النهائي عن الميتافيزيقيا التي يُزعَم أن كتبات جميع الفلاسفة الوضعيين لم تستبعدها تماماً. يُهاجم غوستاف بيرغمان Gustav Bergman، دفاعاً عن مفهوم التحليل الظاهراتي، الفيزيائيين، بسبب ميلهم نحو الميتافيزيقيا، وهو مُصطلح، ينطبق على بعض تصريحاتهم المادية كما يتضح.
كما سنوضح لاحقاً، على الرغم من كُل محاولات الوضعية لتجاهل مسائل مثل علاقة الانسان بالوجود، والوعي بالمادة، والعلاقة بين المكان والزمان والحركة، والسببية، وطبيعة التناقضات، فإنهم لن يستطيعوا تجاهلها تماماً وسيتعين عليهم مُعالجتها بهذه الطريقة أو تلك، غالباً في شكلٍ مُقنّع. علاوةً على ذلك، كلما استمرت مُحاولات كل جيل جديد من الفلاسفة الوضعيين في رفض المسائل المذكور أعلاه باعتبارها ميتافيزيقية وغير منطقية، زاد وضوح أهميتها للعلم والفلسفة أكثر وأكثر. انطلقت جميع النظريات الوضعية من نوعٍ من الادانة، سواءاً كان ذلك إدانة الميتافيزيقيا أو المثالية أو المادية أو الثنوية. ومع ذلك، كانت كُل انتقاداتهم المُصممة لتمهيد الطريق للمنهجية "العلمية" تحتوي دائماً، بشكلٍ خفي، على بعض العناصر الايجابية التأكيدية.
ان ميتافيزيقيا الوضعية هي الأكثر خطورةً لأنها مخفية وراء عباراتٍ صاخبة عن الحاجة الى مُحاربتها وتخليص العلم من نسيج عنكبوت الماضي. ثَبُتَ أن الفهم المُبتذل لماهية المعرفة العلمية وتجاهل بُنيتها الهرمية مُتعددة الطبقات، وكذلك الفهم البدائي لطبيعة النظرة العلمية الى العالم، أنه ضار بالوضعية ولتقييمها لنفسها ومنعها من فهم الغرض المخفي من مبادئها العامة. لم تفشل الوضعية في الكشف عن وجهها الاجتماعي وتحديد أهدافها الاجتماعية وحسب، بل وأثبتت أيضاً أنها غير قادرة حتى على تحديد مكانها في عملية الادراك العامة. لم تقم الوضعية بتسليط الضوء علناً على الجزء الخفي من برنامجها ومُقدماتها العامة التي تتوشح بالتصريحات الصاخبة والطنانة. ومن أجل القيام بذلك، تُفضّل الوضعية أن تكشف لقاءاتها مع أشباح الميتافيزيقيا هذه، في الفناء الخلفي بعيداً عن أعين الجمهور.
تتمثل المُفارقة التي تقع فيها الوضعية، بالاضافة الى علاقتها غير الحميمة مع العلم، في أنه في صراعها ضد الميتافيزيقيا (التي يُصادَف أن تكون (أي الميتافيزيقيا) تأملات الفلسفية الكلاسيكية الألمانية، ومبادئ العلم الكلاسيكي الفلسفية، أي المادية الميكانيكية، والآن فرويد-والذي هو ميتافيزيقي، ولكن ليس على طريقتهم، والمادية الدياليكتيكية والتي توّجَت كُل مُنجزات الفكر الفلسفي التقدمي واستندت اليه)، وَجَدت الوضعية نفسها، في جميع مراحل تطورها، تقع في شِرك المفاهيم الميتافيزيقية، التي لم تكن أكثر تطوراً من مادية القرن الثامن عشر أو دياليكتيك هيغل المثالي.
