كتاب -هجرة الأفكار-: التلاقح الحضاري كرؤية بديلة للصدام بين الحضارات


صلاح الدين ياسين
2022 / 12 / 11 - 14:58     

كتاب من تأليف البروفيسور "جلبرت هايت"، أطروحته الرئيسية مفادها أنه ليس ثمة حضارة بشرية قائمة أو مكتفية بذاتها، باعتبار أن كل حضارة تتغذى من حضارة أخرى، ومن ثم فإن المنهج الأمثل لدراسة التاريخ هو رصد حركة انتقال الأفكار وهجرتها من موضع إلى آخر، ومن حقبة زمنية إلى أخرى: "إن فترة تقدم الحضارة هي فترة تنتقل فيها الأفكار بحرية من عقل إلى عقل ومن بلد إلى آخر، ومن الماضي إلى الحاضر. أما العصر البربري، والبلد الهمجي فهما اللذان يحاولان شل الاتصال، وحبس الأفكار"
نماذج ملهمة لانتقال وهجرة الأفكار
استهل مؤلف الكتاب حديثه بشأن النماذج المعبرة عن التمازج والتلاقح الفكري بإحدى الحضارات الرائدة في عالم اليوم وهي اليابان، بحيث عرفت تلك الدولة تغييرا جذريا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر انعكس في تليينها للتقاليد المتجذرة ذات الصلة برفض الأجانب وكراهيتهم، من طريق انفتاحها على العالم الغربي عبر إيفادها لبعثات طلابية إلى دول الغرب، واستقطابها للكفاءات الأجنبية في مسعى لتملك ناصية المعرفة والعلوم واللحاق بالركب الحضاري، دون النيل جذريا من خصوصيتها الثقافية والاجتماعية. وهكذا فقد أصدر إمبراطور اليابان في العام 1868 مرسوم القسم، الذي تعهد من خلاله بإصلاح أحوال الشعب، إذ ورد في عبارته الأخيرة: "سنبحث عن المعرفة في جميع أنحاء العالم".
ويصدق ما سبق على الرومان الذين متحوا من مناهل الحضارة الإغريقية بعيد غزوهم لليونان في القرن الثاني ق. م، حيث أخذوا من الإغريق شغفهم بالعلوم والفنون والفلسفة وكَلفهم الشديد بالحكمة، وأضافوا إلى حضارتهم مزايا أصيلة عند الرومان، لا سيما فيما يتعلق بالقانون والدين وحسهم الوطني المرهف، إلى جانب تقديرهم للمسؤولية. كما أن الأمم الأوروبية تدين بالكثير من الفضل للرومان الذين أسهموا في تحضيرها: "فقد وجدتهم روما قبائل مبعثرة تعيش في العصر الحديدي الأول، أميين فقراء.. فعلمتهم في حقب قليلة، الزراعة والتجارة والفن المعماري والصناعة، كما علمتهم في حقب أخرى، القانون والفلسفة والأدب والدين..."
وسرعان ما يتبدد الانطباع الذي يساور القارئ بأن الكاتب من دعاة المركزية الغربية والتفوق الحضاري للعالم المسيحي، حين يشير إلى فضل الحضارة العربية على الأمم الأخرى، وبخاصة إسبانيا، التي ما تزال مشدودة إلى الإرث العربي والإسلامي، وهو ما يمكن تبينه في الغناء والشعر الإسباني، وبعض العادات الاجتماعية الأخرى: "وكان العرب أكثر حضارة في ذلك الوقت، ومن المحقق أن حضارتهم كانت أكثر تماسكا، وكان العرب يحبون الموسيقى، والشعر، والملابس الجميلة، والعمارات الفاخرة، والحدائق، والأثاث الفخم، والفلسفة. وفي غضون أحقاب قليلة، اعتنق كثير من الاسبان الإسلام، حتى أولئك الذين استمسكوا بالمسيحية كانوا يرتدون الثياب العربية في بعض الأحايين، ويعجبون بالجمال العربي، وطريقة العرب في الحياة..."
حوافز التلاقح الحضاري وحدوده
لقد اهتم علماء النفس والاجتماع باستكشاف الدوافع والحوافز التي تحمل أفراد جماعة اجتماعية معينة إلى قبول أفكار أجنبية وغريبة على ثقافتهم، ومن بين تلك الدوافع التي توصلوا إليها دافع الخوف، فالخوف من التعرض لغزو الأجانب كان وراء انفتاح اليابانيين على الأجانب، بغية تحصيل أسباب القوة والمناعة الذاتية، هذا إلى جانب حافز الكبرياء، ذلك أن الإلمام بأفكار أجنبية يضفي على الفرد المنتمي إلى جماعة أو بيئة داخلية الإحساس بالتفوق على أقرانه والشعور بامتلاك ثقافة رفيعة، دون إغفال حافز المتعة، الذي يبرز في السعي إلى تملك وسائل الراحة والرفاهية المستورَدة، كالإقبال الواسع على استهلاك شتى وسائل الترفيه مثل إصدارات السينما العالمية. كما قد ينحصر الدافع في الفضول المعرفي أو العلمي لذاته، دون أن يكون مصحوبا بأحد الحوافز السابقة.
غير أن عملية التمازج الحضاري التي تعد حقيقة تاريخية يصعب دحضها، تظل رهينة بمدى ونطاق المشتركات الموجودة بين ثقافتين أو ثقافات متعددة، من حيث الاتساع أو الضيق، ويسوق الكاتب مثالا على ذلك بالفروق الهائلة بين ثقافة الأمريكيين البيض وثقافة الأمريكيين من أصول أفريقية كأحد العوامل التي تصعب الاندماج الاجتماعي والثقافي في الولايات المتحدة الأمريكية. ومن جهة ثانية، يقر علماء الأنثروبولوجيا بصعوبة التأثير في الجوانب غير المادية للثقافة مقارنة بجانبها المادي، بدليل ما نعاينه في عالمنا العربي والإسلامي، الذي يتهافت على أحدث الابتكارات والاختراعات الغربية في مجالات التقانة ووسائل التسلية والترفيه، بينما يصم آذانه عن القيم والمفاهيم المنتمية إلى منظومة الحداثة الغربية، بدعوى تعارضها مع الخصوصية الثقافية والمحلية، ومن هنا يمكن أن نلمس الفارق بين العصرنة أو التحديث المادي السطحي، من جهة، والحداثة التي تحيل إلى إصلاح عميق يطاول منظومة الأفكار والوعي الاجتماعي، من جهة أخرى.
ومن منطلق اعتداده بالإرث اليوناني والروماني ودورهما في ازدهار الحضارة الغربية، لا يخفي مؤلف الكتاب حسرته عما آلت عليه أحوال الثقافة الغربية، التي فقدت عمقها وامتدادها التاريخي، نتيجة لنزوع العديد من دعاة الحداثة إلى قطع الصلة بالمعارف والفنون الأدبية الكلاسيكية، الشيء الذي يفسر فشو الرداءة والتفاهة في غير قليل من التعبيرات الفنية والأدبية الغربية، بفعل انتشار اعتقاد مغلوط مؤداه أن شرط الحداثة والتقدم هو اجتثاث الجذور التي تصلنا بماضي أسلافنا.