روسيا و - بؤس الفلسفة الدوغينية -


رضي السماك
2022 / 12 / 12 - 20:38     

غداة مقتل ماريا دوغين في تفجير سيارة والدها التي كانت تقودها وحدها دون مرافق، في آب / أغسطس الماضي،سلطت وسائل الإعلام العالمية، والغربية منها بوجه خاص.. سلطت مجدداً على شخصية من يُسمى الفيلسوف الروسي الكسندر دوغين، وأعتبرت أن الأخير هو المستهدف من قِبل المخابرات الأوكرانية؛ لما له من تأثير هائل على سياسات الرئيس فلا ديمير بوتين، وبضمنها قراره بشن الحرب على أوكرانيا. ذلك بأن وسائل الأعلام الغربية والمحللين الغربيين، كانوا يشيعون على نطاق واسع ومتكرر بأن دوغين هو بمثابة عقل الرئيس فلاديمير بوتين، أو مستشاره الخاص في صناعة القرارات ورسم السياسات، وأنه هو من رسم له مشروع استرداد أوكرانيا أو اطاحة نظامها السياسي بالقوة العسكرية، وذلك لما تربطه من علاقات حميمة مع الرئيس بوتين . ولم يكن دوغين في واقع الحال- بأفكاره القومية المتطرفة- بعيداً عن فكرة غزو أوكرانيا التي كانت تختمر في عقل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو الآخر، منذ رئاسته الأولى مطلع الألفية، وإن كان ما اُنجز عسكرياً حتى الآن لا يرقى إلى الغزو الكامل بل ثمة بوادر على الأنهاك الروسي جراء إطالة أمد الحرب غير المتوقع من قِبل موسكو بين كر وفر. على أن دوغين وإن تبنى أفكاراً قومية متشددة لا واقعية و تلتقي أكثرها مع أفكار وطموحات رئيسه بوتين، فإنه من الصعوبة بمكان الأستنتاج بأن هذا الأخير قد أتخذه رسمياً مستشاراً أو مفكراً له، حتى أن دوغين نفسه نفي في العديد من المقابلات الإعلامية التي اُجريت معه بأنه مستشار الرئيس، وإن كان الرجلان -كما هو معروف- يلتقيان إذا ما أستدعت حاجة الرئيس بوتين إليه دون الإعلان عن ذلك إعلاميا.
مهما يكن فإن "الفيلسوف" دوغين يرى في نفسه مفكراً ومنظراً كبيراً لفلسفة جديدة جديرة بأن تتبناها بلاده روسيا في أعقاب أنهيار الأتحاد السوفييتي، كبديل عن الفلسفة الماركسة التي قام عليها النظام الإشتراكي السابق، ويطلق على فلسفته" النظرية الرابعة"، وهو يرى هذه النظرية ملائمة للشعب الروسيي، كبديل عن النظريات الثلاث: الشيوعية والفاشية القومية والليبرالية،واللاتي تصارعت طوال القرن العشرين،وأن التحالف الليبرالي- الشيوعي أنتصر في الحرب العالمية الثانية،على حد تعبيره، ثم يضيف : إن الليبرالية أنتصرت على الشيوعية عند أواخر القرن الماضي، لكن العالم الآن يعيش في ظل أيديولوجية واحدة هي الليبرالية، مستطرداً: وهذه أيديولوجية أستعمارية لاتلائم قيم وتقاليد وأفكار شعبنا الروسي الأرثوذكسية، بما في ذلك قيمه عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي اُضيفت إليها الدفاع عن حق "المثليين" . كما يرى دوغين أنه إذا ما أرادت أية دولة التخلص من النظام العالمي الحالي ذي القطب الواحد المهيمن على مقدرات العالم، ممثلاً في الولايات المتحدة، فإنه ينبغي عليها أن تتبنى وتتشبث بنموذجها الحضاري الخاص المستقل .