بالمناسبة، على الأقل يوجد مُبرر للأخطاء الميتافيزيقية للفلسفة الكلاسيكية الألمانية والمادية التنويرية بأن تاملاتها كانت جُزئياً، نتيجةً عدم نُضج العلم والعلاقات الاجتماعية التي تستبعد امكانية الفهم العلمي العميق الحقيقي للقوانين واتجاهات التطور الاجتماعي. ولكن هل يُمكن أن يكون هُناك مُبرر للوضعية التي تغرق في الميتافيزيق والمثالية في عصرنا عندما أصبحت الفلسفة فرعاً من العلوم في منتصف القرن التاسع عشر، عندما حُلَّت مُشكلة العلاقة بين الفلسفة والعلوم الخاصة بنجاح وعندما طوّرَت وسائل قوية للبحث النظري؟
تجمع الوضعية في ذاتها الايمان الشائخ بالعلم التجريبي الذي كان أساس القوة الصناعية لرأسمالية القرن الثامن عشر، مع اوهام ايديولوجيتها الشابة بأن ازدهار المُجتمع الرأسمالي لا ينفصل عن التقدم العلمي. تُشبه المبادئ الميتافيزيقية التي تُشكّل أساس الوضعية تلك المذاهب الميتافيزيقية التي كانت تُميّز كُلاً من فلسفة القرن التاسع عشر المثالية وماديتها الميكانيكية. كيف يُمكنهما أن تتشابها مع أحدث أشكال الوضعية، ومع "منطق الكشف العلمي"، والفلسفة السيمانطيقية، ومع المصطلحات العلمية الزائفة مثل "تحليل النص" و"الدلالة" و"التحقق" وما شابه؟
إن رفض الوضعية لهذه المسائل الفلسفية التقليدية مثل علاقة الوعي بالكينونة، والروح بالطبيعة مُماثلة لرفض الميتافيزيقيا المادية والمثالية. تماماً كما في حال الماخية التي ادعت انها ترتفع فوق الصراع بين المادية والمثالية بمساعدة "عناصر العالم المُحايدة" و"الاسقاط" و"التنسيق المبدأي" و"اقتصاد الفكر"، فهذا يعني ببساطة أن موضوع البحث العلمي، وفقاً للوضعية، هو التجربة الحسية للعلماء، والتي يُزعَم أنها لا تُمثّل أي واقع ميتافيزيقي مُتعال. يتمثل المغزى الحقيقي لنظرية التحقق التجريبية التي وضعتها الوضعية الجديدة، في أن أتباعها، على الرغم من كل تصريحاتهم المُعادية للميتافيزيقية، قد أُجبِروا في النهاية، على العودة الى مسألة الفلسفة التقليدية-الميتافيزيقية-المُتعلقة بعناصر المعرفة الأساسية. لا يتم البحث في الواقع الموضوعي، بل تم وسم الأحاسيس بطابع الاطلاقية. وفقاً للوضعيين، نشاط الانسان لا يتم في الزمان والمكان الحقيقيين، ولكن ضمن الحدود الضيقة للصيغ المنطقية التي تؤطّر التجربة الحسية. الانسان غير قادر على الخروج من السجت الذي بناه الفلاسفة الوضعيين.
ان التعمية على علاقة المعرفة بالواقع، هي سمة من سمات كُل الفلسفات المثالية التي تعتبر العالم تجسيداً للشكل الفكري. كارناب، مثله مثل هيوم وبيركلي وأي شخص مثالي ذاتي آخر، يقلب العلاقة الحقيقية بين المعرفة والواقع الموضوعي رأساً على عقب. لقد انطلق في تحليله، ليس من الواقع الموضوعي، ولكن من بُنية اللغة المنطقية كما هي موجودة اليوم، أي اللغة التي اتخذت أصلاً خلال تطورها التاريخي شكلاً مُحدداً. بعبارةٍ أُخرى، المادة الوقائعية المُتراكمة المُمثلة في اللغة الحديثة هي الحقيقة الأبدية، وهي ليست نسبية وغير دقيقة وتقريبية. يجب على الواقع، لكي يكون مفهوماً ، أن يمتلك نفس معايير البُنية المنطقية للغة. لا يُمكن للمرء أن يتجاوز الحقائق المُرتبة وفقاً للبنية المنطقية للغة.
