الفيدرالية ... لتفتيت العراق أم لضمان وحدته ؟


داخل حسن جريو
2022 / 12 / 16 - 06:33     

الفيدرالية هي شكل من أشكال الحكم تقسم فيه السلطات دستوريا بين حكومة مركزية ذات صلاحيات واسعة بإدارة شؤون البلاد العامة ، وحكومات محلية (الأقاليم، الولايات) ذات صلاحيات محدودة بتصريف شؤون ولاياتها الداخلية ذاتيا. وتعد الأقاليم والولايات وحدات دستورية , لكل منها نظامها الأساسي الذي يحدد سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية لتسهيل إدارة الإقليم وتصرف شؤونه الداخلية. ويشترط لتشكيل الدولة الفدرالية وجود عدَة دول أو ولايات ذات هوية وطنية مشتركة ,وثيقة الارتباط ببعضها, ولدبها الرغبة في تأسيس دولة وطنية موحدة يتمتع فيها الجميع بحقوقهم المدنية .
فهل يا ترى أن شروط إعتماد نظام حكم فيدرالي متحققة فعلا في العراق حاليا ؟ , فالعراق أساسا دولة موحدة دستوريا منذ أكثر من مائة عام , بصرف النظر عن طبيعة نظام الحكم فيه , وليس العراق الآن مجموعة دول أو ولايات يراد توحيدها بدولة إتحادية فيدرالية أو ما شابه ذلك . ربما كان ذلك ممكنا عند تأسيس دولة العراق الحديث مطلع القرن العشرين عند تحرره من الهيمنة العثمانية, حيث كان العراق يومها , مكونا من ثلاثة ولايات هي ولايات البصرة وبغداد والموصل ,التي إستقطعت من بعضها إجزاء لصالح دول أخرى . فعليه ليس هناك ما يدعو لتفتيت العراق إلى ولايات مرة أخرى , ليصار فيما بعد لتوحيدها بدولة إتحادية فيدرالية.
ورب قائل يقول أن الفيدرالية تمثل حلا لمشكلة مزمنة , يعاني منها العراق منذ تأسيس دولته الحديثة عام 1921 وإلى يومنا هذا ,إستنزفت موارده البشرية والمادية , تمثلت بالتمرد الكردي ضد الحكومات العراقية المتعاقبة , بهدف الإنفصال عن العراق وإقامة دولة كردية خاصة بهم , مع العلم أنه لم يجر في العراق أي تمييز بين العرب والأكراد وسواهم ، بل ساهم الجميع ببناء دولة العراق بين موالين ومعارضين للنظم السياسية القائمة فيه بمختلف الحقب السياسية . ففي النظام الملكي العراقي تبؤ الأكراد أعلى الواقع الحكومية (رؤساء وزراء ووزراء وقادة عسكريين)، وتمتع الأكراد المعارضين لهذا النظام بمراكز قيادية في الأحزاب العراقية المعارضة للملكية. ركز الملك فيصل الأول على مفهوم "الهوية العراقية"، وحتى عندما حاولت بريطانيا استغلال الورقة الكردية فإن موقف الملك فيصل لم يتغير، بل إنه وافق على إصدار وثيقة رسمية بخصوص الأكراد. ربما كان دستور عام 1958 الجمهوري المؤقت الوثيقة الرسمية الأهم التي تم فيها الاعتراف الصريح بالوجود الكردي. فقد جاء في المادة الثانية منه أن العرب والأكراد شركاء في الوطن العراقي. وفي 11 مارس/آذار 1970 تحقق للأكراد حلمهم عندما تم تثبيت حقهم في الحكم الذاتي في الوثيقة التي أصدرتها الحكومة التي يقودها حزب البعث في العراق.وهو ما قد تحقق فعلا بإقامة منطقة الحكم الذاتي الكردية عام 1975 التي شملت محافظات أربيل والسليمانية ودهوك , متخذة من مدينة أربيل عاصمة لها . وكان للمشروع قابلا للتطور في ضوء ما تفرزه ممارسة تطبيقه لو قدر للمنطقة الإستقرار في حينه .