بيد أن المفارقة غير الواقعية في بنية الفكر الدوغيني، أو فيما أسماها "نظريته الرابعة"إنما تكمن في أوهام نزعتها التوسعية المستترة بشعار ما أطلق عليه "الفضاء الأوراسي"، ويُقصد به بلدان ما عُرفت سابقاً بالمنظومة الاشتراكية وجمهوريات الأتحاد السوفييتي السابق. كما يرى دوغين بأن بلدان هذا الفضاء مهيئة جميعها لتقودها روسيا من جديد في ظل نظامها الرأسمالي الحالي ،و ليس تحت راية "نظرية الماركسية"، كما كان الحال زمن الأتحاد السوفييتي، وفق النظرية الاشتراكية الماركسية، والتي سبق أن أنتقدها وحمّلها مسؤولية أنهيار الأتحاد السوفييتي، وإنما تحت راية أفكار نظريته الجديدة التي يعتبرها بمثابة خشبة الخلاص والتقدم لروسيا والدول الأوراسية مجتمعةً. أما كيف سيتحقق ذلك؟ أوكيف ستقتنع شعوب تلك البلدان بمشروع هذه الوحدة الجديدة؟ فهذا مالا يجيب عليه مفكرنا العظيم دوغين في نظريته وأفكاره،بل لا يبدو مكترثاً أصلاً بتقديم مبررات موضوعية تُقنع من يساجله في هذى الفكرة!
وهو لا يخفي أيضاً أستخفافه بأستقلال أوكرانيا عن روسيا، حيث ينظر إليها "كياناً مصطنعاً أو "شبه دولة" أصطنعها الأطلسيون، ومن ثم ينبغي إعادة ضمها بالكامل إلى روسيا، وبعد فترة قصيرة من شن رئيسه الحرب على أوكرانيا في شباط/ فبراير الماضي، أعرب دوغين عن ثقته القوية بانتهائها بانتصار بلاده المؤزر المحتوم،وأن الهزيمة حسب زعمه غير واردة البتة، وأن روسيا ستقاتل فيها حتى الرمق الأخير، ملمحاً باستخدامها السلاح النووي؛ إذا ما هُوجمنا به -على حد تعبيره- من قِبل " الناتو"! مضيفاً: "إن وجود البشرية بدون روسيا قوية ذات سيادة أمر محال". ويعكس الرثاء الذي عبّر عنه بُعيد مقتل ابنته ماريا فكره المشبع بالعظمة القومية الروسية: " لا تتوق قلوبنا إلى الثائر أو الأنتقام، وهذا تافه تماماً وغير روسي للغاية، إننا بحاجة إلى انتصارنا، فعلى مذبح النصر ضحت طفلتي بحياتها".
ولعل من تابع بتمعن خطاب الرئيس بوتين في نهاية أيلول/ سبتمبر الماضي بمناسبة إعلانه ضم الأقاليم الأوكرانية الأربع، دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابورحيا، إلى روسيا لمس بوضوح ما يعبّر عنه ذلك الخطاب في الكثير من فقراته عن روح "الفلسفة الدوغينية" . وهكذا فبدلاً من أن يتبنى هذا الفيلسوف الجديد دوغين -على الأقل- أفضل ما في الليبرالية والاشتراكية من قيم إنسانية في الحرية والمساواة الاجتماعية ، وجدناه يروّج لفلسفة بائسة من الأفكار القومية الشوفينية، هي أبعد ما تحتاج إليها روسيا اليوم بعد أنهيار الأتحاد السوفييتي، بل وأبعد من أن تكون جاذبة لشعوب جمهورياته السابقة وفضائه" الأوراسي"! أكثر من ذلك فإن دوغين لا يخفي تعاطفه مع النظام القيصري السابق، رغم كل ما جلبهمن كوارث سياسية واقتصادية واجتماعية لحقت بالشعب الروسي وشعوب الأمبراطورية القيصرية على مدى قرون، ولم تتخلص هذه الشعوب من هذا النظام الأستبدادي الفاسد إلا بفضل ثورة اكتوبر الاشتراكية 1917، ومع ذلك لا يجد دوغين أية غضاضة من الأعتزاز الشديد بأمجاد القيصرية التاريخية، جنباً إلى جنب مع تباهيه بأمجاد الأتحاد السوفييتي العسكرية، حتى في ظل نقده وأختلافه الشديد مع أيديولوجية هذا النظام الأخير، بل لايتورع دوغين عن تأييده الصريح لإقامة نظام شمولي دكتاتوري في روسيا يرأسه بوتين مدى الحياة !