وفقاً لآير، على سبيل المثال، فإن العالم عبارة عن "بُنية منطقية" مُكونة من أحاسيس تُسمى بأسلوبه المُحدّث "المُحتوى الحسي". نظراً لأن "المُحتوى الحسي" لا ينفصل عن الأشكال التي تُعبّر عنه، فإننا غير قادرين على تجاوز حُدود عبارتنا وأحاسيسنا. لا يُنكر آير وجود الأشياء المادية، ولكن هذا الوجود، برأيه، لا يُمكن اثباته بنفس اليقينية التي يُمكن فيها اثبات وجود الصور الحسية.
في الصورة الوضعية للعالم، كما هو الحال في مسرحية تتكرر كثيراً، يتم اتباع نفس الاجراء الذي يُحدده المُنتج دائماً: المُمثلون، أي الحقائق الملموسة، فقط هم الذين يتغيرون. ليس فقط أن التخطيطات المنطقية الحالية تُحِل البُنى المنطقية محل العلاقات الحقيقية بين الأشياء الأكثر ثراءاً وتعقيداً وتناقضاً، بل أن هذه التخطيطات هي أيضاً أكثر تأمليةً من مذاهب القرن الثامن عشر الفلسفية الطبيعانية، باستثناء أن الأولى تأخذ في الاعتبار بعض نتائج التقدم العلمي خلال القرنين الماضيين بعين الاعتبار. بعبارةٍ أُخرى، تتجاهل التخطيطات الوضعية المُصطنعة الحقيقة الحاسمة المُتمثلة في أن الروابط والعلاقات المنطقية ليست مُتطابقة بأيِ حالٍ من الأحوال مع العلاقات الحقيقية.
ترى الوضعية مهمتها الرئيسية في ربط العناصر النهائية للمعرفة العلمية معاً بدلاً من البحث عنها. كلما اشتدت مُعارضة الوضعية للواقع الموضوعي كشيء يقف خلف "العناصر" ويختلف عنها، زاد تحويل هذه العناصر الى مصادر مُطلقة للمعرفة. تفهم الوضعية المنطقية العناصر النهائية للمعرفة بأنها "الحقائق". على الرغم من كل الغموض الذي يكتنف هذا المُصطلح والذي يُمكن أن يُشير الى أجزاءٍ من الواقع الموضوعي والأحداث المُسجّلة بواسطة اللغة، فإن ما يُسمى بالحقائق يتم تحويلها الى مُطلقات تُشبه "عناصر العالم المُحايدة" لماخ أو أحاسيس بيركلي. لا يحتاج تأكيد مصادر المعرفة الأصلية هذه الى أي مزيدٍ من التحقق منها، فهي بديهية. تستند جميع بُنى المعرفة الأُخرى على هذا الأساس المتين المُعطى مُباشرةً في التجربة.
ان اطروحات فيتغنشتاين المُختارة، مثل "العالم هو كل ما له مكان"، "العالم هو مجموع من الحقائق، لكن ليس مجموع من الأشياء"، "الحقيقة الذرية هي رابط بين الأشياء"، "الأشياء هي التي تخلق جوهر العالم، وبالتالي لا يُمكن للعالم أن يكون مُركبّاً"، نقول هذه الاطروحات ليست الا مُجرّد انطولوجيا مُعرّفة بشكلٍ غامض ولا تختلف عن انطولوجيا هيوم أو بيركلي: انها انطولوجيا "ألأحداث الذرية" المُعطاة في الحواس. يتمثل الاختلاف الوحيد، رُبما، أن الذرات في أنطولوجيا الكلاسيكيات تتصل بروابط ذهنية، في حين أنها تتصل، في الوضعية المنطقية، بروابط منطقية صرف.
تأخذ الوضعية بوثوق مذهب هيوم القائل بأن قوانين العلم لا تعني سوى تلازم مُعتاد للأحداث (تزامن وقائع)، وتنصب لنفسها مهمة إظهار صحة ذلك. استعارت الوضعية كذلك المفهوم التجريبي المُشار الذي يُسمى "المُلاحظة" باعتباره إجراءاً بدهياً بسيطاً لا يتطلب سوى التمييز بين مُلاحظة الأشياء، ومُلاحظة خواصها. المُلاحظة هنا ليست فقط نُقطة الادراك البدئية، ولكن أيضاً نُقطته النهائية، بما أن الطريقة الوحيدة للتحقق من صحة المعرفة هي عن طريق المُلاحظة.