وبرغم ما مر به العراق من تقلبات وصراعات وحروب لم يتغير حال الأكراد , حيث إستمروا بإشغال مواقع قيادية في الدولة ( رئاسة الجمهورية ووزراء وأعضاء مجلس نواب ومواقع قيادية مدنية وعسكرية رفيعة). كان العراق الدولة الوحيدة بين الدول التي يسكنها الأكراد التي تعترف بالوجود الكردي. ولم يمنع الأكراد من استخدام لغتهم ومن حقهم في التمسك بهويتهم القومية، في حين أن تركيا وإيران ينكرون على الأكراد كل شيء يشير إلى هويتهم الكردية المتميزة.
من ذلك نخلص أن لا وجود لتعسف قومي للأكراد في العراق في مختلف العهود , وأن حالهم كان حال مواطنيهم العراقيين من القوميات المختلفة في السراء والضراء , وأن ما تعرضوا له من تعسف لا يختلف عما تعرض له الأخرون المعارضون للحكومات العراقية سواء بسواء . ومما يؤسف له حقا , أن التمرد الكردي قد إستخدم من أطراف دولية وإقليمية كورقة ضغط ضد الحكومات العراقية المتعاقبة لأسباب مختلفة, تارة لإضعاف النظام الجمهوري الأول الذي إعتبرته كل من إيران وتركيا , نظاماً شيوعياً مهدداً لأمنها، وتارة لإضعاف الأنظمة الجمهورية اللاحقة ,بوصفها أنظمة قومية عربية لا تقل خطراً عن الشيوعية. أما "إسرائيل" فقد حرصت منذ البداية على دعم الحركة الكردية المسلحة بكل الوسائل وصولاً إلى إرسال الأسلحة والمدربين، لإضعاف الجيش العراقي وإعاقة مساهمته في أي مواجهة عسكرية مستقبلية بينها وبين الدول العربية. ثم وصل الأمر إلى أن تلعب الخلافات العربية دوراً مسانداً للحركة الكردية أيضاً عندما اشتدت هذه الخلافات . وبمرور الوقت فقد إزداد إعتماد القوى المعادية للعراق على إنعاش الحركة الكردية لتمزيق الوحدة الوطنية. ويكفي أن نشير هنا إلى إنهيار التمرد الكردي السريع عام 1975 بعد توقف الدعم العسكري الإيراني لهذا التمرد, بموجب إتفاقية الجزائر المعقودة بين الحكومتساة العراقية والحكومية الإيرانية في عهد الشاه محمد رضا بهلوي . وهو ما يؤكد عدم جواز الإعتماد أو الإتكاء على دعم القوى الأجنبية التي لا يهمها في المقام الأول سوى مصالحها .
نعود إلى موضوع الفيدرالية , ونتسائل هل أن النظام القائم حاليا في العراق , نظام حكم فيدرالي حقا كما يحلو لمناصريه تسميته ؟. نقول لا أن دولة العراق الحالية, هي دولة اللانظام التي ينخرها الفساد وتعم فيها الفوضى وتتعدد فيها مراكز القرار والنفوذ, وضياع المسؤولية وعدم المحاسبة .
جاء في المادة (1) من الدستور العراقي : "جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي. وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق".