والحال أن نظرية دوغين إن هي إلا توليفة سطحية، أو خلطة سريعة التحضير مزيجة من الأفكار والشعارات القومية والدينية، ولا يمكن أعتبارها، بأي حال من الأحوال، منهاجاً لإقامة حياة سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة تسهم في نهوض روسيا من كبوتها منذ انهيار الأتحاد السوفييتي،بل تقودها لمستقبل قاتم ولمغامرات غير محمودة العواقب، وهي تذكرنا تاريخياً بالنظرية التي صاغها في أربعينيات القرن التاسع عشر بيير جوزيف برودون،التي كانت تركيبة من الأفكار الأشتراكية الفوضوية المتناقضة وذات الطابع اليوتويوبي غير القابلة للنجاح على أرض الواقع، ومع ذلك فقد كانت في زمانها أكثر تطوراً نسبيا، من نظرية دوغين الجديدة. وقد صاغها بوجه خاص في مؤلفه "فلسفة البؤس" وكذلك في كتاب " خلق النظام في البشرية".وكان يدعو -على الأقل- إلى نظرية تحقق العدالة الاجتماعية من خلال أشتراكية ترتكز على الملكية الصغيرة للطبقات الوسطى، كما يدعو إلى تطمير الدولة مقدماً، كشرط لأي إصلاح اجتماعي حقيقي.
على أن مؤسس نظرية الاشتراكية العلمية كارل ماركس تصدى لها مقوّضاً البناء الفكري الهش التي تقوم عليه أفكار برودون في كتابه " بؤس الفلسفة" حيث رد فيه على كتاب برودون" بؤس الفلسفة"، وربما لولا كتاب ماركس لما كان لبرودون ذكر في تراث له وزن يُذكر في الفكر الإنساني المعاصر. لكن الفارق بين دوغين وبرودون، أنه في حين هذا الأخير تبنى على الأقل جملةً من الأفكار الاشتراكية ولقي حظوظاً ما في تقبلها لدى بعض الشباب الفرنسي والأورووبي المغرر بهم، وكانت حافزاً لمؤسس النظرية الأشتراكية كارل ماركس على تأليف واحد من أهم أعماله الفكرية التي مازالت مفيدة في عصرنا، فإن الأول لا يعبّر عن معاداته الصريحة للاشتراكية فحسب، بل ولمجمل ما في قيم ومبادئ حقوق الإنسان من محاسن لكل البلدان ، والتي هي من حيث المبدأ نتاج ومزيج حضاري تاريخي لقيم الحضارات الإنسانية لا الغربية فقط، بل ولم تكن صياغة العديد منها بعيداً عن تأثير الفكر الاشتراكي والمعترك الفكري التاريخي الذي جرى بينه وبين الفكر الرأسمالي، إذ لا يمكن للغرب الرأسمالي الزعم بأنها من صميم لبنات أفكاره وأيديولوجيته وحده فقط. عدا ذلك فإن الرأسمالية نفسها لطالما ضربت هذه الشعارات والقيم الإنسانية التي تدعي أحتكارها بعرض الحائط.
والحق فإن ما تحتاج إليه روسيا اليوم أكثر من أي وقت مضى ومعها جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق ودول المنظومة الاشتراكية السابقة والتي أطلق عليها دوغين " الفضاء الأوراسي" نقول أن ما تحتاج إليه هذه البلدان مجتمعة والتي هي أول من خبِر وجرّب منافع العدالة الاجتماعية في ظل النظام الاشتراكي الماركسي، رغم كل ما وقع فيه هذا النظام من أخطاء قاتلة أفضت إلى أنهياره بعد عقود طويلة، هو فكر تجديدي لهذا للفكر يستفيد من تلك الأخطاء القتلة، وبما يلائم ما مر به عصرنا من تطورات هائلة في قرننا الحالي، استناداً إلى حيوية الماركسية، مع التمسك بثوابت مبادئها كمنهاج للنظام الاشتراكي الجديد، وهذا لن يتحقق إلا من خلال الأنخراط في طريق نضالي طويل يضطلع بانتهاجه الشيوعيون وكل القوى اليسارية في تلك البلدان ومن لها مصلحة في تغيير الأنظمة الحالية التي اُقيمت بمباركة ودعم الأنظمة الرأسمالية وعلى رأسها النظام الأميركي .