وبالتالي، لن يكون من الصحيح اعتبار المذهب الوضعي خالياً من أي انطولوجيا. وتقول الوضعية بأن المُلاحظة هي شيء موجود بشكلٍ مُستقلٍ عن الانسان ووعيه. يبدو أن عالَم الفيلسوف الوضعي مُكوّن من أشياء مُنفصلة وغير مُتصلة يوحدها نوع ما من التقارب، والذي يُعتَبَر أمراً مفروغاً منه ولا يتطلب أي تفسير. هذه الحقائق المُستقلة منطقياً مُرتبطة ببعضها البعض من خلال علاقة التشابه فقط، كما أن الفرق بينها هو الشكل الوحيد لانفصالها عن بعضها.
وهكذا، يُمكن لأي كينونة أن تتغير دون التأثير على خصائص الكينونات الأُخرى، أو يُمكن أن تظل غير قابلة للتغير على الرغم من كل البدائل المطروحة. ومع ذلك، هذه ليست المُقدمة التي ينطلق منها الوضعيون، بل هو الاستنتاج الناجم عن الاستقلال المنطقي لعبارات الحقائق.
كُل الحقائق، في مذهب آير، هي حقائق خاصة أو تُمثّل تزامناً لأحداثٍ مُنفصلة بحيث لا يُمكن أن يكون أي تعميم لمثل هذه الحقائق الا شكلياً بحتاً. ليس للسببية أي أساس تجريبي سوى التزامن والاقتران الدائم للأحداث، لإنه وفقاً لآير، لا يُمكن أن يكون هناك روابط واضحة بينها. وعلى ذلك، العلاقات بين الحقائق هي علاقات خارجية فقط. حتى لو تحدث المرء عن علاقات داخلية، فإن العبارة لا تعني سوى علاقة عناصر بسيطة تُكوّتى أجزاء من أشياءٍ أكبر. يرى آير أنه حتى لو كانت عملية تحديد عُنصر في النظام تتضمن بعض الاشارات الى عناصرٍ أُخرى، الا أن هذا لن يعني أنه يُمكن القول أنها مُرتبطة بالضرورة، وهذا بالضبط ما كان يُحاججه هيوم. ومن ثم، تتمثل مُفارقة تلك الوضعية، على الرغم من تصريحاتها المُستمرة حول الحاجة الى التغلب على الميتافيزيقيا وتخليص الفلسفة من الأساطير واليوتوبيا، تظل نفسها (أي التصريحات) ميتافيزيقية، وحتى أنها تظل نظاماً اسطورياً يُريد أن يُحل التخطيطات المنطقية التأملية للواقع الموضوعي محل عمليات الادراك الحقيقية.
ينطلق الوضعيون، من خلال دعواتهم الى انشاء منهج علمي معرفي صارم ومُطالبتهم بإزالة جميع الافتراضات المُسبقة من التحليل العلمي، ينطلقون من منظومة قِيَمية مُحددة للغاية تأسست في المعارك الايديولوجية السالفة ضد الميتافيزيقيا السكولائية. لقد أثبتت الوضعية تقاربها القوي البعيد في الزمان ولكن القريب في روحه، مع التقليد الكلاسيكي في الفلسفة والعلوم بشكلٍ عام، مُحاولين التوفيق بين نظرات لوك وهيوم، غير المتوافقة بطبيعتها.
ان الميتافيزيقيا المُتأصلة في الفلسفة الوضعية، غير القادرة على التحليل النقدي للذات، تجمع في ذاتها بعض السمات المُميزة لفلسفة القرن الثامن عشر الطبيعية وماديتها الميكانيكية، والتي تظهر بشكلٍ وضعيٍ يتخذ هيئة البساطة الشكلية واكتمالية المعرفة العلمية، مع مبادئ فلسفة هيوم وبيركلي المثالية الذاتية التي تقع في أساس اضفاء الوضعية صفة الاطلاق على الحقائق التجريبية والمُعتبَرة المصدر الوحيد والصحيح للمعرفة العلمية. فهيا بنا اذاً، نتبع نصائح الوضعية ونبتعد عن الميتافيزيقيا!