وهنا نتساءل من هي أطراف الدولة الإتحادية إذا كان العراق أساسا دولة واحدة ولم يكن يوما دولا متعددة, توحدت في دولة واحدة كما حصل ذلك في أتحاد ماليزيا أو الإمارات العربية المتحدة ؟ . وإذا ما إفترضنا أن العراق دولة فيدرالية إتحادية , فهل تستطيع الحكومة الإتحادية فرض نفوذها وممارسة سلطتها الدستورية بموجب صلاحياتها الدستورية في إقليم كردستان كأي حكومة إتحادية في العالم ؟ وهل يستطيع المواطنون العراقيون من سكنة المحافظات العراقية العيش والتنقل في محافظات الإقليم بحرية , بل هم بحاجة إلى كفيل كردي ضامن أسوة بما هو معمول بدول الخليج العربي تجاه الوافدين الأجانب ؟ بل نذهب أبعد من ذلك هل يستطيع رئيس الوزراء العراقي محاسبة أي موظف بأي درجة وظيفية كانت في حكومة الإقليم ؟ وماذا عن ثروات الأقليم من نفط وغاز وغيرها التي تتصرف بها حكومة الإقليم على هواها بينما هي ملك الشعب العراقي بأسره ؟ , كما لا تخضع منافذ الإقليم البرية والجوية لسيطرة الحكومة الإتحادية على الرغم من المخاطر الأمنية التي قد تنجم عنها ما يهدد أمن العراق ؟. وهل تستطيع الحكومة الإتحادية مطاردة المجرمين المطلوبين للعدالة الفارين إلى إقليم كردستان ؟ .نكتفي بهذا القدر من التساؤل إذ أن قائمة التساؤلات تطول .
يعتقد كثيرون أن موضوع الفيدرالية أريد به أن يكون مدخلا لتفتيت العراق لا لتوحيده , وكانت الأحزاب السياسية الكردية بمختلف توجهاتها في مقدمة المروجين لذلك , ظنا منها أن ذلك سيمهد لتحقيق حلم الكرد الأزلي بتأسيس دولة كردستان . وهنا نقول أن لا ضير في ذلك إذ أن من حق أي شعب تقرير مصالحه ,بشرط عدم إلحاق الضرر بالإخرين لاسيما ممن شاطروهم العيش في كنف وطن واحد قرونا طويلة .ولا نرى أن هناك أية ضرورة لقيام البعض بتأجيج الحقد والكراهية والضغينة بين أبناء الوطن الواحد , أو الإرتماء في أحضان أعدائهم نكاية بهم دون مبرر .ويتوهم كثيرا من يعتقد أن إضعاف العراق سيصب في مصلحته.
وثمة سؤال آخر يتبادر إلى الذهن , هل بإمكان الكرد تأسيس دولتهم العتيدة في ظل الظروف الدولية الراهنة ؟ الجواب بكل تأكيد أن ذلك غير ممكن أبدا , فالمنطقة الكردية منطقة مغلقة برا وجوا ومحاطة من جميع جهاتها بدول معادية لمشروع الدولة الكردية , فكيف لهذه الدولة المنشودة التواصل مع العالم الخارجي . فالحلم الكردي حلم عسير لا يمكن أن يرى بصيصا من النور إلاّ بالتعاون وبناء جسور الثقة والمودة وتبادل المنافع مع إحدى دول جوار الإقليم الكردي في الأقل . وتبقى بوابة العراق هي البوابة التي قد يتحقق عبرها بعض مطامح الكرد إذا ما أحسنوا التفاهم مع مواطنيهم العراقيين بعامة ومن العرب والتركمان بخاصة . وهذا يتطلب تصحيح الوضع السياسي القائم حاليا في العراق , بإقامة حكومة عراقية رشيدة بعيدة عن أشكال المحاصصة الطائفية والإثنية ومداخلات الدول الإقليمية والدولية , همها الوطن والمواطن , ديدنها الحق والعدل والمساواة بين المواطنين بصرف النظر عن إنتماءتهم الأثنية والدينية والطائفية , والإيمان بوحدة العراق أرضا وماءا وسماءا , وعدم الإستقواء بقوى إقليمية ودولية لتحقيق مصالح آنية ضيقة , فمصلحة العراق يجب أن تكون فوق جميع المصالح , فالعراق ياق بإذن الله , وهم زائلون طال الزمن أم قصر.