إن حيادية الفلسفة الوضعية المُعلن عنها على نطاقٍ واسعٍ ليست في الحقيقة سوى تلفيقية فلسفية تؤدي حتماً الى المثالية، تماماً كما أن التحرر المُعلَن من الميتافيزيقيا ليس سوى ستار دخاني لميتافيزيقيا حقّة. لاحَظَ لوسيان سيف Lucien Sève بحق، أن "الوضعية هي شكل نموذجي لانحدار الميتافيزيقيا التي لم تنجح بعد في ايجاد طريقها الى (المادية العلمية)"(21). من المنطقي أن التناقضات الداخلية المُتأصلة في عقائد الوضعية الأساسية الوضعية، ناهيك عن التناقض بين المُقدمات والاستنتاجات، لن تقود الوضعية الا من أزمةٍ الى أُخرى، وأن تُحفّز مُحاولاتها لإيجاد مخرج منها بمساعدة هذه النظرية المؤقتة أو تلك. كانت فلسفة العلم مُلزمةً في النهاية برفض البرنامج الوضعي للنضال ضد الميتافيزيقيا والتخلي عن مُحاولات التخلص من جميع المُشكلات العامة المُتعلقة بالوجود والطبيعة والمُجتمع والتفكير. ليس من المُستغرب اذاً أن الاتجاه نحو احياء "الميتافيزيقيا" قد ساد أخيراً في فلسفة العلم نفسها.

6- Moritz Schlick, Allgemeine Erkenntnislehre, Springer, Berlin, 1925
7- See Ludwig Wittgenstein, Tractatus Logico Philosophicus, Routledge & Kegan Paul, Ltd., London, 1949, p. 77
8- A. J. Ayer "The Elimination of Metaphysics", in: Philosophy Matters, Ed. by A. J. Lisska, Charles E. Merril Publishing Comp., Columbia, Toronto, London, Sydney, 1977, p. 236
أ- أي أنه لا يمكن استخلاص الدليل الإستقرائي من القضايا التحليلية، بإعتبارها لا تخبر بشيء جديد، طالما انها تستند إلى مبدأ عدم التناقض الذي يصف الواقع دون أن يضيف لنا معرفة جديدة. فحينما نقول ان (أ) هي (أ) لا نضيف معرفة إلى الموضوع، إذ المحمول هنا يمثل نفس الموضوع تماماً.
9- Rudolf Carnap, Logical Foundations of Probability, Chicago, 1951
10- Rudolf Carnap, The Continuum of Inductive Methods, Chicago, 1952
11- Rudolf Carnap, "A Basic System of Inductive Logic", in: Studies in Inductive Logic and Probability, Ed. by R. Carnap and R. Jeffrey, Berkeley, 1971
12- See Rudolf Carnap, "Inductive Logic and Rational Decisions", in: Studies in Inductive Logic and Probability, op. cit., pp. 5 31
13- A. J. Ayer, Language, Truth and, Logic Penguin Books, Ltd., Harmondsworth, Middlesex, England, 1978, p. 56
14- A. Ayer, The Central Questions of Philosophy, London, 1973, p. 4
15- Richard von Mises, Positivism. A Study in Human Understanding, Harvard University Press, Cambridge, 1951, p. 277
16- Richard von Mises, op. cit., p. 370
17- Paul Volkmann (1856 1938) was a professor of theoretical physics in Königsberg and wrote several philosophical works
18- V. V. Lesevich, Collected Works, Vol. 2, Moscow, 1915, pp 7 8 (in Russian
19- Ludwig Wittgenstein, Tractatus Logico Philosophicus, op. cit., p. 77
20- M. Schlick, "The Turning Point in Philosophy , in: Logical Positivism, Ed. by A. J. Ayer, The Free Press Glencoe, Illinois, 1959, p. 56
21- L. Sève, La philosophie française contemporaine, Editions sociales, Paris, 1962, p. 294

ترجمة لكتاب:
Naletov, Igor (1984). Alternatives to Positivism. trans by Vladimir Stankevich: Progress Publishers Moscow